أهم أقسام المدونة

الصفحات

الخميس، 18 أكتوبر 2012

لا نفع الآن من إضراب الأطباء!!


لا نفع الآن من إضراب الأطباء!!

يقول البعض إن ميزانية وزارة الصحة لو وزعت على الأطباء لحصل كل منهم على راتب لا يقل عن 17 ألف جنيه شهريا!!

وقبل أن أفند هذا الادعاء، أحب أن أقول أولا إنني من أشد المؤيدين لتحسين أوضاع الأطباء قبل غيرهم، لأن أرواحنا في أيديهم، ولا يغيب عن أي منا الكوارث التي نراها كل يوم بسبب تحولهم إلى آلات لجمع المال خارج وزارة الصحة!!

إضافة إلى أن مأساة الطبيب المصري تنافس الملاحم الإغريقية، فلسبب غير مفهم يتعلم ست سنوات في الكلية لكي يخرج ممارسا عاما، ويضيف إليها سنة امتياز وسنتي تكليف (يقابلهما سنة أو ثلاثة لمن يجند في الجيش)، إضافة إلى ثلاث سنوات ماجستير للحصول على التخصص.. وبعد كل هذا التعليم يحصل على مرتب لا يزيد كثيرا عن مرتب عامل النظافة الأمّيّ، ويعمل في مستشفيات غير آدمية ويتعرض للإهانة والضرب من البلطجية وأهالي المرضى الذين لا يحصلون على الاهتمام الكافي (وفي أحيان كثيرة لا يكون هذا ذنبه)!!

لهذا كنت طوال السنوات الماضية أطالب بتغيير طريقة الدراسة في كلية الطب لاختصار هذا المسار العبثي وتخريج طبيب متخصص وليس ممارسا عاما، ودعوت لمنع تجنيد الأطباء كضباط احتياط فالجيش لا يستفيد منهم كأطباء فعليا، وبالتأكيد أنا مع تحسين وضع الطبيب المادي هو وكل أفراد المنظومة الطبية.. ولكن هذا أمر ليس سهلا ما دام العلاج مجانيا، وأنا مع بقائه مجانيا (على خلاف التعليم) فعلاج المرضى الفقراء أول واجبات الدولة.

نعود الآن إلى تلك الفرضية العجيبة، التي تدعي أن نصيب الطبيب من الرواتب سيصل إلى 17 ألف جنيه شهريا لو تم تقليص الحد الأقصى للأجور:

أولا: نسبة الرواتب في ميزانية الوزارة لا تتجاوز النصف ـ وهو كثير أصلا، لأن باقي الموازنة ينفق على البنية التحتية والسيارات والصيانة والتوعية والإرشاد وبنود كثيرة أخرى غير الدواء والأجهزة الطبية، وهذا يجعل ما يحصل عليه المريض من رعاية مباشرة ضئيلا جدا!!

ثانيا: هناك من حسب نفس الحسبة ووصل إلى أن أجر كل طبيب سيصل إلى 5 آلاف جنيه.. وهذا يعني أن هناك اختلافات في تقدير عدد الأطباء.. هذه الحسبة الجديدة مبنية على أن الأجور حوالي 13 مليارا سنويا والعاملين في الوزارة أجمعين 270 ألفا.. وهي وإن كانت أقرب إلى الواقع، إلا أنها ما زالت غير دقيقة كما سنرى بعد قليل.

ثالثا: الرقم الناتج عن الحساب هو متوسط الرواتب، ولا يمكن إعطاؤه لكل طبيب على اختلاف درجته العلمية وتخصصه وموقع وظروف عمله، وتدرجه في المناصب بالأقدمية وغيرها من الاختلافات التي تؤثر في مقدار الأجر.. وهذا معناه أن الحد الأدنى يجب أن يكون أقل بكثير من متوسط الأجر المحسوب، ليراعي جميع الفروق المذكورة.

