أهم أقسام المدونة

الصفحات

الخميس، 12 أغسطس 2010

نحن لا نكون الأفضل ولكن نتمنى ذلك!

نحن لا نكون الأفضل ولكن نتمنى ذلك!

سيظن البعض أنني في هذا الموضوع أعمل من الحبة قبة!.. لكن الحقيقة أنها ليست حبة، بل صخرة بحجم طود هائل، والقبة التي صنعتها الحبة حبستنا في سجن مقيت من الجهل والتخلف والانهيار!

أثناء سيري في أحد الشوارع يوما، رأيت لافتة علقها محل للإعلان عن بضائعه، يقول أول سطر فيها:
"نحن لا نكون الأفضل ولكن نتمنى ذلك"!
هذه العبارة لفتت نظري بشدة، بسبب ما فيها من ركاكة مدهشة، تجعلها تؤدي عكس الهدف الذي صُممت له!
فالتعبير "نحن لا نكون الأفضل" يعطي الإيحاء باستمرارية النفي، فنحن لا نكون الأفضل دائما وباستمرار!
ويؤكد هذا المعنى تعبير التمني، فكل ما نفعله هو أن نتمنى أن نكون الأفضل دون أن نفعل أي شيء لتحقيق هذا!.. بل إن استخدام (ذلك) في العبارة، يؤكد أنه حلم بعيد المنال!!
لقد أضحكني هذا التعبير بشدة، فمن السائد أن يقول المعلن إنه الأفضل على الإطلاق، فإذا أراد أن يكسر الرتابة لإعطاء الناس إحساسا بالمصداقية وعدم المبالغة، فإنه يقول: ربما لسنا الأفضل، ولكننا نسعى إلى أن نكون كذلك.
فلا يقر بأنه ليس الأفضل إلا ظنا (ربما)، مع تأكيد فكرة العمل الجاد لتطوير الذات.
ما شغل تفكيري هنا هو من صاغ هذه العبارة.. ربما يتوقع البعض أن يكون حاصلا على تعليم متوسط، لكن الحقيقة أن شيئا لن يختلف عما إذا حصل على تعليم عال، فكلاهما درس اللغة العربية لمدة 12 عاما، وكلاهما كان يعتبرها أكثر مادة يكرهها، وكلاهما لا يستطيع تذوقها ولا التعبير بها، وهذا أول وأكبر معيار للانهيار الحضاري: العجز عن التواصل باللغة الأم، الذي ينفي أية إمكانية للإبداع بها، وهو أمر يشير إلى خلل نفسي مجتمعي تعليمي، وخلل في الهدف العام وأهداف القيادة السياسية، وانعدام أية رؤية لأي مشروع حضاري يبدأ من إعداد الفرد المؤهل لحمل مشعل الحضارة.
البعض قد يرى أن هذا كلام كبير على عبارة تافهة كهذه.. لكن ما شاهدته عبر ثلاثة عقود عشتها في هذا المجتمع، وما رأيته في الشوارع والمدارس والجامعات والجيش، أكد لي أن 90% على الأقل من حملة الشهادات المتوسطة يخطئون في كتابة أسمائهم (لعلكم قرأتم عن الاختبار الذي أجرته شركة الكهرباء لمن تقدم منهم للعمل كمحصلين، حيث فشلوا في كتابة الأعداد الكبيرة، بل فشلوا في كتابة اسم رئيس الجمهورية!!)، وهم بالطبع لا يفقهون شيئا في النحو والصرف، وهم عاجزون تماما عن صياغة جملة سليمة التركيب توصل المعنى، وقابلت منهم من يعجز عن قراءة الجرائد حتّى!
أما خريجو الجامعات، فربما يستطيعون كتابة التعبيرات المحفوظة، ومعظمهم يجيد الإملاء مع بعض الأخطاء في الهمزات، لكن قلة نادرة منهم هي التي تستطيع كتابة فقرة كاملة دون أن تخطئ في النحو والصرف.. ومن خلال الأعمال التي تلقيتها في أدباء دوت كوم حينما كنت مسئولا عن قسم النثر به، وجدت كثيرا من حملة القلم يقعون في مثل هذه الأخطاء، مما يعني أن الموهوبين أنفسهم لا يجيدون اللغة التي يريدون الإبداع بها إجادة تامة!
بل إن خطباء المساجد أنفسهم يرتكبون أخطاء فادحة في اللغة في خطبهم (سواء كانوا هواة أو أزهريين)، كرفع الاسم بعد حرف الجر، ونصب الفاعل.. ويصل الأمر إلى الخطأ في تشكيل كلمات القرآن الكريم ذاته، ناهيك عن عدم حفظ الأحاديث بنصوصها الصحيحة!
