أهم أقسام المدونة

الصفحات

الأربعاء، 30 ديسمبر 2015

أمور عادية جدا


اثنان في واحد (ليس برت بلاس)
(7) 
 


-      لع والله.. إنها قصة ظريفة وتصلح أن تكتبها.

قالها أحمد عزيز وهو ينفث دخان سيجارته الألف، قبل أن ينفض رمادها بلا اكتراث على كرسي مرصّع بأعقاب السجائر، ويصب لنفسه قدحا من الشاي كان قد غلاه لتوه، فأسرعت أقول:

-      إذن فأنت لا تصدق أن هذا حقيقي!

-  قلت لك (لاحظوا أنه صعيدي ينطق القاف جيما بلا تعطيش) إنها قصة ظريفة.. لع (يقصد لا) أنا حقا أصدقك.. أصدقك كما تصدق الخراف طيبة الذئب.

وتحشرج صوته بغتة وهو يضحك باستمتاع ، فشعرت أن زلزالا قد حدث، فقلت له مشفقا:

-  ألن تكف قليلا عن هذه السجائر التي ستوردك حتفك؟.. حرام أن يذهب كل هذا الكم من المعلومات التي في رأسك إلى الدود.

-  بانج نانج تشونج (يقصد ها ها ها، ولكنها تصدر من حلقه هكذا)... على الأقل سنضمن أن الدود سيصير مثقفا.

-      وما الذي ستستفيده البشرية من دود مثقف؟

-      لع.. عادي.. في هذه الحالة على الأقل سيتعاطف الدود مع جثث العالم الثالث.

-      آه.. لن أخلص من مهاتراتك الساخرة.

-  يا سيدي الفاضل.. اثنان لا يتجزآن: رجل وسخريته.. كما ورد في رواية حكيم المريخ الأصلع، التي لم أكتبها بعد!

-      الخلاصة.. ما الذي تظنه بخصوص موضوع محمد ولي؟

-  تقصد اثنين في واحد؟.. إذا شئت رأيي فبرت بلاس كاف جدا للحفاظ على الشعر وإزالة القشرة.

خوخخخخ... ارتشف رشفة من الشاي، وانتضى نفسا عميقا من سيجارته (هل تذكر عمق آخر نفس أخذته؟.. كان في نفس العمق تقريبا) حتى أتى على أنفاسها كلها، فصارت تلهث كامرأة أنجبت مئة ولد، فأضافها لمجموعته الثمينة التي تزين الكرسي، ثم جرع كوب الشاي، وأسرع يلقي بقاياه من النافذة، فسمعت صرخة ألم تلاها صوت تكوم جسد على الأرض، فهز كتفيه وقال ببساطة:

-      عادي.. أمور عادية.

ثم أشار لي قائلا:

-  بالمناسبة: لم تحدد لي أي محمد ولي كنت تقصد.. آخر معلوماتي أن محمد ولي باشا ولد في ألبانيا، وتولى حكم مصر عام 1805، وأبلى ولده إبراهيم باشا بلاءً حسنا وجزمة جلد واثنين كوتشي برباط في المعارك التي خاضها.. أم تراك تقصد محمد ولي كلاي؟.. هل وجه لك واحدة من ضرباته القاضية، فسببت لك هذه الهلاوس؟

-      المشكلة إذن أنك لا تصدق.

وتنهدت ثم أطلقت صفيرا مميزا كنت قد اتفقت عليه مع ثنائي برت بلاس، ونهضت لأفتح الباب بحركة مسرحية قائلا:

-      متع عينيك إذن!

وكنت أنظر له، فوجدت عينيه تتسعان في دهشة، وتتسعان وتتسعان (على طريقة نبيل فاروق)، وهو يحاول إيقافهما عن الاتساع بأصابعه بلا جدوى!

وتتسعان وتتسعان....!

وصرخ أحمد عزيز في ألم:

-      كفى أرجوك.. لو اتسعتا أكثر من هذا فستخرج عيناي من محجريهما!

قلت معتذرا:

-      آسف.. كنت أحاول تقليد كاتب مشهور.

