موسيقى الشعر العربيّ.. دروس مبسطة للهواة
بقلم: محمد حمدي غانم
2- البداية
نبذة تاريخية
أخذ نبذة عن تاريخ الموضوع الذي تدرسه يزيل الرهبة ويجعلك تألفه وتتهيأ لاستيعابه.. كما أن الأمر لا يعدو كونه حدوتة شيقة، فلم لا تسمعها؟
والآن لكي نبدأ قصة العروض، ينبغي أن نعود إلى البداية الأولى.. بداية اللغة نفسها.. ثم بداية الشعر.
نشأة اللغة:
يقول سبحانه:
(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {31} قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {32} قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ {33}) البقرة.
ويقول سبحانه:
(الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ {2} خَلَقَ الْإِنسَانَ {3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ {4}) الرحمن.
إذن فنحن الآن نعلم نشأة اللغة: كأسماء وبيان.. كألفاظ وبلاغة.. لقد تلقينا منحة إلهية مبدئية عند الخلق، سواء على مستوى الاستعداد البدني (أعضاء السمع والنطق، ومراكز السمع والنطق واللغة والإدراك في المخ) أو على مستوى اللغة نفسها كأسماء ودلالات وأساليب.. وكانت هذه الدفعة التي انطلق منها الإنسان في تطوره اللغوي والأدبي والفكري.
نشأة الشعر
ولكن.. كيف نشأ الشعر إذن؟.. هل تعلمه الإنسان منذ البداية أيضا؟
الأقرب إلى الظنّ أنّ الأمر بدأ بالجمل المسجوعة، حين احتاجَ الكُهّانُ إلى مناجاةِ الآلهةِ وكتابةِ الحكمـة، فأرادوا فتنةَ الناسِ بأسلوبٍ برّاق، فراحوا يُذيعونَ عليهم ما زعموا أنّه أسرارُ الغيب في جُمـلٍ مُقَفَّاةٍ مُوقّعـة (تسمى السجع، تشبيها لها بسجعِ الحمامة).. مثل هذه الجمل كانت تميل إلى استخدام الكلمات الغامضة والفضفاضة والتشبيهات الموحية، لإثارة خيال الناس والتأثير في مشاعرهم.. لعلها أشبه الآن بما يسمى زورا بـ "شعر النثر".
ولو شئت رأيي، فإن اتساق بعض هذا الكلام المسجوع مصادفة على نغمة معينة أمر تطرب له النفس، حتّى ليحاول المرء التزامه.. وأظنّ أنّ أوّل ما كان من الشعر كان يشبه شعر التفعيلة المعاصر، ونظرا لصعوبة حفظه بسبب خفوت موسيقاه، ضاع في عصور الشفاهة.. ثم استقام الأمر أكثر واكتمل البناء فظهر الشعر العمودي الموزون المقفى، والذي سهل حفظه بسبب موسيقاه ورونقه وطربه، وسهولة التغني به على إيقاعات الموسيقى.
ويُقالُ إنَّ الشعرَ العربي بدأ كلُّه ببحرِ الرجـز، تتغنّى به القوافـلُ على وقعِ أقـدامِ الإبل في الأسفار الطويلة "تَتَمْ تَتَمْ" (مُتَفْعِلُـن) ومنها أتَتِ التّفعيلةُ (مستفعلن).. وقد بدأ الشعرُ بالمقطوعات القصيرة، ثم كُتِبَ في صورةِ قصائدَ على يدِ (المهلهل) و(امرئ القيس) منذ أكثر من 150عاما قبل الإسلام.
طبعا كلُّـها افتراضاتٌ تحتملُ الصوابَ والخطأ، لأن الشعرَ العربي الذي وصلنا هو شعرٌ مُكتملٌ ناضج، لا يُمكنُ أن يكونَ هو بدايةَ الشعرِ العربيِّ على الإطلاق.
***
وقد كان العرب يكتبون الشعر بالسليقة، فيخرج موزونا مستقيم الموسيقى، بدون أن يرهقوا أذهانهم بقواعد يتعلمونها.. تماما كما كانوا يجيدون الكلام الفصيح بدون دراسة النحو والصرف، فكل هذه العلوم قُننت بعد ظهور الإسلام، عندما دخل الأعاجم الإسلام فبدأت سليقة اللغة تضيع، فانقطع علماء اللغة لجمع وتدوين قواعدها في النحو والصرف والإملاء.. والعروض كما سنرى.