***
إن الحوار محتدم الآن في مصر حول إلغاء مكتب التنسيق والاعتماد على اختبارات القبول في الجامعات.. والكثيرون بالطبع يعارضون هذا، فقد تمت برمجتهم في القرن الماضي على أن التعليم حق للجميع كالماء والهواء ـ كما قال المشبوه طه حسين ـ وأن مكتب التنسيق يحقق تكافؤ الفرص في التعليم.. وهذا الكلام مضحك ومبكٍ، لأنه لا يوجد تعليم أصلا، ولأننا كلنا فقدنا فرصنا في الحياة الكريمة في مجتمع انهار اقتصاديا وأخلاقيا وعلى وشك الانهيار اجتماعيا وسياسيا.
إن من حقي ومن حق أولادي أن تُنفق نقود الدولة على تعليم العباقرة والمبدعين، بدلا من أن يهربوا إلى الخارج.. هذا هو ما سيضمن لنا أن يكون لدينا بحث علمي وتقنية وصناعة واقتصاد وفرص عمل وزواج وطعام، وأسعار منخفضة وضرائب منخفضة ومرتبات مرتفعة، وجيش قوي وعزة وكرامة.
أما أن أظل أردد كالببغاء أن مبدأ تكافؤ الفرص يحتم على الدولة تعليم أولادي مثل أولاد الآخرين، وأن الفقراء يجب أن يكونوا كالأغنياء حتّى ولو هبطوا جميعا تحت الصفر، بدون اجتهاد من الفقراء ليكونوا أغنياء، فإن هذا معناه أنني أضيع أولادي وأولادكم ومستقبل الأجيال القادمة، في التزاحم للعبور من عنق زجاجة مسدودة بصخرة عملاقة، اسمها الحقد الطبقي والأنانية والرغبة في أن يسحق كل منا الآخر!
وأنا أعلن الآن بوضوح أن الله إن رزقني بأبناء فإنني لن أقدمهم إلى نظام التعليم، وسأربيهم كأفراد مثقفين منتجين قادرين على رعاية أنفسهم والسعي على دروب الحياة، دون انتظار شهادة من أحد، أو رعاية من دولة مترهلة على وشك إعلان إفلاسها وقتلنا جوعا بدون أية كارثة طبيعية واحدة، إلا كارثة سوء الإدارة والجهل وانعدام الضمير وتولي الأمر من ليس أهلا له.
إنني أقول لكل من يقرأ هذا الكلام:
سواء أعجبك هذا الكلام أم لا، فإن كل المؤشرات تؤكد أن الدولة عاجزة عن الإنفاق على التعليم والصحة، وأن الطريقة الوحيدة لضمان استمرار الوضع القائم هو فرض المزيد من الضرائب ورفع الأسعار التي ستشل المجتمع وتميتنا جوعا وتجعل الشوارع مأوى لنا، وكلنا رأينا ما حدث مؤخرا حينما رفعت الدولة أسعار الوقود وفرضت الضرائب على العقارات.. كل هذا في سبيل تعليم لا يعلّم، وشهادة لا توظّف، ودولة لا تملك قرارها السياسي، وإن استمرت معدلات الانهيار فلن تستطيع الإنفاق حتّى على جيشها، وسيكون الباب مفتوحا على مصراعيه لكوارث أقسى وأشنع!
ولقد سمعت د. أحمد نظيف أكثر من مرة يطالب الإعلام والمثقفين بمساعدته في تغيير ثقافة المجتمع، حتى يتجه الناس إلى التعليم الفني ويبتعدوا عن الشهادات الجامعية عديمة القيمة.. كما أعلنها د. أحمد نظيف صريحة في مجلس الشعب: من أراد التعليم للرفاهية أو للوجاهة الاجتماعية فلديه الجامعات الخاصة.. أما الدولة فإنها لا تستطيع أن تدعم أكثر من ثلث الدارسين في الجامعات!!
وأنا هنا سأدعو لما هو أبعد وأكثر توفيرا، وسأقول لكل من يقرأ هذا الكلام:
اسحب ابنك من التعليم وثقفه بطريقتك وعلمه حرفة ليكون منتجا.. لا تضيع ثلث عمره في تعليم فاشل فاسد مفسد وبطالة لا أول لها ولا آخر، واترك لنا أملا ولو ضئيلا في إنفاق بعض نقود الدولة على العباقرة والعلماء والمخترعين والمبدعين، فلا شيء سيتغير ما لم يحدث هذا.. لا أحد يستفيد من أن نكون جميعا متساوين في الجهل والفقر والمرض والتخلف والهوان.
يجب أن نقر بحق الأكثر اجتهادا وذكاء وموهبة في أن يعلو علينا حتّى يقودونا إلى مخرج مما نحن فيه.. فإن لم يحدث هذا، فسيظل شعارنا جميعا: "نحن لا نكون الأفضل، ولكن نتمنى ذلك"، دون أن نفعل أي شيء لتحقيق هذه الأماني المستحيلة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.