توقفت عيناه عن الاتساع، فقلت في ثقة:

-      أرأيت؟.. صدقتني الآن؟

-      بانج نانج تشونج.. رأيت ماذا؟

عقدت حاجبي ونظرت ورائي، قبل أن أجمجم في غضب:

-      تبا.. أين ذهبا؟

وأسرعت أقفز إلى الممر خارج الغرفة، حيث وجدت محمد ولي ومحمد ولي منهمكين في لعب "الحجلة" فهتفت فيهما في سخط:

-  ما هذا؟.. ألا تقدران حجم المسئولية الذي نحن أمامه؟.. إنه مئة متر مكعب على أقل تقدير.

سألني محمد ولي الذي صفعته ناني لأنه لم يعرف كيف يراقصها:

-      كم الكثافة، حتى نقدر كتلة المسئولية؟

أسرع محمد ولي الذي لكمته في فكه لأنه صفعني يهتف:

-      وكم تبلغ عجلة الجاذبية الأرضية في هذه المنطقة حتى نقدر وزن المسئولية؟

هرشت رأسي لحظة مفكرا، وبان على وجهي التركيز، وهما يترقبان ردي، قبل أن أهتف بحماس:

-      هذه هي.

وقبضت على القملة المجرمة التي كانت تسبب لي الحكة في رأسي، وألقيتها أرضا وسحقتها بكعب حذائي في غل، ثم اقتدتهما إلى الداخل قائلا:

-      هيا تعاليا.

وأوقفتهما أمام أحمد عزيز قائلا بشماتة:

-      والآن ما رأيك يا فيلسوف؟

انتفض أحمد عزيز واقفا بذهول، وسقطت من فمه أربع علب سجائر كان يدخنها، وهو ينقل بصره بينهما غير مصدق، فأسرعت أهتف فيه محذرا:

-      أحمد.. حذار أن تُحرّد إلى كوخ الصمت، فهناك زنجي وغد قد يؤذيك!

ولكنه لم يستمع إلى نصحيتي قبل فوات الأوان.. وقد أنكر من أبكر (لا تسألوني ماذا أعني، فلو كنت أعي ما أعني لما كنتم تعانون ما أعاني).

***

زمجر الزنجي في غضب مكتوم حينما حرّد أحمد عزيز إلى كوخ الصمت، ولوّح بكفيه في وجهه ساخطا، ولكن أحمد رفع حاجبيه في تساؤل وحلقه ما زال يغص بدخان السجائر، وكان ما زال يتقدم إلى الداخل في فضول، فانبجس غضب الزنجي كسيل هتون، وانقض على أحمد، ولكمه بقبضة لا تعرف الهوادة، فوجدنا أحمد يرتجّ وهو يهتف بغضب:

-      أيها الوغد!

وأزعجني أن عينه اليمنى تورمت فجأة، فقلت له في أسف:

-      ألم أحذرك من أن تحرّد إلى كوخ الصمت؟

قال في غضب وهو يلوح بكفيه:

-      سأعود إليه ثانية.. سألقنه درسا لا يُنسى ابن الـ...

وقع بصره على محمد ولي ومحمد ولي مرة أخرى، فانتابته نفس الدهشة، وحرّد مرغما إلى كوخ الصمت وقد نسي كل محاذيره، فعاد جسده يرتج وعينه اليسرى تتورم بدورها، فهتف في غضب:

-      الوغد الخائن.

 وعقد حاجبيه وهو يحرد من جديد إلى كوخ الصمت، حيث علمنا فيما بعد أنه سبب الكثير من الآلام لذلك الزنجي، قبل أن يقول وقد استعاد رباطة جأشه (أم فيونكة برتقالية.. كنا قد اتفقنا على أن يختار كل منا رباطة بلون مختلف، حتى لا يحدث ارتباك بيننا):

-      حسن.. لقد أفقدته الوعي، ولن يضايقنا فيما بعد.

وعاد ينظر لمحمد ومحمد في ذهول قائلا:

-  لع والله.. جميل جميل.. يصلح حلما من الخيال العلمي من الدرجة الثالثة.. ثم نظل نتساءل هل هذا واقع أم حلم أم أننا نحلم بالحلم أم أننا في الحلم نحلم بالواقع؟

سألته بجدية:

-      هل تستمع للقصة كاملة؟

-      يا ليت.

أشرت للمحمدين قائلا ببساطة:

-      يمكنكما أنتما مواصلة لعبتكما.. شكرا لكما.

