أهم أقسام المدونة

الصفحات

السبت، 1 فبراير 2020

وحيدا سرت



في أكتوبر عام 2009، كتبت قصيدة "وحدك" وأرسلتها إلى د. محمد عطية الذي هو في الغالب أول من يقرأ قصائدي فور كتابتي لها وقبل أن أنشرها على أي من صفحاتي.. وقد أرسل لي هذا التعليق:
حلوة جدًّا، تسلم يداك على ما أمتعتني بقراءتها.
أعلم طبعاً أنها يمكن أن تعبر عن العديد من يشعرون بالاغتراب مثلك ومثلي ومثل أي إنسان يحاول أن يجد طريقه وسط محنة الحياة الدنيا، ولكن هل كان بذهنك أحد بعينه؟
طفر بخاطري هذان البيتان بعد قراءتي قصيدتك:
وحيدًا سرتُ في تيهٍ ::: ظلامُ التيهِ يُعثرني
غريباً صرتُ يا وطني ::: فأشتاتي تُبعثرني
محمد عطية
***
فكتبت أجيبه:
الصديق العزيز والأستاذ القدير د. محمد عطية:
أهنك أولا على النجاح المتوقع لمحاضرتك في كندا، والتي يزيد سعادتنا بها أنها حول تقنية تتعامل مع اللغة العربية، فأنت بهذا سفير فوق العادة للثقافة والإبداع التقني العربيين.
وأشكرك ثانيا على قراءتك لقصيدة "وحدك"، ويسعدني للغاية أنها أعجبتك، فآخر قصيدة كتبتها كانت منذ عام، وأنا أشعر بالقلق دائما أن تشيخ معي قصائدي، وتفقد حماسة الشباب وصدق العاطفة، ويرين عليها ما يرين علينا من رتابة الأيام وملل التكرار.
أما عن سؤالك عمن كان في ذهني وأنا أكتبها، فهو سؤال في محله، لأن بعض أجزائها يصعب تفسيره بدون معرفة من كتبتها له.. مثلا: "ضنوا على الجثمان أن يختار لحدك".
والحقيقة أن هناك إهداءً على هذه القصيدة، ولكني آثرت أن أرسلها إلى أصدقائي المثقفين المتذوقين دونه، لأستشف إن كانت القصيدة تحمل جمالها الخاص بدون شرح مني، أم أنها لا قيمة لها بدون التفسير.. والحمد لله، لقد أعجبتهم، وتوّجتَ أنت هذا الإعجاب بردك هذا فشكرا لك.
هذا هو الإهداء:

أهديها إلى الناقد الدمياطي الراحل "مصطفى كامل سعد"، الذي مات وحيدا في شقته ولم تكتشف جثته إلا بعد أيام.
وأهديها إلى د. مصطفى محمود، الذي يموت وحيدا معدما وترفض الدولة علاجه أو إكرامه، وهو أحد رموزها.
وأهديها إلى كل مبدع هجره وطنه، يعاني وحيدا آلام المرض وسكرات الموت!

 لقد صار الأمر ظاهرة، ككل شيء يبدأ في مصر ويتوغل وينتشر ويستمر ويستمر ويستمر .....!
أذكر أني منذ أكثر من عشرين عاما شاهدت في برامج التلفزيون تغطية عن السيدة العجوز التي ماتت ولم تكتشف جثتها إلا بعد شهور (وربما سنوات لا أذكر)، وكان الأمر يبدو ـ رغم بشاعته ـ وكأنه حادثة فردية تحدث هناك فقط.. في تلك المدن المزدحمة كالقاهرة والإسكندرية التي تقطعت فيها أواصر العلاقات الإنسانية، وعشش عليها عنكبوت الأنانية وبرودة الفردية.. لكن الآن صرت اقرأ عن هذه الحوادث مرارا وتكرارا، وصارت تحدث قريبا مني في دمياط، وكأننا نعيش في مقابر وليست عمارات سكنية فيها جيران أو حتى بواب أو حتى عامل نظافة يفتقد مخلفاتنا، وكأننا لم ننجب أبناء ونتعب في تربيتهم، وكأننا لا نملك أجهزة محمول ننفق عليها مئات الجنيهات شهريا للاتصال بـ 0900 للاستفسار عن تفسير الأحلام أو تحميل أحدث النغمات، بينما نبخل على من ربونا بمجرد رنة نتأكد بها أنهم على قيد الحياة!
المؤسف أنني لا أعرف ما هو المقابل الذي أخذناه.. لقد ضمنا لأنفسنا بجدارة كل أمراض الحضارة الصناعية والمدنية الحديثة، فلدينا طوابير من البطالة والعنوسة والمطلقات وأطفال الشوارع تفضي كلها إلى الجريمة والفاحشة، وأعلى نسب تلوث في الماء والهواء والتربة والطعام تفضي إلى ملايين الحالات من الفشل الكلوي وأمراض الكبد والسرطان، لكن العجيب أننا لا نصنع شيئا ولا نزرع شيئا وليس عندنا تعليم ولا بحث علمي ولا اقتصاد ولا قوة عسكرية ولا أي شيء.. فلماذا جنينا على أنفسنا ولماذا لم نَجنِ شيئا في المقابل؟!
أعتذر إن كنت أطلت عليك، أو نقلت إليك هذه الصورة الكئيبة، لكنني صرت مرعوبا من فكرة أن أموت وأتعفن دون أن يهتم أحد بوجودي أو عدمه، سواء تزوجت وأنجبت أم عشت وحيدا، فكما ترى لم يعد هناك فارق!
نسيت أن أسأل:
هل البيتان اللذان طفرا في ذهنك لك، أم تقصد أنك تذكرتهما، لأنه سيكون اكتشافا مدهشا لي أنك شاعر أيضا، فأنت لم تذكر لي هذا من قبل.
على العموم، البيتان جميلان من بحر الهزج (مفاعيلن مفاعيلن)، وأنا أضيف إليهما:
فقيرا لاعتناقِ الصَحْــبِ أشباحي تدثّرني
كأني أعشقُ الأشجانَ والأشجانَ تُؤثرني
تحياتي
***
فردّ عليّ قائلا:
البيتان من تأليفي ولكني لا أعد نفسي شاعراً.
أكرر إعجابي بقصيدتك وقد وصلتني معانيها التي تفضلت بذكرها.
رحم الله الراحلين وخفف عن الأحياء وأصلح الحال ، فيبدو أنها لن تنفرج إلا إذا ضاقت حلقاتها حتى كادت أن تخنق أهلها، وكما قال الشيخ الشعراوي رحمه الله أن "الباطل جندي من جنود الحق لأنه لولا تجرع الناس مر الباطل لما تشوفوا لحلاوة الحق"
أصلح الله حالكم وحالنا وحال المسلمين.
السلام عليكم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.