عمّــــو
(3)
سألها (ماهر) بلهفة:
- أنتِ أيضا ما زلتِ تذكرينني؟!
قال (هالة) بحياء جميل:
- لقد أرشدَتْني كلماتك إلى الطريق.. لا ينسى أستاذَه إلا تلميذٌ جاحد.
وضحكت بعذوبة مضيفة:
- ثم إنك تعرف أن ذاكرة الأطفال قوية.
قال بفتون:
- لم تكوني قَطُّ طفلة.
غزا الشجن نظراتها وهي تهمهم:
- معك حق.. لقد ولدت كبيرة، فتُهت عن طفولتي.
- (بتعاطف) أتفهّم ما تعنين.. ويل لمن سبق عقله سنه.
-
(بامتنان) أنت تُشعرني دائما أنني لست غريبة في هذا العالم.
- اعتبريها ألفة غريبين التقيا.
- فهذه إذن إجابة سؤالك.. وهل ينسى أحدهما الآخر بعد أن التقيا؟
ابتسم بسعادة وهو يتأمل ملامحها، فعادت تهرب منه ببصرها
في اضطراب.. فسألها ليخرجها من حرجها:
- أي طريق إذن؟
- (حائرةً) ماذا تعني؟
- قلتِ إنني دلَلْتكِ على الطريق.. فأي طريق؟
- (مبتسمة) آه.. القراءة.. انتابني
الفضول لأعرف ماذا ترى في كتب التاريخ فجربت قراءة بعضها.. واكتشفت أن الكتاب
صديقي المفضل، الذي يفهمني أكثر، فشرعت أقرأ في مجالات ثقافية أخرى، واستمتعت
بقراءة الروايات والأدب، واستمتعت أكثر بالقراءة في تبسيط العلوم وتاريخ العلم..
ومع متعة كل كتاب قرأته، كنت أشعر بالامتنان لك وأشكرك بالغيب على هذه النصيحة الغالية
التي نصحتني بها ضمنيا دون أن تعظني مباشرة.
- (ضاحكا) المراهقون لا يحبون الوعظ
ولا تلقي الأوامر.. في الغالب يتمردون على ذلك، باعتباره تدخلا سافرا في خصوصياتهم
وكبتا لحرياتهم، ومحاولة لتشكيل شخصياتهم على عكس هواهم.. كما أن الخبرات المعلبة الجامدة
تفقدهم متعة استكشاف العالم بأنفسهم، ويرون أنها موضات قديمة يفرضها عليهم جيل لا
يواكب العصر.. لا أعني بهذا ترك الحبل لهم على الغارب، لكنْ مصادقتهم وإعادة
استكشاف عالمهم معهم، فهذا يجعل المراهق أكثر رضا، ويجعل مرشده يستمتع بعيش شبابه معه
مرة أخرى.
- صدقت.. لا شيء يؤثّر في الإنسان أكثر من فكرة يشعر أنه استنتجها بنفسه
وأراد تجربتها واستمتع بتحقيقها، تحت مظلة من تشجيع وثقة إنسان يفهمه.. فهمت هذا
عمليا وأنا أتذكر كلامك عن دروس التاريخ وعِبَرِه، فحينما تستكشفها بنفسك من
روايات مؤرخين مختلفة، يكون لها قيمة وفائدة، وتنشّط الذهن وتريه التاريخ حيا في
أحداث الواقع.. وهذا طبعا على عكس فقرة "الدروس المستفادة" في مناهج
التاريخ المدرسية المملة!
- (تنهد محبطا) وأي ملل.. إنهم
يدرسون التاريخ كمادة محفوظات، لإنتاج أجيال كمثل الحمار يحمل أسفارا.. مع أن
الأحرى أن يدرّسوه على أنه فرع من الرياضات والمنطق.. "بما أنّ إذن"، و"ماذا
لو؟".
ابتسمت بإعجاب ولم تعقب، فبادلها الابتسام في صمت.. ثم
اتسعت ابتسامتها، حتّى تحولت إلى ضحكة قصيرة، فسألها مندهشا:
- ماذا هناك؟
- (بمرح) أحسست أن هنا وعظا خفيا آخر!
- (ضاحكا) لقد كبرتِ يا هالة.. وما
زلتِ أيضا أكبر من سنك.. يبدو أن أساليبي لم تعد تجدي معك!
