التّـحـــــــــــــدّي
لمْ تكُن فتاةً عاديّة.
غنيّة، جميلة، مثقّفة، مهذّبة.
ولكنّها على كثرةِ ما تقدّمَ لها من خطّاب، لم تقتنعْ بواحدٍ منهم.
رأتْهم كلَّهم تافهين، ما إن تتحدّثْ مع أحدِهم لعشرِ دقائق، حتّى تحسَّ بالنفورِ منه، فهو إمّا سطحيٌّ ضحلُ الثقافة، أو طامعٌ في مالِها، أو منبهرٌ بجمالِها، أو كلُّها معا!
لهذا انقسمَتِ القلوبُ حولَها قسمين: قسمٌ أقعدَه الخوفُ على كرامتِه من الرفض، عن أن يغامرَ بالتقدّمِ لخطبتِها، وقسمٌ استهواه التحدّي، فنزلَ ساحةَ الوغى بكلِّ أسلحتِه.
*****
وهو كانَ من القسمِ الأخير.
ملأتْه شخصيّتُها المتفرّدة بالتحدّي، فقرّرَ أنَّ الموضوعَ يستحقُّ المخاطرة.
لهذا حشدَ كلَّ أسلحتِه وأقدم.
*****
لم يستطِعْ أن ينكرَ بينَه وبينَ نفسِه أنها كالقمر، كالفتنة، كحوريّاتِ الجنّة.. أنّها الجمالُ نفسُه.
ولكنّه أخفى مشاعرَه في أعماقِه، وهو يسألُها:
- ألا ترَيْنَ أنّها طريقةٌ شاذّةٌ نوعًا لاختيارِ عريس؟.. أشعرُ أنّني في اختبارٍ شخصيّ، لم ينجحْ فيه أحدٌ حتّى الآن.
مطّتْ شفتيها وقالتْ:
- فلتَقُلْ إنّني سئمتُ من أن تظلَّ المرأةُ سلعةً تُختار.. لماذا لا أختبرُ أنا الرجال؟
- فليكُن.. دعينا نبدأ الاختبار.
- هل أنتَ مستعدّ؟
- منذُ ثمانيةٍ وعشرينَ عامًا!
- ...!
- عمري.. الزمنُ الّذي استغرقْتُه في بناءِ شخصيّتي.
- وهل أكملْتَ بناءها؟
- هل ترَينَ أمامَكِ كهلا؟.. بالطبعِ لا، وإلا فماذا سأفعلُ في بقيّةِ عُمري؟
- اممم.. إذن فأنتَ مستعدٌّ من يوم وُلِدتَ، ولمّا يكتملْ بعدُ بناءُ شخصيتِك!.. ألا ترى في هذا تناقضا؟
- [مبتسما بهدوء] سأسألُك أنا.
- سَلْ.
- هل شعَرْتِ لحظةً أنّكِ أصغرُ من أن تعي أو تدركي ما يدورُ حولَك؟
فكّرَتْ لحظةً وأجابت:
- لا.
- إذن فأنت ناضجة دائما.. لكنّ هذا لا يمنعُكِ أن تندهشي أحيانا، عندما تكتشفينَ أنّ مَن حولَكِ صاروا يعاملونَكِ باعتبارِكِ أكبرَ سنّا ونضجا، وأنَّ الزمنَ قد مرَّ وازدادَ عمرُكِ دونَ أن تنتبهي.. أليس كذلك؟
أمّنَتْ على كلامِه بإيماءةٍ من رأسها أن بلى، فأردف:
نظرتْ له لحظةً وهي تتأمّلُ كلماتِه، قبلَ أنْ تعتدلَ قائلةً باهتمام:
- يبدو أنّكَ قد نجحتَ في الإجابةِ عنِ السؤالِ الأوّل.
- آه.. فاتحةُ خير.. لو أنَّ كلَّ الأسئلةِ بهذه البساطة، فسأحصلُ على الامتيازِ عن جدارة.
- أعتبرُ هذا تسرّعًا؟
- اعتبريه فطنة.. فَراسة.. حُسنَ تقدير.