نظرا لبعضهما في فرحة غير مصدقين، واحتضنني كل منهما في تأثر قبل أن يصافحاني في حرارة، ثم انطلقا كعصفورين أخلي لهما سبيل الطيران بعد طول حبسهما في قفص كئيب، وغابا على الفور عن أنظارنا.

وشرعت أحكي لأحمد عزيز ما حكاه لي محمد ولي الذي صفعته ناني لأنه لم يعرف كيف يراقصها.

***

-      لع والله.. جميل.

-      هل تعني أنك تصدق؟

-  أوليس لي عينان يا فتى؟.. أتظنني معتوها؟.. (وقّف خالص) حتّى أفكر في الأمر قليلا.

-      حسن.. إنني متوقف.

نهض وأحضر ملعقة السكر، وشطفها بزجاجة المياة عبر النافذة، فسمعت صوت شخص يسب ويلعن، فابتسم لي أحمد بباسطة وقال:

-      عادي.. أمور عادية.

ثم جلس على حافة الفراش، وأخذ يقلب الأفكار في رأسه بالملعقة، وأنا منبهر من حرصه على نظافة دماغه، وعدم تقليب الأفكار بملعقة متسخة.

لكنه نسي في غمرة انهماكه أنه بهذا قد يحرّد إلى كوخ الصمت، لكن حتّى قبل أن يفعل فوجئنا بذلك الزنجي الوغد يظهر لنا في الغرفة وهو غاضب ويلوح بذراعيه في غل، فتراجعت بمقعدي في بطء مهمهما:

-      أهلا.. هذا ما كان ينقصنا!

ووقفت ببطء وأنا أتابعه ببصري متمتما:

-  يبدو أن قوتك قد خذلتك.. إنه لم يفقد الوعي كما قلت.. أو أنه استعاد وعيه وحرّد إلى غرفة المدينة الجامعية للصمت، وجاء لينتقم منك!

أما أحمد فقد حاول أن يزدرد لعابه فاستحال عليه ذلك، ونهض ببطء، ولكن الزنجي لم يمهله أن انقض عليه كطرزان، وراح يكيل له اللكمات والركلات، والبقع الحمراء تتزايد على خريطة جسد أحمد عزيز.

وأخيرا انهار الفتى وهو يلهث، فوقف الزنجي راضيا فخورا، وهو يحتأ في وجهه متهكما، قبل أن يستدير على عقبيه ويقفز من النافذة، لنسمع صرخة ذعر متألمة، وصوت تكوم جسد على الأرض، فقلت متفهما:

-      عادي.. أمور عادية.

وأسرعت إلى النافذة لأنظر منها، فلم أر أثرا لذلك الزنجي، الذي تبخر بنفس طريقة ظهوره من العدم.

ومضت فترة وأنا لا أصدق نفسي أنني حي أرزق، ثم هُرِعتُ إلى أحمد عزيز هاتفا:

-      أحمد.. هل أنت بخير؟

-  بخلاف جمجمتي التي تضعضعت، وعظامي التي تقضقضت، وكرامتي التي تبعثرت، يمكنك القول إنني بخير تماما.

ثم نهض هاتفا بغضب:

-  ثم يجب أن تكف عن تشبيهاتك الحمقاء هذه.. أرأيت ما فعله بنا تشبيه مجنون مثل "حرّد إلى كوخ الصمت"؟.. لقد كاد هذا الزنجي يوردنا حتوفنا.

لوحت بكفي أمام ثورته قائلا:

-      حسن حسن.. سأفعل.. لا تغضب هكذا.

تخامد غضبه، فقلت مفكرا:

-  في المرة القادمة ربما أكتب: "احتجر إلى عرين الصمت".. أليس تشبيها بليغا رائعا؟

نظر لى أحمد بهلع، و...

دوى في المكان صوت زئير مرعب!

***

جريدة منتصف الليل:

انتحار رجل أعمال بعد إفلاس شركته

عثر رجال الشرطة على جثة أحد رجال الأعمال صريعا على كورنيش النيل، وأكد الطب الشرعي أنه انتحر عضا على نواجذه غيظا وقهرا.. هذا وقد عُثر معه على رسالة يهاجم فيها المتسبب الرئيسي في إفلاسه وهو كما يدعي مؤلف مغامرات ناشئ تجاهل نشر إعلاناته.

***

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.