أهم أقسام المدونة

الصفحات

الخميس، 2 سبتمبر 2010

شـيء مــا حـدث

شـيء مــا حـدث

شيء ما حدث..
لا أدري ما هو.. أين؟.. كيف؟
فقط قد حدث!
منذ الصباح وتداخلات الرؤية تزعج عيني.. لعلها بعض خيالات رقيقة جذبتني.
باكرا كدت أصدم السيدة (جميلة) وأنا في كامل سرعتي، ظانا أن فستانها الوردي هو اندياح لون الأصيص في يدي على شعاع الضوء المارق من النافذة.
في ثانية انبعج البساط، التاثت الخطى، صرخت الزهرة والطمي يتناثر على شظايا صيحة السيدة (جميلة) الحارة، المبللة بنكهة النَعناع والشاي الذي لوّث النسيج الوردي:
-       ما هذا يا (قعقاع)؟.. ألا تحترس؟
-       آسف يا سيدتي.. سأنظف المكان حالا.
اعتبرت ما حدث سهوا خارجا عن إرادتي، رغم أني حقا كنت أشرد طويلا.
نظّفت المكان، وأنا أفكر في اللحظات الجميلة التي تنسكب فيها الأطياف على الكون، وتتماوج فيها الدوائر المتعاظمة، تغمرني بشلال من النشوة.
أحبّ لحظات خلودي إلى نفسي.. خلودي في نفسي.. لحظات امتلائي بالوجود.
أنهيت الأمر فَحَرّدْتُ إلى كوخ الحديقة.
في الطريق رحت أتأمل (مُدلَّل)، واقفا يبعثر الرِّثاءَ على نفسي ورذاذَ الماء على عدستيّ.
يبدو أنّ ساقه انزلقت وهو يسير على حافّة حوض السباحة.
ارتجافة البلل تبدو مزعجة، خاصة وهذه الكائنات لا تحبّ إحساسها.
أعجبني (مدلل) هذا اليوم كثيرا.. لم يكن يحمل لي حقائب ودّ، ولكني لم أكن أزعجه أساسا.
في الغالب كان يرمقني بشغف.. أحيانا نادرة يتمسح في ساقي، فأذوب إلى مجرات بعيدة من الشلالات المتدفقة المتألقة.. ولهذا اتجهت إليه مؤملا في لحظات مرحة.
ولكن عجبا.. هذه المرّة كان متوترا.. في الحال تقوّس ظهره، وبدا فراؤه المبلل مدججا بالإبر.
فتح فمه لحظة ثمّ أغلقه.. فتحه ثمّ أغلقه.
لم أفهم مدلول تكرار الفعل الأخير، خاصة وقد تعوّدت أن يقترن بتأثير صوتيّ.
ربما هو عصبيّ بسبب الحادث المضحك الذي بلّله.
اقتربت منه فتراجع متوترا، لكني أكملت.
لم يستمرّ في تحفّزه طويلا، فقد التوى فجأة مائلا بجسمه يمينا، حتّى إنه انزلق ثانيةً ملطخا ناصع فرائه بالطين، قبل أن ينطلق كصاروخ ويختفي بين النباتات الخضراء.
تأملتُ سرابه لحظة وأنا أنصهر في تسرّبات الدهشة واللا منطق.. تساءلت حائرا:
-       هل يبدو بي شيء مزعج؟.. لعله يحس بالغريزة بشيء خاطئ.. هل في مظهري ما يزري؟
لم أحدّد إجابة، فوطّنت نفسي على تأجيل ذلك والاتجاه إلى الكوخ.
-       هيه.. عمل طويل.
تأملت جدرانه الداخلية مرصّعة باللوحات في رضا.
عمل جيد.
اتجهت إلى لوحة الرسم.. لم تكتمل لوحة الأمس.. كل التصميمات جاهزة، والسيد (جميل) يبدو متعجلا.