- هل أنتَ مغرور؟
- لماذا جئتُ إن لم أكُن؟
- ألا تخشَى من هذه الصراحة؟
- وأنتِ مغرورةٌ مثلي؟.. لا أظنّ.
- مغرورة؟.. كيفَ تحكمُ عليَّ دونَ أن تعرفني؟
- قلتُ لكِ إنّي فطِنٌ متفرّس.. ثمَّ إنَّ طفلةً بجمالِكِ لا تستطيعُ أن تقاومَ غرورَها.
ابتسمَتْ قبلَ أنْ تسألَه:
- هل تعرفُ لِمَ ابتسَمْتُ؟
- هل توجدُ اختيارات؟
- كلمةٌ من كلماتِك: طفلة، جميلة، مغرورة.
- طفلة.
- ألا تتردّدُ أبدًا؟!
- أضيفي إلى معلوماتِك: "متهوّر".
- لماذا لم تَقُل: "شجاع".
- حينما تكتشفينَ عقلي فستتحوّلُ تلقائيّا إلى "شجاع".. [وغمز بعينِه] دونَ أن تُكرّري وصفي بالغرور!
ابتسمتْ قبلَ أنْ تقول:
- على العموم، "طفلةٌ" بالفعلِ هي الإجابةُ الصحيحة.. هل تعرفُ إذن لمَ دفعتْني هذه الكلمةُ للابتسام؟
- لأنّها مسّتْ جزءًا من ذاتِك، هو الّذي بنيتِ عليه نُموذجَ فارسِ أحلامِك.
- كأنّكَ تعرفُ هذا النموذج!
- إنّه يجلسُ أمامَك!
- دعنا نرَ.
نظرَ في عينيها مباشرةً وصمتْ.
تمنّتْ أن تقهرَ نظرتَه الواثقة، ولكنّها ارتبكتْ وهربتْ منه ببصرِها.
أحسّتْ بشيءٍ عجيبٍ لم تحسَّ بمثلِه من قبل.
كانت أنفاسُها خاشعة، ونبضاتُها متهيّبة، ولم تكونا كذلكَ يومًا.
ثمَّ شعرتْ بقوّةٍ مغناطيسيّةٍ تجذبُ عينيها مرّةً أخرى لعينيه، فعادتْ إليهما.
تمتمَ بثقة:
- لنْ أبدأ بالقولِ المعسول، ولن أقولَ إنَّ جمالَكِ مهما بلغَ يمكنُ أن يُفقدَني عقلي، أو أن يجعلني خَاتمًا في إصبعِك.. أعرفُ أنّكِ عنيدة، ولكنّي لن أتركَ عنادَكِ هذا يكسرُ رجولتي.. إنّني من النوعِ الّذي إذا أحبَّ وثِق، وإذا غارَ ثار، وإذا مسَّ أحدٌ مَن يحبُّهم صارَ بركانًا لا يَذر.. ولكنّ هذا لا يعني أبدًا أن تسيطر عليّ فتاتي أو تُخضعَني.. ربّما أطربني جمالُك، فهو مما يُبهجُ النفسَ والقلبَ ويُعمّقُ الحبّ.. ولكنَّ أكثرَ ما شدّني لخوضِ هذا التحدّي هو عقلُك.. أخلاقُك.. شخصيّتُكِ الفريدة.
وابتسمَ مردفًا:
- العنيدة.. وأنا أعرفُ كيفَ أعاملُ القططَ المتمرّدةَ العنيدة، وكيفَ أقوّمُ الأضلاعَ المعوجّةَ دونَ أن تنكسر.
- [بتحدٍّ أقربَ ما يكونُ للدلال] ومن قالَ لكَ إنَّ هذا ما أريدُه؟.. ألا تعتقدُ بذلكَ أنّي سأنفرُ منك؟
- لغةُ العيونِ غيرُ لغةِ الألسن، وأنتَ لا ترتدينَ ما يُخفي عينيك.
- [ارتبكتْ وهربتْ منه ببصرِها] حسنًا.. سأفكّر.
نهضَ قائلا ببساطة:
- هذا بالنسبةِ لي يعني الرفض.. وداعا!