- (بامتنان) على العكس.. عندي فضول
لأجرب رؤيتك هذه.. سأعيد تلخيص بعض التاريخ بطريقة "بما أن إذن"، وطريقة
"ماذا لو".. سيكون ممتعا بالتأكيد، وسأكتشف أفكارا جديدة ومفيدة، وربما
أعيد خلق التاريخ برؤى أخرى واحتمالات أوسع.. شكرا لك مجددا يا عمو.
-
(ممازحا) على الرُّحب والسَّعَة يا صغيرة عمو!
وضحكا معا بمرح.
***
سألته (هالة) باهتمام:
- ماذا فعلت في الحياة طوال تلك السنوات!
نزل سؤالها على (ماهر) كالصاعقة فتجهّم، وتذكر فجأة كل
ما نسيه منذ أن وقعت عيناه في عينيها.
وتنهد ماهر مجيبا بتهكم مرير:
- لا شيء!
- كيف هذا؟
- لا شيء يستحق الذكر.. صرت مدرسا تقليديا يحاول ألا يكون كذلك، في مدرسة
تقليدية لا تحاول أن تكون كذلك، أشرح مناهج تاريخ تقليدية تتعمد أن تكون كذلك،
لتلاميذ تقليديين لا يعرفون أنهم كذلك، لأعيش حياة تقليدية أكره كونها كذلك!
ابتسمت رغما عنها، فنظر لها مستغربا.. قالت معتذرة:
- آسفة.. أعرف أنه من سوء الأدب أن أبتسم على ما تفوح به كلماتك من حزن
ومرارة، ولكنها بليغة جدا ومدهشة في تلخيصها للواقع.. أنا أتعاطف معك وبالتأكيد
أفهمك.. فبداخلك روح فنان لا يعرف بعد كيف يعبر عن نفسه للمجتمع من حوله.
- (بدهشة) هذه أول مرة يخبرني فيها
أحد بهذا.. أنا نفسي لم أفكر فيه.. لقد اعتبرت نفسي دائما مجرد طفل يحب حواديت
التاريخ.. لكني لم أتخيل نفسي يوما رساما أو شاعرا أو روائيا.
- ربما ليست الألوان والكلمات أدوات تعبيرك.. ربما التاريخ والأفكار هي
أدواتك المناسبة.. أنا واثقة أن تلاميذك يحبون سماع هذه الحواديت منك.
- هذا صحيح.. لكن المقرر الدراسي والدرجات التي صارت غايته الوحيدة، يحدّان
من قدرتي على التحليق بالتلاميذ إلى حيث أريد.. للأسف لا أرى نفسي مدرسا ناجحا وإن
رأوني كذلك بمقاييسهم.
- تبدو دائما كأنما ينقصك شيء ما.
- ينقصني الكثير من الأشياء.. (ونظر في عينيها وهو يضغط حروفه) أهمها شخص
يفهمني.
-
(هربت منه ببصرها) وهل سيحل وجوده مشاكلك؟
- الغربة معه أفضل من الغربة وحدي.. حينما نجد من يفهموننا تهون مشاق الطريق،
ونستأنس به في وحشتنا، ويحذرنا من الزلل ويقيل عثرتنا.
ترددت لحظة قبل أن تسأله بتهيب وهي تتحاشى النظر في
عينيه:
- هل تخبرني أنك لم تجد شخصا كهذا بعد؟
- وجدته مرة منذ فترة بعيدة، ثم أخفته عني الأقدار.
ابتسمت بارتباك، فسألها:
- وأنتِ؟
- أنا؟!
- هل وجدتِه؟
- حاول بعض زملائي التقرب مني، لكن لم أر فيهم ما أبحث عنه.. وعلى أي حال، ما
زالت صاحباتي يرينني غريبة الأطوار، فحبي الأول هو المعرفة.. وهذا ينطبق على
زملائي الشباب أيضا، فما إن يظن أحدهم أنه بالبراعة الكافية ليوقعني في شباكه،
حتّى أمزق هذه الشباك الواهية ببعض الحوارات الجادة التي تكشف له مقدار ضحالته
الفكرية والثقافية!
-
(ضاحكا) يبدو أنك معقدة فعلا كما يقولون!
- (ضحكت ببساطة) أراحني أن يعتبروني كذلك، ليتركني العابثون في حالي.
واتسعت ضحكتها قبل أن تردف:
- ذات مرة سألت أحد الشباب المبالغين في التأنق والتباهي سؤالا مخيفا كاد
يفقده وعيه!