نشأة العروض:
كان هناك رجل يدعى (أبو عبـد الرحمن الخليل بن أحمـد بن عمرو بن تميـم الفراهيدي)، ولد عام 100 هـ، وكان من علماء اللغة المشتغلين بالنحو (وهو بالمناسبة أستاذ سيبويه) والصرف (وهو الذي وضعَ أساسَ المعاجمِِ العربيةِ بكتابِه "العين"، الذي ضبطَ فيه مفرداتِ اللغةِ وحصر كلماتِها، مبينا المستعملَ منها والمهمل، ومُرتّبا إياها على حسبِ مخارجِ الحروف).. وهو كذلك أول من جمع الحروف العربية في بيت واحد، فقال على البحر البسيط:
صِفْ خَلْقَ خَوْدٍ كَمِثْلِ الشَّمْسِ إذْ بَزَغَتْ يَحْظَى الضَّجِيجُ بهَا نَجْلاءَ مِعْطَار
وأثناء طواف هذا الرجل بالكعبة المشرفة في أحد مواسم الحج، دعا ربه أن يهبه علما لم يسبقه أحد إليه، ولا يؤخذ إلا عنه.. وفي أثناء مروره بالمدينة، رأى شيخا يعلّم صبيا ويقول له:
نعم لا.. نعم لالا.. نعم لا.. نعم لالا نعم لا.. نعم لالا.. نعم لا.. نعم لالا
فسأله الخليل:
- ما هذا الذي تقول للصبي؟
فقال:
- هو علم نتوارثه عن سلفنا، نسميه "التنعيم" (لقولهم فيه: نعم)، نكتب عليه الشعر.
وكانت هذه هي البداية التي لفتت نظر الخليل بن أحمد إلى وجود إيقاع معين في الشعر.. وقد تأكد له هذا حينما كان مارا بسوق الحدادين، فتناهى إلى سمعه صوت حداد يتغنى بقصيدة يتناغم إيقاعها مع إيقاع مطرقته، فالتقط الخليل الفكرة ولم يفلتها، وبدأ في وضع علم العروض، خاصة بعد أن هاله اتجاه بعض الشعراء إلى النظم على أوزان لم يعهدها العرب من قبل، فلم يرَ بدا من استخراج القواعد الموسيقية التي تحكم الشعر العربي الأصيل، ليسير عليها الشعراء الجدد.. من هنا عكفَ هذا الرجلُ المُلهمُ على دراسةِ الشعرِ الجاهليّ، ليعرفَ سرَّ هذه النغمات، إلى أن هداه اللهُ إليها، فأهداها إلينا.
وقد ماتَ هذا العلامة ـ رحمه الله ـ بالبصرة عن عمرٍ يُناهزُ 75 عاما بعد أن قدّم للغة العربية الكثير من الخدمات الجليلة، التي خلّدت اسمه في سجل العباقرة.
مصطلحات عروضية
والآن نحن على أعتاب علم العروض الذي وضعه هذا الرجل.. وسنبدأ في التعرف على الأساسيات المبسطة لهذا العلم الشيق في الدرس القادم بإذن الله.. ولكن قبل أن نفعل، علينا أن نقدم بعض التعريفات البسيطة المستخدمة في هذا العلم، لنضبط مصطلحاتنا معا.. وأرجو ألا ينزعجَ أحدٌ من هذه التعريفاتِ والمصطلحاتِ.. خذوها فقط من باب العلم بالشيء، فالموضوعُ شيقٌ ولذيذٌ بحقّ، وسيتضحُ هذا أكثرَ في الدروسِ التاليةِ بإذنِ الله.
الشعر:
· الشعـر (العمودي): كلامٌ موزونٌ مُقفَّى (له قافية) عن قَصد.
علمُ العَروض:
العروضُ في اللغة:
العروضُ لفظةٌ مؤنّثةٌ، وتعني: الطريقَ الصعبة، الناحية، الخشبةَ المعترضةَ وسْطَ البيت، السحابَ الرقيق، أو الناقةَ الصعبة.. وأُطلقتْ كلمةُ العروضِ على مكّةَ المشرّفة، لاعتراضِها وسْطَ البلاد.. و جمعُها: أعاريض.