وتحرّكَ للانصراف، فتردّدتْ لحظة، قبلَ أنْ تهتف:
- مهلا.. لماذا هذا التعنّت؟
توقّفَ واستدار، فتمتمت:
- أليسَ من حقّي أن آخذَ مهلةً للتفكير؟
- [مطَّ شفتيه] وأنا كذلكِ من حقّي أن أضعَ قواعدي.. لقد قبلْتُ قواعدَك، فاقبلي خاصّتي.
بدا عليها التحيّرُ، فنظرَ في عينيها قائلا:
- لا تكابري، فأنا أكرهُ المكابرينَ المتكبّرين.. أنتِ معجبةٌ بي، وتشعرينَ بالسعادةِ لأنَّ شخصيّتي طغتْ على شخصيّتِك، لأنّكِ ببساطةٍ: أنثى، طفلة، يُسعدُكِ أن تشعري بالأمانِ والحمايةِ في كَنفِ رجلٍ قويّ.. [واكتسى صوتُه بالرقّة] أنا أيضًا مغرمٌ بك، بجمالِكِ الفاتن، بعقلِكِ الراجح، بشخصيّتِكِ الفريدة، بعنادِكِ الطفوليّ، بغرورِكِ بتميّزِك.. كم أتمنّى أن أقتربَ منكِ لأعرفَكِ أكثر، وأُلملمَ من دُررِكِ أكثر.
خفقَ قلبُها وتتمتمَت بخجل:
- ربّما يُحنقُني قليلا أسلوبُكَ المغرورُ هذا، ولكنّكَ تبدو مختلفًا بالفعلِ عن كلِّ الآخرين.
- هل يعني هذا الموافقة؟
خفضتْ بصرَها متمتمةً:
- يمكنُكَ محادثةُ أبي.
نظرَ لها لحظةً في صمت، قبلَ أنْ تتسعَ ابتسامتُه، لتتحوّلَ بالتدريجِ إلى ضحكةٍ مجلجلة.
- [باستغراب] لماذا تضحكُ هكذا؟
- [من بينِ ضحكِه] لأنّي لم أتخيّلْ أن يكونَ الأمرُ بهذه البساطة.. وأنا الّذي أمضيتُ أسبوعينِ كاملينِ أدرسُ شخصيّتَك، من خلالِ ما يحكى عنكِ من أساطير!
- لا.. لا أفهمُ ماذا تعني.
أخرجَ من جيبِه جهازَ تسجيلٍ صغير، رفعَه أمامَ ناظريْها وقال:
- أعني أنّ أصدقائي ممن حطّمْتِ كبرياءَهم بالرفضِ المتعنّت، سيُسعدُهم سماعُ ما سجّلْتُه هنا، وسيضاعفونَ لي قيمةَ الرهانِ بلا مجادلة.. وداعًا يا ذاتَ الأنفِ العالي.. أو: الّذي كان كذلكِ قبلَ أنْ أحطّمَه!
وأطلقَ ضحكةً عابثة، وانصرفَ تاركًا إيّاها خلفَه تحدّقُ في الفراغ، لا تكادُ تعي ما حولَها من فرطِ الصدمة.
*****
لمْ تصدّقْ أنَّ هذا حدث.
الشخصُ الوحيدُ الّذي خفقَ له قلبُها خدعها ومرّغَ حِثرمةَ أنفِها في ترابِ الإهانة.
أصبحُ الناسُ يتغامزونَ عليها، وتتصلُ بها الحاقداتُ للشماتةِ بها، ولا تلاقي في عينَيْ عائلتِها إلا الإشفاقَ وهو قاتلُها.
لمْ تصدّقْ أنَّ هذا حدث.
هي الّتي أمضتْ وقتَها تضعُ الأسسَ والمعاييرَ الّتي على أساسِها تختارُ شريكَ حياتِها:
ما هي أخلاقُه؟.. طباعُه؟.. كيفَ يفكّر.. كيفَ يحلُم؟
بعدَ كلِّ هذا يأتي ذلكَ الحقيرُ ليُظهرَها بذلكَ المظهرِ التافه؟
الحقير؟
كان عقلُها يبحثُ عن سُبّةٍ أوقع، ولكنَّ قلبَها كان يبحثُ له عن الأعذار.
