أهم أقسام المدونة

الصفحات

الأربعاء، 2 يوليو 2014

تأملات في حادثة تحويل القبلة


تأملات في حادثة تحويل القبلة 

الأحداث التي عشناها في السنوات الأربع الماضية، جعلتني أفهم من آيات القرآن معاني لم أكن أراها بهذا الوضوح من قبل، ربما لأني كنت أقرأ عن مواقفها كتاريخ لم أعشه واقعا.

على سبيل المثال لا الحصر: وأنا أقرأ سورة البقرة في هذه الأيام، انتبهت إلى أنها تركز بصورة كبيرة على الرد على الدعاية السوداء التي وجهها الكفار والمنافقون واليهود والمسيحيون ضد الإسلام والمسلمين، فأخطر ما يواجهه أهل الحق في كل عصر، هو طوفان الأكاذيب التي يفتريها عليهم أهل الباطل، والسخرية والتشويه والسباب التي يحاولون بها النيل منهم، وهو نفس ما قام به إعلام الفلول قبل الانقلاب وبعده.. ناهيكم عن مدعي الثورية الذين دسهم أمن الدولة والمخابرات على الثوار وتلقفهم الإعلام ليضرب بهم الثورة من داخلها ويشوها في أعين الناس.. تناظر تام:

(يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ {9} فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ {10} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ {11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ {12} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ {13} وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ {14} اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {15} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ {16})

والملاحظ أن القرآن الكريم يتولى الدفاع عن المؤمنين، ورد الإهانة لهؤلاء السفهاء (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ).. وهذا بالمناسبة يرد على مرهفي الحس الذين يطلبون من الطرف الضحية الذي يتعرض للقتل والسجن والتعذيب والإقصاء ألا يرد حتى بكلمة!!

حاولوا أن تلاحظوا هذه الحرب الدعائية وأنتم تقرأون سورة البقرة (وجميع سور القرآن في الواقع).. لكن لاحظوا خاصة حادثة تغيير القبلة، والتي تناولتها سورة البقرة بدءا من الآية 142 (لاحظوا وصفهم بالسفهاء مرة أخرى، فالحقيقة أن كل ما يقوله هؤلاء هو سَفَه):

(سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ {142})

وصولا إلى قوله تعالى في الآية 177:

(لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ {177})

أول سؤال يجب أن نسأله لأنفسنا: لماذا أخذت حادثة تحويل القبلة كل هذه المساحة؟

في الحقيقة هذه الحادثة البسيطة توضح نقطة جوهرية في الصراع بين الحق والباطل، فأهل الكتاب كانوا يسخرون من المسلمين لأنهم يصلون تجاه المسجد الأقصى، باعتبار أنه قبلتهم هم، وأن محمدا مجرد مدّعٍ يقلدهم في ذلك.. فلما أمره الله بتغيير القبلة إلى الكعبة، شنوا حربا دعائية أخرى يسخرون فيها من هذا الأمر.. ولأنقل هنا هذا المقطع بتصرف من مقال للأستاذ محمد مسعد ياقوت:

"فقالوا: (مَا وَلاّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا)، لقد اشتاق الرجل إلى موطن مولده!.. إن كانت القبلة الأولى هي الحق فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل!!.. حتى إنهم شككوا في صلاة المسلمين القديمة نحو بيت المقدس، ومن ثم أعلنوا أن المسلمين الذين ماتوا قبل تحويل القبلة دخلوا النار؛ لأنهم صلوا إلى القبلة الفاسدة!.. فيرد الله قائلاً: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ)"

والحقيقة أنني حينما سمعت هذه الآيات الكريمة وأنا صغير، كنت متعجبا وأتساءل: أين المشكلة.. تحويل القبلة أمر عادي لا يستدعي أي تعليق.. ولكن مؤخرا بعد أن رأيت سفهاء الإعلام المصري يصيحون ويولون ويضيعون آلاف الساعات من عمر المشاهدين تعقيبا على كل كلمة أو حركة قام بها د. مرسي، فهمت كيف يمكن أن تؤدي هذه الكراهية المسمومة إلى تضخيم الحوادث العادية، وتحويلها إلى معارك كلامية تسقط فيها عقول العوام والأطفال والنساء!!