- (بفضول) أي سؤال؟
- سألتُه: إذا فقدتَ حواسك الخمس كلها يوما فهل تظل حيا؟.. وما قيمة الحياة
بالنسبة لك حينها إذن؟
-
(مفكرا) سؤال مخيف فعلا.. (وضحك) وشاب مسكين فعلا!
- فهل تعتبرني مثلهم مجنونة؟
-
(بلا تردد) لا.. أبدا.
- فلو سألتك هذا السؤال فبم تجيب؟
- (بعد لحظة تفكير) لو فقد إنسان كل
هذه الحواس فستنقطع صلته تماما بالعالم الخارجي، ولن يظلّ حيا إلا إن وجد من يرعى
جسده ويحافظ على حياته.. في هذه الحالة أتخيل أن عقله سيبدأ في صنع عالم داخلي
كامل، يعوض فقدان العالم الخارجي.. عالم هو مزيج من الأحلام والذكريات والرؤى..
عالم يهيمن عليه الروح والضمير والخيال، وينفلت فيه نصف المخ الأيمن من قبضة نصفه
الأيسر.. ساعتها قد يبدع هذا الإنسان أشياء لم تخطر على بال فنان أو أديب أو عالم
أو صوفي، فعالمه الداخلي سيكون في أصفى حالاته بعد انقطاع شوشرة المادة عنه.
وسألها باهتمام:
- ما رأيك في هذه الإجابة؟
- (بإعجاب) ومنذ متى تقيّم التلميذة أستاذها؟
- أسألك الصدق.
- وقد قلتُه لك.. ألم تكن مَن حدثني يوما عن عوالمَ أخرى غير عالم المادة؟..
عوالم العقل والروح والخيال؟
- هل ما زلت تذكرين؟
- سبق أن أجبتك: لا ينسى أستاذَه إلا تلميذٌ جاحد.. ولا ينسى دروسَه إلا
تلميذٌ بليد!.. فهل تراني منهما؟
- بالطبع لا.. لكن، إلامَ كنت ترمين من وراء سؤال كهذا؟
- هو سؤال صادم للذين لا يعرفون من العالم غير ما ترصده حواسهم.. لو كانوا
يعلمون أي شيء آخر، لكان أول ما يتبادر إلى أذهانهم عند افتراض ذهاب حواسهم،
ولأجابوني به.
- واضح أنك تلميذة نجيبة.. بالمناسبة: ماذا تدرسين الآن؟
- صيدلة.
هزّ رأسه متفهما، فسألته باهتمام:
- قلتَ شيئا عن النصف الأيمن والأيسر من المخ.. أعرف أن المخ الأيسر يهيمن
على النصف الأيمن من المخ عند معظم البشر (والعكس فيمن يستخدمون يدهم اليسرى)..
هذه معلومة طبية، لكني استشففت أنك ترمي من ورائها إلى مغزى فلسفي لا تمنحه لي
الكتب الطبية.
- صدقت يا تلميذتي النجيبة.. يقول (كولن ويلسون) إننا نعيش حيواتنا محصورين
في الزمان والمكان والضروريات التافهة للحياة اليومية، وما الوعي أساسا إلا وسيلة
لإدراك ما يدور حولنا.. ولكن يبدو أن الشعراء والمتصوفة قادرون على استخدامه لغرض
آخر مختلف تمام الاختلاف، هو تنمية نوع من العالم الباطني، قوته تنافس قوة الواقع
الفيزيائي المحيط بنا.. ويقول أيضا إن الشخص الذي يستجيب للمؤثرات الخارقة للطبيعة
ما هو إلا نمط آخر من الشعراء: شخص ليس العالم الفيزيائي بالنسبة له سوى وجه واحد
من الواقع متعدد الوجوه.
وصمت ليتركها تتأمل في كلماته، فابتسمت قائلة:
- لا يختلف كلامه كثيرا عما قلتَه لي منذ سبع سنوات.. ألم أقل لك إن بداخلك
روح فنان "العالم الفيزيائي بالنسبة له ليس سوى وجه واحد من الواقع"؟..
أنا واثقة أنك لم تقرأ لكولن ويلسون قبل لقائنا الأول، وأنك كنت من أولئك المتصوفة
والشعراء الهائمين خارج عالم المادة، الذين اكتشفوا هذه الحقيقة بأنفسهم.