نعم.. نعم.. وقعتْ في الحبِّ من أولِ لقاءٍ لها به، وعرَفَتْ كلَّ آلامِ الحبِّ في قصّةٍ لم تستغرقْ نصفَ ساعة!
لا لا.. كلُّ ما قاله كان زورا.. بهتانًا وزورا.. افتراءً وبهتانًا وزورا.
إذن ما الّذي يمكنُ أن تحبَّه فيه؟
يجبُ أن تكرَهَه.. تَمقُتَه.. تُبغضَه.
إذا قالتْ هذا حتّى تسلوَ، تَهيجُها صورتُه الوسيمةُ وصوتُه الواثقُ وشخصيّتُه الكاسحة.
ثم يقولُ قلبُها متزلّفًا:
- لقد خدعَكِ نعم، وما غيرُه بفاعلِها.. أليسَ هذا سببًا وجيهًا للإعجابِ به؟!
*****
رنَّ جرسُ الهاتفِ فرفعتْ سمّاعتَه تُجيبُ بشرود.
ولكنَّ وقتًا مضى، دونَ أن يتفوّهَ أحد.. همّتْ بوضعِ السّماعة، ولكنَّ المتصلَ قال فجأة:
- أرجوكِ لا تضعي السّماعة.
قفزتْ نبضاتُها إلى الذروة، وتمتمت في مزيجٍ من اللهفةِ والتمنّي والغضبِ والاستنكار:
- أنت؟
- جميلٌ أنّكِ ما زلتِ تذكرينَ صوتي.
- من يلدغْه الأفعوانُ لا ينسَ فحيحَه.
- صوتُكِ لا يدلُّ على الكرهِ الّذي تمنّيتُه.
- تتمنّى أن أكرَهَك؟
- حتّى يتوقّفَ عذابُك.
أرادتْ أن تصرخَ بأيِّ جملةٍ ساخرةٍ مستنكرة، ولكنَّ دموعُها سالتْ في صمتْ.
قالَ لها برقّة:
- أرجوكِ لا تبكي.
كفكفتْ دموعُها، وسألتْه بتحدٍّ، أرادتْ أن تُواريَ به دهشتَها:
- ومن قالَ لكَ إنّني أبكي؟
- قلبُكِ الّذي في صدري.. أنفاسُكِ الّتي في رئتيّ.. رُوحُكِ الّتي أحيا بها.
عادتْ دموعُها تسيلُ وتمتمتْ بمرارة:
- أهي خدعةٌ جديدة؟.. هل تسجّلُ هذه المكالمةَ أيضًا؟
صمتَ لحظةً، قبلَ أنْ يقولَ بخفوت:
- أجل.
توقفتْ دموعُها في دهشة، وحارتْ في اتخاذِ أيِّ ردِّ فعل.
ولكنّه أراحَها من هذا العناء، حينما وضعَ سمّاعةَ الهاتفِ في صمت.
*****
كلّما رنَّ جرسُ الهاتفِ تهيّبتْ أن يكونَ هو، ثمَّ لا تلبثُ لهفتُها أن تُقصيَ تردّدَها، فتختطفَ السّمّاعة.
ولكنّه قَطّ لم يكُن هو.
مضتْ ليالٍ عشر، دونَ أن يعاودَ اتّصالَه، ممّا ملأها بالمزيدِ من المرارةِ والحنقِ عليه.
لماذا تلاعبَ بمشاعرِها هكذا؟
لماذا حوّلَ حياتَها إلى جحيم؟
لماذا؟
*****
ثمَّ اتصل.
رفعتْ سمّاعةَ الهاتفِ فقالَ على الفور:
- ماذا تريدينَ للانتقامِ منّي؟
أُسقطَ في يدِها، قبلَ أنْ تُفهفه:
- ماذا.. ماذا تريدُ أنتَ منّي؟
- أريدُ أن أكفّرَ عن خطئي.
- كيفَ أصدّقُكَ وهذا أثرُ فأسِك.. أقصد: فأسيك!