كما أن حادثة تحويل القبلة تكشف عن منهجية أهل الباطل الأبدية الأزلية، فهم لا ينقدون أهل الحق نقدا موضوعيا، بل يفترون عليهم الأكاذيب، لهذا فهم جاهزون دائما للسخرية من الأمر وعكسه (كما سخروا من الصلاة تجاه بيت المقدس، ثم من الصلاة تجاه الكعبة!!).. فالمسألة ليست كما يدعون أنهم ينتقدون بموضوعية بحثا عن المصلحة وتصحيح الأخطاء، ولكنهم جاهزون دائما للتخطيء والتشكيك والسخرية من كل شيء يفعله أهل الحق، فإن لم يجدوا شيئا يعيبونه فيهم، اختلقوا كلاما ومواقف وافتروها عليهم (كفرية مناقشة قانون جماع الوداع في مجلس الشعب مثلا، أو فرية نكاح الجهاد في اعتصام رابعة العدوية.. بالمناسبة: لاحظوا أنهم دائما يفكرون بأعضائهم التناسيلة، فحياتهم كلها تدور حولها!!)

ولقد لخص القرآن هذا كله في قوله تعالى:

(وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ {145})

وهو المعنى الذي ورد بصورة عامة في آية سابقة في سورة البقرة، في سياق عرض الحرب الإعلامية بين المسلمين وأهل الكتاب:

(وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ {120})

والملاحظ أن الآيتين تنتهيان بتحذير شديد اللهجة، من اتباع أهواء أهل الضلال، لأن مآله الخروج من نصرة الله، والانضمام إلى الظالمين.

هناك الكثير مما يمكنكم تأمله في آيات تحويل القبلة.. خاصة أن هناك بعض الآيات التي تطرقت إلى مواضيع أخرى (مثل التشكيك في شعيرة الصفا والمروة أيضا) قبل أن تعود السورة مرة أخرى إلى قضية تحويل القبلة في الآية 177.. لكن ما لفت نظري خاصة قوله تعالى:

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ {143})

فالوسطية في هذا السياق تأخذ معناها الجغرافي لارتباطها بحادثة تحويل القبلة، وهو ما يتفق مع أبحاث حديثة تثبت أن مكة هي مركز اليابسة في الكرة الأرضية.. بينما أرى الكثيرين يسيئون تأويل هذه الآية لتحريف الشريعة الإسلامية، فالوسطية عندهم تعني مسلما لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يكفّر كافرا ولا يحارب محتلا ولا يرد معتديا ولا يسب سفيها!!.. وهذه في الحقيقة ليست وسطية، بل عدمية!!

لكن هل اكتفت السورة بعرض هذه المعركة ورد شبهات الكفار فحسب؟

لا.. فقد اختتمت الآيات عرض هذه الحادثة، بمنحنا مقياسا واضحا نستطيع به معرفة أهل الحق وأهل الباطل إن اختلطت علينا الأمور بسبب دخان الأكاذيب الذي ينشره الإعلام.. هذا المقياس توضحه الآية رقم 177:

(وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)

باختصار: انظروا إلى أفعال كل من الفريقين لا إلى كلامهم، وستعرفون من منهم على الحق، ومن منهم على الباطل..

من منهما يحاصر المساجد ويقتحمها ويحرقها ويغلقها ويمنع صلاة الجمعة فيها، ويحدد وقت صلاة التراويح، ويمنع الاعتكاف إلا بتصريح..

من منهما يمنع ملصقات الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؟

من منهما يغلق الجميعات الخيرية ويصادر المدارس والمحال التجارية..

من منهما يسحل النساء في الشوارع ويغتصبهن في ميدان التحرير، ويقتل المتظاهرين ويسجن الأبرياء ويعذبهم؟

من منهما يلتف حوله اليهود والنصارى والملحدون والعلمانيون والفجرة من الممثلين والمغنين والراقصات والساقطات؟

من منهما خان العهد وحنث باليمين وغدر برئيسه وانقلب على دستوره الذي أقسم على حمايته؟

من منهما الصادق ومن الكاذب؟

وستجدون الإجابة في منتهى الوضوح!

(وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ)

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.