أهم أقسام المدونة

الصفحات

الاثنين، 3 فبراير 2014

الرمح المكسور


الرمح المكسور 

نكّست رأسها وقالت بصوت مضطرب:
-  ما زلتُ متيمة بحبه، حتّى وإن كان يُهملني.

سحقت الغيرة قلبه سحقا وهو يسألها بعذاب:
-  وأنا؟

ترددتْ لحظةً قبل أن تهمهم بخفوت يحمل لُكنة اعتذار:
-  أنت كنتَ وسيلتي اليائسة لإثارة غيرته.. كنتَ الرمح الذي سأطعن به قلبه الجاحد.

عقّب وسخرية مريرة تسيل من جراح كرامته:
-  الرمح المكسور!
***

يا لها من رقيقة!
يا لها من رحيمة!
يا لها من ملاك يمسّ القلوب بأناملَ من نور فتندمل جراحها!
هي التي عشقها من أعماق قلبه، ورسم لها في مخيّلته أروع وأكمل الصور.. الآن لا ترى فيه غير رمح مكسور تستخدمه للانتقام من شخص جرحها!
ذهول مخيف يعصف بعقله..
إنّها ليست له.. هذه مصيبة.
إنّها لرجل غيره.. هذه كارثة.
إنّها تعلم بمشاعره منذ أمد دون أن تأبه.. هذه طامّة.
إنّها تستخدمه مجرّد رمح تثأر به.. هذه جريمة!!
وكلّ ما قالته له كان بهتانا وزورا.. كذبا وتدليسا.. زيفا وهراءً.
وحينما مدّت أصابعها الناعمة الدافئة.. لم يكن إلا لتقبض على رمحها الفتاك!
وحينما أشارت إلى الأفق حيث ينبلج الأمل.. لم يكن إلا لتوجهه في طعنة غادرة!
وحينما خدعته الأماني فباح لها بحبّه، خارجا عن الإطار الذي رسمته منذ البداية.. هنا فقط قالت له في أناقة:
-  شكرا لك، يكفيني هذا.. ما أنت إلا رمح مكسور!
***
كان قلبه مرجلا، يستعر بجمر العشق والغيرة والغضب والكرامة الجريحة.
لم يعرف هل يجب عليه أن يكرهها، أم أن يقتلها بالنسيان، أم أن يثأر منها، أم أن ينتزعها لنفسه بالقوة ولو رغما عنها!
هكذا أقسم إنّه عرف أخيرا معنى كلمة إعصار، فقد عاش واحدا من أعتاها في أصفى أيام الربيع!
كان يقهقه فتتناثر دموعه كالنافورة.. ويبكي وعلى شفتيه بسمة ساخرة!
باختصار: كان على شفا الجنون.. إن لم يكن جنّ بالفعل!
***
أرسل لها رسالة قال فيها: 
قلبي عاصف بالرياح يا حبيبتي..
رياح متخبطة تهب من كل اتجاه، فتثير الزوابع وتبعثر كلّ شيء..
لم أعد أعرف من أنت.. لم أعد أعرف من أنا!
حتّى هذه الكلمات لم أعد أعرف لها معنى!
هل أنا غاضب منك لأنك تتلاعبين بمشاعري؟.. لأنك منذ أوّل وهلة عرفتِ أنني ذبت فيك عشقا، وأن كلّ خفقة في قلبي كانت لك؟
أم أراني غاضبا منك لأني أغار عليك إلى حد الجنون؟
أم أراني غاضبا من نفسي أنا لأني عاجز.. لأني لا أستطيع أن أهزم متاريس قلبك وأسبيك لي وحدي، وأحبسك في قضبان من الغيرة تكفيك بالكاد لالتقاط أنفاسك؟
أم أراني أكرهك بعد أن استسهلتِ خداعي وجرحي؟
أم أراني أرفض أن أظلّ أسيرا في مدارك، وأنا الذي اعتاد الانطلاق بدون قيود؟
أنا حائر جدا.. لا أدري كيف سقطت في هذه الهُوة، وأنا الذي اعتد دوما بحصافته وقوة قلبه، فإذا بقلبه يودي به إلى متاهة لا أوّل لها ولا آخر!!
نعم.. لا يمكن أن أحتمل كلّ هذه الغيرة.. إنّ نيران الغيرة والغضب تحرق قلبي كلما رأيت نظراتك التائهة تبحث عنه في غفلة منه.. كلما شعرت أنّه يحتل مكانا كان من المفروض أن يكون مكاني أنا.
فماذا أفعل بالله عليك؟.. أشيري عليّ أرجوك.
***