العروض في الشعر:
علمُ العروض: علمُ دراسةِ أوزانِ الشعرِ لمعرفةِ الصحيحِ فيها من المكسور.. و سُمِّيَ بهذا الاسمِ، لأنَّ الشعرَ يُعرضُ عليهِ فيُعرفُ به الموزونُ من المكسور.
فوائدُ علمِ العروض:
1- تمييزُ الشعرِ عن غيرِه، فيعرفُ به أن القرآنَ الكريمَ والحديثَ الشريفَ ليسا من الشعرِ في شيء، ويتمُّ به تمييزُ الشعرِ عن السجع.
2- ضبطُ الأوزانِ وعدمُ اختلاطِ بعضِ بحورِ الشعرِ ببعضٍ عندَ الكتابة.
3- الحفاظُ على الأوزانِ المأثورةِ عنِ العرب، وتعليمُها للأجيالِ لمنعِ الشعرِ من الكسر.
4- معرفةُ ما أجازه العربُ من الزحافِ والعللِ والضرورات.
تفعيلة العروض:
التفعيلةُ الأخيرةُ من الشطرةِ الأولى في بيتِ الشعر.
الشَّطْر ـ الشَّطرة ـ المِصراع:
كلامٌ مكوّنٌ من تفعيلاتٍ على وزنِ أحدِ بحورِ الشعر، وهي وَحدةُ تكوينِ بيتِ الشعر.
بيت الشعر:
· وحدةُ بناءِ القصيدةِ العموديّة.
· وهو سطْرٌ من الشّعْرِ قد يتكوّنُ من شطرٍ واحد، ولكنّه في الغالبِ يتكوّنُ من شطرين، يسما أولهما بصدر البيت، ويسمى الآخر بعجز البيت.
· ينتهي البيتُ العموديُّ بقافيةٍ، تتفقُ مع قافيةِ ما قبَله أو بعدَه من الأبيات.
مثال لبيت من الشعر يتكون من شطرين:
هلا سألت القوم يا ابنةَ مالك إن كنتِ جاهلةً بما لم تعلمي
فصدر البيت (الشطر الأول منه) هو: هلا سألت القوم يا ابنةَ مالك
وعجز البيت (الشطر الثاني منه) هو: إن كنتِ جاهلةً بما لم تعلمي
القصيدة ـ القصيد:
اشتقت هذه الكلمةُ من القصدِ وهو استقامةُ الطريق، والقصد: الاعتزام.
والقصيدة على وزن فعيلة وهى تستعمل بمعنى:
- فاعـل: (مثل سميع بمعنى سامع) وذلك لأنها قاصدةٌ، تقصدُ إلى تبيينِ المراد.
- مفعول: (مثل قتيل بمعنى مقتول) وذلك لأنها مقصودةٌ، يقصدُ الشاعرُ إلى تأليفِها وجمعِها وتهذيبِها.
وتتكوّنُ القصيدة من (7) أبيات فأكثر.. فإذا طالت القصيدة سمّيت مطولة أو ملحمة.
القطعة:
مجموعةٌ من (3 - 6) أبيات (وهي أقصر من أن تشكّل قصيدة).
النتفة:
بيتانِ فقط من الشعرِ (وهما أقصرُ من أن يشكّلا قصيدة).
الرَّوِيُّ:
الحرفُ الذي يلتزمُه الشّاعرُ في قافيةِ القصيدةِ العموديّة.
***
موسيقى الشعر العربيّ.. دروس مبسطة للهواة
ردحذف2- البداية
مشكور جداا علي مجهودك و الله هيساعدني كثير
ردحذفwww.alsadiqa.com
"تَتَمْ تَتَمْ" (مُتَفْعِلُـن) ومنها أتَتِ التّفعيلةُ (مستفعلن)..
ردحذفقطع لي ذلك وكيف اتت التّفعيلةُ (مستفعلن)
أشكرك على نشر هذه المقالات المفيدة مع مقاطع الفيديو
ردحذففأنا أتعلم منها ، أنظر في بقية المقالات
اتمنى أن تبقى المدونة علي الانترنت كمرجع
الله يكتب أجرك و ينفع المسلمين بعلمك
ردحذفمشكور جدا على المجهود الرائع واسمح لنا بالنقل
ردحذفبارك الله فيك
ردحذفجزاك الله خيرا شكراجزيلا
ردحذف