- لم أستطعِ التمادي.. لقد اعترفْتُ لك.
- [بسخريةٍ وتألّم] تراهنْتَ أنتَ وأصدقاءكَ أنّي سأُلدغُ من الجُحرِ مرّتين!.. ماذا بشأنِ هذه المرّة؟
صمتَ لحظةً قبلَ أنْ يتنهّدَ قائلا:
- حسنًا سأعترفُ لك.. في المرّةِ السابقةِ كُنْتُ أريدُ الاتصالَ بكِ بأيِّ طريقة.. لم تكنْ لذّةُ الفوزِ متمكّنةً من نفسي.. كان خيالُكِ يحتلُّ ذهني وعيناكِ الجميلتانِ يغمرُهما الدمع.. ولكنَّ كرامتي أو غروري أو عنادي منعتْني عن الاتصالِ بك.. وحتّى تجدَ نفسي الخرقاءُ مبرّرًا، تراهنْتُ مع هؤلاءِ الحمقى على خداعِك.
- [بسخريةٍ مرّة] يا للروعة!.. والمفروضُ أن أصدّقَ هذا للمرّةِ الثالثة!
- لا تصدّقيه لو شئتِ ولكنّه الصدق.. عامّةً أنا لا أطلبُ منكِ شيئًا.. إنّني أقدّمُ قلبي على كفنِه وأتركُ لكِ حرّيّةَ الانتقامِ منه.
صمتتْ لحظةً، قبلَ أنْ تسألَه في ألم:
- لماذا خدعْتَني؟
- كنتُ غبيًّا.. كنتُ حانقًا عليكِ لِمَا سمعْتُه عنك، ودفعني التحدّي لمحاولةِ تحطيمِ غرورِك.
- غروري؟.. هل رأيتَ منّي لمحةً واحدةً توحي بالغرور؟
- أشاعوا عنكِ ذلكِ وصدّقْتُه.
- "... فتبيّنوا أن تصيبوا قومًا بجهالة".
- "فتصبحوا على ما فعلتُم نادمين".
- [بسخرية] كيفَ أميّزُ حقَّكَ من خداعِك؟.. "إنَّ البقرَ تشابه علينا"!
- ..........................
- [بتردّد] لم أقصدِ الإهانة.. التشبيهُ يقعُ على الـ....
سألها فجأة:
- هل توافقينَ أنْ أخطبَك؟
- [اختلجَ قلبُها] تخْ.. طبُني؟
- أجل.. أخطبُكِ لفترة، حتّى تيبسَ ألسنةُ الناسِ وتنزويَ شماتةُ الشامتين.. بعدَها يمكنُكِ أن تفسخي الخِطبة، منتحلةً ما تريدينَ من الأسبابِ الّتي تسيءُ إليّ.. بهذا يبردُ غضبُكِ عليّ.
- هل.. هل هذه خدعة جديدة؟
- طبّقي مبدأ: ليسَ من مزيدٍ لأخسرَه.. جرّبي.
وجدتْ نفسَها تتمتمُ بلا تفكير:
- أوافق.
- على شرط.
- ما؟
- أن تكونَ واحدةٌ بواحدة.. بانتهاءِ هذا ينتهي حنقُكِ عليّ.. هل توافقين؟
- أوافق.
وتعاهدا عليه.
*****
كان تعليقُ كلِّ من عَرَفَ بأمرِ خطبتِهما:
- هذه الفتاةُ طيلةَ عمرِها غريبةُ الأطوار، ولن تَنِيَ عن إدهاشِنا.
ليسَ هذا فحسبَ، فجمالُها المبهرُ في ردائها الأبيض، جعلَ الجميعَ يحسدونَه عليها.
ولكنّه ـ لو علموا ـ لم يكنْ سعيدًا كما توهّموا.
تسللَ من بينِ المدعوّينَ في حفلِ الخِطبة، ووقفَ شاردًا يرمقُ النجوم.
ولم يدْرِ إلا وهي بجوارِه تسألُه هامسةً:
- فيمَ تفكّر؟
- التفتَ إليها، وتاهَ في جمالِها لحظة، قبلَ أنْ يقولَ وهو يُشيحُ بوجهِه:
- في الحزنِ الّذي جلبْتُه لنفسي.