 قالت له عبر الهاتف، في لهجة تحمل الكثير من الاعتذار:
-  لا أمل لك.. سامحني، قلوبنا ليست بأيدينا.
هذا ينطبق عليّ أيضا.. أم أن قلبي أنا بيدي والمفروض أن أضغط زرا سحريا ما فأستيقظ غدا وقد نسيتك؟.. وكأنّك لم تمتزجي بروحي يوما، ولم تكوني لي أنفاس الحياة!
-  [باضطراب] إنّني أقدّر مشاعرك.. لكنني لا أستطيع مساعدتك.
-  يا للرقة.. تخيلي: كنت أحتاج لكلماتك هذه بالضبط حتّى تجبر كسوري وتضمد جروحي وتلملم أشلاء كرامتي!
-  [زفرت بضيق] لا داعي لتأنيبي.. لقد حدث ما حدث وانتهى كلّ شيء بالفعل!
-  من قال ذلك؟.. الأمر لم ينتهِ بعد، وإنّي لأظنّه بدأ للتو!
-  ماذا تعني؟
-  [بغضب] أعني أنني متورط الآن في هذه المتاهة، وما بدأتِه أنتِ بإرادتك يؤسفني أن أقول لك إنه لن ينتهي بإرادتك.. ذلك الذي يحدثك الآن ليس مجرد لعبة لتتلاعبي بمشاعره في لحظة انتقام، ثم تقولي له: "شكرا، اخرج من عالمي، دورك انتهى".. لأنه ببساطة يملك قلبا مفتونا بك لو كان من الممكن أن تنتبهي إلى هذا!.. لهذا لا تحلمي أن تخرجي من ورطتك هذه ببضع كلمات ودمعة أسف ما زلتِ ضنينة بها حتّى الآن!!.. فأنا باق يا عزيزتي في هذا المثلث الدامي حتّى النهاية.. فإما أن تخبريني يوما أنّك عدت إلى ذلك المحظوظ الغافل عن كنزه الذي فرّط فيه، وإمّا أن تخبريني أنّك أحرقت كل ذكرياته في نفسك إلى الأبد.
-  [بحدّة] لا أدري لماذا تصر على مواصلة حرب خاسرة.. قلت لك إنه لا أمل لك.. لا يمكن أن أحبّك يوما!
زفر بعنف، وحاول السيطرة على أعصابه، قبل أن تتسلل السخرية إلى صوته وهو يسألها:
-  ولا حتّى كرمح؟
-  رمح مكسور كما قلتَ؟!
-  التأم الكسر، وعاد الرمح أصلب وأصلد وأعند مما كان.
-  تهدد بطعني؟
-  ما زلتِ عندي أغلى من أن أجرؤ على مجرد التفكير في ذلك.
-  فمن ستطعن إذن؟
-  نفسَ الشخص الذي هجرك وأسال دماء قلبك ودموع عينك، وما زلتِ رغم هذا تصرين على استعادته.
-  [بارتباك] إنني أحاول إيذاءه فحسب.. من قال إنني أحاول استعادته؟
-  قلتِ توا إنّك تحبينه، ولا تملكين قلبك.
-  أجل، ولكنّ كرامتي أقوى من حبي له.
-  إذن فقد اتفقنا.
-  علاما؟
-  على إيذائه وطعنه عقابا له على جرح قلبك الملائكي النبيل!!
-  [بضيق وضجر] هل ستظلّ تلمزني هكذا طويلا؟
-  [بتهكم] أنا؟!!.. حاشاي يا أرقّ إنسانة في الوجود!
-  [بصوت غاضب تخنقه العبرات] أنت لا تعرف قلب المرأة حينما يطعنه حبيب.
-  [بسخرية] وأنّى لي أن أعرف؟!!
-  [بحدة] لم أتعمّد إيذاءك، قلت لك مرارا.. لم أكن في وعيي حين فعلته.. وعلى كلّ حال أنا آسفة للمرة الألف.. وأظنّه من الخطأ الجسيم أن نستمر في حصار أنفسنا في دائرة التجريح هذه.. وداعا.
ووضعت السماعة في عنف، فابتسم قائلا بمرارة:
-  لم تعد الأمور بهذه البساطة يا ذات القلب الرحيم!!.. لقد وعدت ولن أحنث أبدا: إمّا أن أعيده إليك راكعا باكيا نادما، وإمّا أن أنتزعك من مستنقعه خالصة لي.. وسترَين.
***
سألته بتهيب:
-  هل.. هل أنت غاضب؟
-  أنا؟.. حاشَ لله.. وماذا يا ترى يمكن أن يغضبني؟
-  [باستياء] ألن تكفّ عن هذه السخرية الجارحة؟
-  لم أكن رمحا إلا لأجرح.. ألستِ أنتِ من جعلني كذلك؟
-  حسنا أيها الرمح.. هل ستظلّ تستعرض مهاراتك معي أنا وحدي للأبد؟
-  ماذا تعنين؟
-  أعني أننا اتفقنا على هدف مختلف.
-  تحتَ أمرِك يا ملاك الرحمة.. وجهيني لأطعن حيث شئت.
-  هل لديك فكرة ما؟.. أريد أن أثير جنونه.
-  إممم.. الأمر بسيط.. العبي أمامي دور العاشقة، وسيجنّ رسميا.
-  [بتهيب] عاشقة؟
-  ماذا؟.. أمر جديد عليك؟.. لقد تمرنتِ على هذا الدور معي من قبلُ على حسب ما أذكر.. نريد فقط أداء العرض النهائي في أكمل صورة!
حاكت كلماته في صدرها، مما جعلها تقول بغيظ:
-  أتعرف أنّك مستفز؟
-  أعرف.. وستعرفين أنت مزايا هذا حينما نبدأ العرض.. هاه.. اتفقنا؟
صمتت لحظة مفكرة، قبل أن تقول باستسلام:
-  اتفقنا.
***
في كلّ مكان كانا يظهران معا ويتظاهران.. يتحدثان معا في كلّ شيء وأيّ شيء.. يبتسمان افتعالا ويصطنعان ضحكة.
ثم صارا يبتسمان من القلب ويضحكان من الوجدان.
هو لم يكن يمثل بطبيعة الحال، أمّا هي فأفزعها أنّها لم تعد تمثّل!
فجأة أو رويدا ـ لا تدري كيف ولا متى بالضبط ـ لم يعد يعنيها أن تثير جنون ذلك الغادر، وإن كان جنّ فعلا!
وحينما أتى إليها باكيا، لم يشغلها كلامه ولا أنشاها النصر، بقدر ما كانت عيناها تفتشان المكان بحثا عنه.. عن رمحها!
أقلقها أنْ لم تجده، فتركت المكان حتّى دون أن تأبه بذلك الغادر.
لكنها لم تجد له من أثر، إلا رسالة موجزة وصلتها على هاتفها المحمول:
-  أقسمت يوما إمّا أن أعيده إليك راكعا باكيا نادما، وإمّا أن أستخلصك منه لنفسي.. أظنّ الأولى تحققت، فلم يعد من جدوى لرمحك المكسور.
سالت دموعها مدرارا وهي تتمتم في ألم:
-  تحققت الأولى والثانية معا أيها الغافل.. لقد طعن الرمح قلبين بضربة واحدة!
***
قالت له عبر الهاتف في لهفة:
-  أين أنت؟.. ولماذا لم تردّ على مكالماتي ورسائلي الملحة طيلة تلك المدة؟
-  [متنهدا بحزن] ذهبت أشكو همي وبثّي إلى البحر.. ظننته عميقا بما يكفي لابتلاعها.. أتعرفين؟: كل يوم وأنا أتأمل غروب الشمس تمنيت أن لو كنتُ مثلها، أنقع قلبي الغارب كلّ يوم في صفاء البحر غير المتناهي، فيغتسل من همومه ليولد من جديد، ويشرق نشيطا رشيقا على صباح يوم جديد.
مسها حزنه فأطرقت لحظة، قبل أن تسأله:
-  هل قرأت رسالتي الأخيرة؟
-  قرأتها.
-  و.. هل... هل أدركتَ ما تعنيه؟
-  أدركتُ.. ولاحظت أنّك كالعادة تخطئين العد.. فهناك قلب ثالث مطعون!
-  [بدلال] لم يطعنه الرمح المكسور على ما أظن!
-  نعم يا ذاتَ الكيد العظيم.
-  إذن ماذا؟
-  ماذا ماذا؟
-  [بعتاب دالّ] هل ستعذبني هكذا طويلا؟
-  تلميذك يا مليكتي.
-  صوتكَ مليء بالشجن.. لا تبدو سعيدا لاعترافي!
-  أخشى أنها مجرّد مشاعر إشفاق راودتك بعد أن برّد الانتقام قلبك.