لولا أعباء المنزل التي تزن الكثير ما حدث ذلك.. يمكنني أن أزيد من سرعتي، ولكنه يحذرني دوما:
-       الدقةَ يا (قعقاع).. الدقة.
-       تمكنني وأنا مسرع يا سيدي.
دوما يبتسم ويقول بلهجة مُشفقٍ على جاهل:
-  يا بني: للفنّ أيضا حرمة.. قد تتساوى النتيجتان في المظهر الخارجي، ولكنّ اللوحة السريعة لن تستطيع أن تبكي تحت عينيك وتضخ متاعب رسمها.. لن تقول لك في ضراعة: يا سيدي: قدّرني أرجوك.. لقد أُنهِكتْ يدان وعينان ومُخيّلة فنّان حتّى أشرَقتْ عليّ عيناك.
في الواقع لم أكن أفهم كلماته جيدا، ولكن أقول:
-       طيب سيدي.
ما هذا؟.. هل هو دوار؟.. كلا اتزن.
مؤخرا ينتابني شيء من ضعف التركيز.. يجب أن أنتبه أكثر، وربما أستشير أحدا.
أين أنا؟.. آه.. هنا.. ولكن.....
إم.. لماذا يبدو شيء ما خاطئا في اللوحات؟.. أعتقد أن شيئا ما كان ناقصا.. دائرة حمراء متوهجة الحواف في منتصف كلّ لوحة.. أوه.. إنّه رائع.
-       قعقاااااااااااع!!
نداءُ مَن ثكِل عزيزا.. زئيرا ربما كان، لأن السيد (جميل) كان مرتاعا والدماء تكاد تنبثق من وجنتيه المنتفختين!
يبدو مضحكا وهو في سرواله القصير وقبعته العريضة!
-       قعقاع أيها التعِس ماذا فعلت؟.. ماذا فعلت؟
لو أنه فقط استطاع اعتلاء صهوة شبابه، فربما حمل صخرة غضب ضخمة وتركها تهوي من فوق.. من فوق.. فوق رأسي!
-       سيدي.. كانت تبدو عطشى للدفء.. للوهج الساطع.. هكذا تتحرر سيدي!
-       قعقاع أيها التعِس.. أيها التعِس!
كان باكيا حتما.. مشكلة هم هؤلاء المخرفون حقا!
شرع يحتضن اللوحات، يتحسسها بأصابع مرتعشة، يُندي طيور الأفق فيها بدمعاته.
لو رآه السيد الصغير فربما انتقم مني.. عجيب هو الخيط الخفي الذي يحركه لانفعالات السيد والسيدة.
***
لا أدري كيف سامحني..
ولكنني هنا منذ ساعتين، أتخبط أثناء وقفتي الساكنة في سخونة أفكاري العجيبة.
هناك شيء ما يحيرني..
أكاد أهمّ بفعل شيء.. قول شيء.. ولكن ما هو؟.. لعلي نسيت.
أو أنّه مجرّد شعور بالتوتر، لأنني ارتكبت فعلين مشينين اليوم.
لي أن ألتمس أعذاري، فليست الكفاءة دائما بنفس المنسوب.
ولكن أليس هناك شيء ناقص؟.. شيء ما؟
لا.. شيء ما قد حدث لي هذا اليوم.. أنا لست على ما يرام.
إذن أكتفي بمراقبة الانتحار، وكئوس الدم التي تسيح وراء النافذة، وهروب الأطيار إلى سكينة الأشجار.
إنني مريض.. لماذا أكابر؟.. حقا إنني كذلك.
شيء ما حدث لي.. منذ الصباح وهو يجذبني إلى هامشه المظلم ليسرق مني تلافيفي.
هل أخبر أحدا بذلك؟.. تراهم سوف يشفقون عليّ أم سوف... يطردونني؟
أنا خائف..
لا أريد أن أهيم على ضعفي وسط مقالب الخردة، أتسول الفائض المتسخ، مكتفيا بالقليل من المرح والكثير من الموت.