- كُنْتَ أنتَ البادئ.
- ....
- لماذا لا تُجيب؟
- أخافُ ألا تثقي بكلامي.
- لا تخفْ.. لقد عثرتُ على جهازٍ فعّالٍ لكشفِ الكذب.
التفتَ إليها متسائلا فقالت بابتسامة:
- قلبُك.
ازدادَ تساؤلُه، فوضعتْ راحتَها على موضعِ القلبِ من صدرِه.
تسارعتْ نبضاتُه، واعتراه ارتباكٌ جَمّ، فأسرعَ يزيحُ يدَها قائلا برفق:
- تعالَيْ نرَ ضيوفنَا، فقد تأخّرْنا عليهم.
وتحرّكَ مبتعدًا، فتبعتْه باستسلام.
*****
أخبرَها أنّه لن يأتيَ لزيارتِها حتّى يحينَ الوقتُ الّذي تفسخُ فيه الخِطبة.
ولكنّه وجدَ نفسَه عشيّةَ اليومِ التالي يحومُ حولَ شرفتِها، وقلبُه يتملّصُ من صدرِه.
لم يكنْ من عادتِها أن تقفَ في الشرفةِ في هذا الوقت، ولكنَّ دافعًا غامضًا حداها لأن تفعل.
رأتُه ورآها.
حاولَ أن يتجاهلَها ويمضيَ في طريقِه، ولكنّها نادتْه.
سألتْه ببسمةٍ هادئة:
- ألن تصعدَ لتُحيّيَ أبي؟
تردّدَ لحظة، قبلَ أنْ يتمتمَ:
- لا بأس.
وصعد.
*****
قالتْ له بتلقائيّةٍ محبّبة:
- لقد أحضرتُ صورَ الخِطبةِ من معملِ التحميض.. تحبُّ أن تراها؟
تمتمَ بروتينيّة:
- لا بأس.
- [ضاحكةً] ألا تحفظُ غيرَ هذه الكلمة؟
وأحضرتْ له الصور، وأخذتْ تستعرضُها أمامَه.
لاحظَتْ أنّه لا يرمقُ غيرَها عبرَ كلِّ الصور، فسألتْه بمرح:
- هل تشبّهُ على هذه الفتاة؟.. إنّها أنا.
هربَ منها ببصرِه، فهمسَتْ برقّة:
- إذا كانت تعجبُكَ إلى هذا الحدّ، فإنَّ الأصلَ بجوارِك.
- ....
- لماذا تتهرّبُ من النظرِ في عينيّ؟
- هل هذا جزءٌ من انتقامِكِ منّي؟
- [بدهشة] لماذا تظنُّ هذا؟
- [بحزن] لأنَّكِ لن تجدي أفضلَ من عينيكِ لتعذيبي.
مسّها حزنُه، ولكنّها أسرعَتْ تسألُه مداعبةً:
- هل هما قبيحتانِ لهذه الدرجة؟
نظرَ في عينيها لحظة، وهمَّ بقولِ شيءٍ ما، ولكنّه عقدَ حاجبيه فجأةً قائلا:
- سنفسخُ الخِطبةَ الأسبوعَ القادم.
- [انقبضَ قلبُها] بهذه السرعة؟
- سيكونُ هذا أفضل لخُطّتِنا.
ترددتْ لحظة، وتهيّأتْ لتقولَ شيئًا ما، ولكنّه تحرّكَ مغادرًا فجأة، وهو يقول:
- أراكِ بعدَ أسبوع.
واختفى عن ناظريها.
*****
لم يذهبْ لزيارتِها طيلةَ الأسبوعِ الموعود.
ولكنّه كان مساءَ كلِّ يومٍ، يطوفُ حولَ شرفتِها.
لم يكُن يراها، ولم يعلمْ أنّها كانت تراقبُه دائمًا من خلالِ خَصاصِ شُبّاكِ حجرتِها المظلمة.
*****
في اليومِ الموعودِ ذهبَ ليراها.