رابعا: (وهو الأهم): وزارة الصحة ليست وزارة للأطباء فقط، ومرتبات الوزارة تصرف على تخصصات كثيرة منها:

الأطباء (بما في ذلك أطباء الأسنان والعلاج الطبيعي وأي تخصصات طبية أخرى)، الصيادلة، الممرضون، فنيو الأشعة والتحاليل، العمال (كعمال النظافة)، الحراس، المحاسبون والقانونيون والإداريون، سائقو الإسعاف.. بل إن وزارة الصحة فيها مهندسون (مثل مهندسي الأجهزة الطبية وهذا أحد تخصصات قسم الكهرباء، ومهندسي الحاسب في المستشفيات التي تستخدم نظما رقمية).. ناهيكم عن وجود مستشارين إعلاميين وهندسيين وغيرهم في الوزارة.. وغير ذلك من التخصصات التي تجلّ عن الحصر هنا.

(ملحوظة: تشير الإحصائيات إلى أن هناك 240 ألف ممرض وممرضة، ويصل عدد الأطباء في مصر إلى حوالي 200 ألفا.. وهذا معناه أن عدد العاملين في الوزارة من جميع التخصصات بما في ذلك العمالة المؤقتة والعمالة الموسمية وأي مسميات ثعبانية أخرى، يتجاوز بكثير الرقم 270 ألفا الذي يظنه البعض)

في الحقيقة، لكل طبيب في وزارة الصحة، ستجدون على الأقل خمسة أشخاص من تخصصات أخرى يعاونونه في عمله، والنتيجة أننا لو أعدنا حساب متوسط الأجر، فلن يزيد عن 1000 جنيه مع المبالغة!!.. وإن أدخلنا التدرج الوظيفي في الاعتبار، فقد نجد أنفسنا أمام حد أدنى لا يزيد عن300 جنيه، التي كان الطبيب يحصل عليها عند بداية تعيينه!

والملاحظة الخطيرة هي: إذا رفعت الوزارة رواتب كل التخصصات التي أشرتُ إليها أعلاه (وكلهم يطالبون بالزيادة)، فستحتاج إلى زيادة ضخمة في الميزانية لمجرد تغطية الزيادة في الرواتب، دون أي تحسن في الخدمة الطبية المقدمة للمرضى، بل ستكون على حساب زيادة الضرائب المفروضة عليهم وعلى باقي المواطنين!!

علينا أن نعترف أن هناك خللا في الدولة ككل، وزيادة أجور جميع الفئات دون زيادة حقيقة في ثروة الدولة وإنتاجها، ستؤدي إلى مزيد من التضخم وارتفاع الأسعار، واستمرار كل فئة في نفس وضعها النسبي دون تحسين أي شيء!

بينما لو خفّضت الدولة الحد الأقصى، واستعادت حقوقنا التي نهبها الفاسدون، ورشدت الإنفاق الحكومي على التفاهات والكماليات والشكليات، وأوقفت إدار المال العام، ثم وجهت هذا الفائض لإنشاء مشروعات اقتصادية، فإن هذه المشاريع ستستوعب عمالة أثناء إنشائها، وسيتم تعيين العاطلين فيها بعد إنشائها، وستزيد الإنتاج المحلي مما يقلص المستورد، ويتيح للدولة خفض الجمارك والضرائب، وبالتالي ستقل الأسعار ويقل التضخم، ويرتفع مستوى كل فئات المجتمع بدون أي زيادة في الدخل.. وهذا هو النمو الحقيقي للاقتصاد.

رجاء: لا تسمعوا لشعارات المتاجرين بمشاكل الناس، والحالمين في عوالمهم الخرافية، فهم لا يقدمون أي حلول عملية، ولا يفهمون أبعاد الاقتصاد، ولا الصورة الحقيقية لأي قضية يتكلمون عنها.. وهذا من مخلفات تركة مبارك التي نماها طوال ثلاثين عاما!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.