أشعر بالخَوَر.. عضلاتي مفككة كدمية تقطّعت أحبالها فتهاوت في مكانها لا حول لها.
هل.. هل سأعاني طويلا؟
ربما يتمسّكون بي ويحتفظون بي في المنزل، كعضو خامل يُكلّفهم ولا يَكفُلهم.
ربما يحملونني إلى المصحّة، حيث يكون كلّ ذلك وهما.. مجرّد وعكة بسيطة وتنتهي.
أو ربما أكون أحتضر.
ماذا بي؟.. لماذا كلّ هذه الأفكار السوداء؟
-       اللعنة.. قعقاع.. إنني أناديك.
أخ.. تبدو السيدة (جميلة) منزعجة.. أنفاسها تعلو وتهبط في سرعة، وكلها متحفز وهي تطلّ على الرَّدهة عبر الباب المفضي إلى المطبخ.
-       قعقاع.. من أمرك أن تفعل هكذا بالعشاء؟
تأملت الطبق الكبير في يدها: ماذا غريب في رائحة الكاوتشوك المحترق الممتزج بقشر البيض المتفحم؟
واتاني إحساس ما: هي والرجل يبالغان كثيرا اليوم!
هل هي الشيخوخة سالت من شعيراتها البيضاء إلى شعيراتها الحمراء وتلافيفها الكهربية؟
ربما يُضمران شيئا ضدي.. حقدا ما، لأنهما يشعران أني أكثر مرونة منهما.. أعرف شيئا عن هذا الأمر.
ربما أنا مبالغ... قد تكون وهجة شيطانية هي التي تسللت في مساراتي فجأة نتيجة خطإ في نفسي.
أنا حائر: أخبرها وأرى، أم أكظم كل شيء حتّى أستعيد سيطرتي على تناغمي؟
آه فقط لو أعرف ما حدث!
فُتح الباب في تلك اللحظة لنلتفت تلقائيا.
-       آه.. ولدي.. انظر ماذا يفعل بنا (قعقاع).
ها قد حضر السيد الصغير.. سريعا ما يطوح بحقيبته إلى أقرب مقعد، يتخلص من سترته الثقيلة، ويرحم عنقه من رابطته.
طبع القبلة المعتادة على خد السيدة (جميلة) سائلا:
-       وماذا فعل؟
-       الكثير.. الكثير يا ولدي.
أخ.. لها لهجة متذمرة ستشحنه ضدي.
-       منذ الصباح وهو يرصّ الأفاعيل تلو الأفاعيل.
نظر لي مندهشا، ثم فجأة ضرب جبهته براحة يده:
-       أوهوه.. لعلي المسئول.
وتوجّه نحوي برفق مشفق:
-  يا لك من مسكين يا (قعقاع).. لقد هرولتُ إلى العمل متعجلا، ونسِيتُ أن أزود بطاريتك بالطاقة هذا الصباح.. يبدو أن جزءا من طاقة وحدة المنطق لديك قد تسرب مع جوعك للطاقة.
وكشف المربع المعدني عن ظهري وانتزع سلكي التزويد، ليدسهما في ثقب الطاقة بالحائط قائلا:
-       آه فقط لو كنت من طراز حديث يستطيع تزويد نفسه بالطاقة!
والتفت يقول شيئا للسيدة (جميلة)، لكني لم أسمع كلماتهما، فقد كنت غارقا في نشوة عظيمة وأنا أتلذذ بمذاق الطاقة، التي تغمر جسدي وتنعش دوائري البصرية والسمعية، وتبعث فيّ أحاسيس التحرر والنشاط.
هوووه.. كل الهواجس كانت أوهاما.. إنني ما زلت أعمل بكفاءة.
الآن فقط كلّ شيء على ما يرام.
***
محمد حمدي غانم
1996

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.