نظرَ لوجْهِها مليًّا، قبلَ أنْ يسألَها بتثاقل:
- هل أنتِ مستعدّة؟
صمتتْ لحظةً قبلَ أنْ تجيبَ باقتضاب:
- لا.
نظرَ لها مندهشًا، فرفعتْ بِنصرَها أمامَه قائلة:
- إصبعي متورّم.. لن أستطيعَ خلعَ دُبلتِكَ اليوم!
- اخلعيها فيما بعد.
- [بخفوت] إنّكَ متشدّدٌ جدًّا.. لن يُضيرَنا أن ننتظرَ يومًا أو يومين.
بانَ على وجهِه صراعٌ عنيف، قبلَ أنْ يُطرقَ هامسًا:
- أودُّ أن ننتظرَ العمرَ كلَّه.
- [بلهفة] فلننتظرْ.
- أخافُ ألا تثقي بي.
- لقد نسيتُ ما حدث.
- ستتذكّرينه كلما دبَّ بينَنا خلاف.
- إنَّ لي ذاكرةَ الربيع.
- وأنا بردُ الشتاء.
- عينايَ دفءُ الأمل، وقلبي نارُ حبِّك.
- تحبّينني؟
- [بحياء] كنتَ واثقًا منها قبلَ أنْ تخطبَني.
- خطبتُكِ لتنتقمي منّي.
- وافقتُ لأخدعَ نفسي وأتقرّبَ منك.
- أريدُ أن تصيري حزني، كما كُنْتُ حُزنَك.
- حُزني وسأصيرُ لكَ كما تريد.
- أشعرُ بالخجلِ منكِ.
- أشعرُ بالانطواءِ فيك.
- إنّكِ تهيمنينَ على وجداني.
- امنحني إذن ما أهيمنُ عليه.
- .........
- [بدلال] لماذا أنتَ متردّد؟.. ألا أستحقّ؟
- تستحقّينَ الأفضل.
- أنتَ الأفضل.. لقد رفضتُ العشراتِ قبلَك.
- أخافُ أن أقولَ "أحبُّكِ" فتشكّي.
- [بابتسامةٍ دالّة] طبّقْ مبدأ: ليسَ من مزيدٍ لأخسرَه.. جرّب.
تردّدَ لحظة، ثمَّ نظرَ في عينيها وتمتمَ بعمق:
- أحبُّك.
وضعتْ راحتَها على صدرِه في موضعِ القلبِ لحظة، قبلَ أنْ تعقدَ حاجبيها متمتمة:
- ما هذا؟
- [بقلق] ماذا هناك؟
- [أزاحتْ يدَها بحزم] لستَ صادقا.. أنتَ لا تُحبّنُي.
- [تنهدَ في يأس] ألم أقلْ لك.
- [بمرح مفاجئ] أنتَ تموتُ في عشقي.
نظرَ لها في غيظِ مرحٍ وتمتمَ من بينِ أسنانِه:
- أيّتُها العابثة.. لقد كدتُ أيأسُ من الحياةِ كلِّها.
- [بلهفة] إذن هل ستواصلُ الطريقَ معي؟
- [بقلّةِ حيلة] هل هناكِ بدائل؟
مررتْ حافةَ يدِها على عنقِها، فتنحنحَ متمتمًا:
- إذن اختاري لي، فرّبما أربح!
- لقد خسِرتَ الرهانَ بالفعلِ وخسِرتَ التحدّي.
- [بمكر] من قالَ هذا؟.. لقد خدعتُكِ للمرّةِ الثانية.
- [وقلبُها يدقُّ بخوف] ماذا تعني؟
- أعني أنّكِ كنتِ تكرهينَني، والآنَ صرتِ خطيبتي.. لقد كسبتُكِ أنتِ.. أنتِ قيمةُ الرهان.. أنتِ غايةُ التحدّي.
نظرتْ في عينيه بحبٍّ، قبلَ أنْ تخفضَ عينيها في خجل، وهي تبتسمَ ابتسامةً جميلة.
بعدَها رانَ الصمت تمامًا.
ولكنَّ القلوبَ ابتدأَت حديثًا لا ينتهي.
*****
محمد حمدي غانم
11 / 11 / 2000
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.