-  إشفاق؟.. [وفكرت لحظة] نعم.. هي كذلك.
-  ألم أقل لك.
-  [مواصلةً] أشفقت على نفسي أن أخسر كلّ السعادة التي وجدتها معك في الفترة الماضية.
-  ............
-  ما زلت تشك؟.. هل تريد أن أحكي لك بعض حكاياتنا معا؟.. بعض ذكرياتنا الجميلة؟.. الكثير من الأشياء الصغيرة التي تجمعت كالندى المشبع برحيق الزهر لتصنع جدولا معطرا؟.. لقد زالت الغشاوة تماما، وأفلحت خُدعتكَ في فتح عينيّ على عالم من الروعة كدتُ أخسِره بحماقتي.. أنت لم تكن تساعدني للانتقام منه.. كنت تستدرجني إلى عالمك المليء بالسحر، حيث عرفتُ لأوّل مرّة معنى الحبّ الحقيقيّ، وتذوقت لذة القرب ونار الشوق.
-  ............
-  لماذا أنت صامت؟.. هل ما زلت تشك؟
-  [بعذاب] صارحيني أرجوك.. ألم تقولي له يوما مثل هذا الكلام وأكثر؟
-  [بسرعة] ولا كلمة منه.. هو من كان يتكلم، وكنت أنا كأيّ أنثى أرى غروري في مرآة عينيه.. وحينما كان يسألني عن شعوري نحوه كنت أجيب بأنّه لا يحتاج إلى سؤال وأتهرّب بأيّ طريقة كانت.. لكني أصارحك بأنّ الطعنة جاءت قاتلة لكرامتي، حينما هجرني زاهدا إلى أخرى، فأردت الانتقام لكبريائي فحسب.. أتعرف هذا الشعور، حينما تختلط الغيرة برغبة التملك بالغضب بالكبرياء بالتحدي فتسمّي هذا حبا؟.. لكنه حتما لم يكن حبا، فقد كان هناك دوما شيء ناقص لا أعرف ما هو.. صدقني فهذه هي الحقيقة.. أرجوك.
-  ...........
-  [بمرارة] ما زلتَ تشك بعد كلّ هذا؟.. معك حق.. كان عليّ ألا أبتذل نفسي هكذا فأظهر أمامك بهذا الطيش.. لكن لو كنتَ تعرف لذعة الشوق إلى من تحب!.. على كلّ حال سامحني على كلّ ما سببته لك من آلام.. حقا: لقد أضعتُ فرصتي حينما سنحَتْ يوما، والآن ليس من حقي مجرد أن أحلم.. سلام.
وأنهت الاتصال لتنفجر في بكاء مرير.
***
فكّر في كلماتها كثيرا..
لم يشكّ لحظة في صدقها، ولكنه لم يدرِ لم كان مترددا.
هل يجد لذة ما في إذاقتها من نفس الكأس التي جعلته يتجرعها؟
لا.. مطلقا.. إنه ليتمنى لو تمزق آرابا كيلا تشوكها شوكة، فما باله إن جعل نفسه سببا لعذابها؟
إذن ماذا؟؟.. ما الذي يقف حائلا بينه وبينها؟
***
حاول أن يهاتفها فلم ترد.
أرسل إليها رسالة على هاتفها المحمول يقول فيها:
-  كان هناك شيء ناقص فهل علمتِ ما هو؟.. أخبريني لأنني ما زلتُ أبحث عنه.
صباح اليوم التالي وجد منها رسالة تقول:
-  كنت أبحث عن رمح مكسور.. وقد وجدته بين ضلوعي مغروسا في قلبي.
ردّ برسالة يقول فيها:
-  لقد وجدتُ النصف الآخر من الرمح المكسور في قلبي.. فقط لو أحببتِ جمع جزئيه معا.
ردت عليه برسالة تقول:
-  لقد كنتَ دائما رمحا.. لكنك لم تنكسر يوما قط.. أهذا ما كان ينقصك معرفته؟
صباح اليوم التالي اتصل بها فردت.. سألته:
-  هل تأكدتَ؟
-  تأكدتُ.
-  عرفتَ ما كان ينقصك؟
-  أنتِ أهم ما ينقصني.. أنت نصفي الآخر.
-  نصف الرمح؟
-  أجل.. الرمح المكسور.
***
الدقهلية
20/11/2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.