ابتسم مجيبا:
- هذا صحيح.
ثم قال بضراعة تمثيلية مرحة:
- لكن أتوسل إليك ألا تعلني هذا على الملأ، لأن مصير هؤلاء في هذا المجتمع هو
ارتداء قميص الأكتاف والاقتياد إلى مستشفى المجانين!
- (ضاحكة) لا تقلق.. فأنا مثلك تماما ولا يمكن أن أشي بنفسي.. أنا مجنونة
فعلا، لكن ليس إلى هذه الدرجة!
وضحكا معا بمرح!
***
سألته (هالة) بجدية:
- لم أفهم بعد ما علاقة كلام (كولن ويلسون) بنصفي المخ؟
أجابها (ماهر):
- يصل ويلسون في مقاله "الزمن نهبا للفوضى"، إلى استنتاج غريب مفاده
أن القوى النفسية أو القدرات الخارقة لدى بعض البشر تنطوي على انهيار أو فقدان
للكفاءة في قواهم العقلية السوية.. ويضرب المثل بمن سماهم العلماء البلهاء، أو أرى
أنا شبيها لهم في الأطفال المرضى بالتوحد، الذين يبدون عاجزين عن التواصل
اجتماعيا، لكنهم يستطيعون إجراء عمليات حسابية معقدة بسرعة تفوق أحدث الحاسبات!.. ولعل
هذا هو ما يحدث بنسبة أخف مع الشعراء والأدباء والمبدعين والعلماء العباقرة، الذين
يعانون من تدني قدراتهم على الاندماج في المجتمع، لكنهم يمتلكون مقدرة أكبر على
التعبير عنه، أو خلق عوالم بديلة له، أو اختراع أدوات تساعد هذا المجتمع على حل
مشاكله.. من وجهة نظري قد يكون عجزهم عن الاندماج هو الذي جعلهم يسعون ـ كلّ
بأدواته ـ إلى إيجاد علاج لمشاكل المجتمع.. لكنّ ويلسون يرى أن احتجابهم عن العالم
المادي هو الذي أتاح لعقولهم الصفاء الكافي لتبدع وتبتكر.
- إممم.. أنت ترى أن للعزلة تأثيرا نفسيا يدفعم للبحث عن تعويض، وهو يرى أن
العزلة تمنحهم الطاقة العقلية الكاملة للإبداع.. كلاكما على حق بالتأكيد.
- هذا صحيح.. لكن ويلسون يرى أن عقولنا جميعا تمتلك قوى خارقة، لكن معظمنا لا
يرون سببا يدفعهم لاستخدامها على الإطلاق، لأنهم مشغولون بصراع البقاء، وهذا
يجعلهم مقيدين بالعالم اليومي.. ولولا هذا لكنا جميعا عباقرة أو أصحاب شفافية
نفسية أو من الأدباء والفنانين.
- كلامه منطقي.. فكلنا يعلم طبيا أن الإنسان لا يستخدم أكثر من 10% من قدرات
مخه، وتزيد هذه النسبة قليلا عند العباقرة والمبدعين، لكن تظل معظم قدرات أمخاخنا
خاملة وتمر أعمارنا دون أن نستخدمها!
- بالضبط.. وقد استدل بالمقولة الساخرة لتشسترتون: "لماذا يمتلئ العالم
بالأطفال اللامعين والكبار الأغبياء؟!".. والسبب الذي رآه ويلسون هو أن معظم
إمكاناتنا المهمة تفشل في البقاء بعد فترة المراهقة، لأن المجتمع يكبح جماحنا
ويبرمجنا على استخدام كسرة صغيرة من قوانا العقلية.. وهو يرى أن شعورنا اليومي
محدود، لكن في حالات السعادة العظمى أو الارتياح أو حين نستغرق في مغامرة مثيرة،
فإننا نتلقى حدسا واضحا بأن العالم أكثر ثراء إلى مالا نهاية، وبأنه مكان أشد
تعقيدا بأكثر مما يسمح لنا شعورنا العادي بإدراكه.
- كل هذا جميل.. ما علاقته بنصفي المخ إذن؟
- يرى كولن ويلسون في نصفي المخ الإجابة عن كيفية إجراء بعض عباقرة الرياضيات
لتلك الحسابات المعقدة في الحال.. فهو يرى أن كلا منا يملك هذه القدرات الخارقة،
فالمخ البشري أعقد من أحدث الحواسيب الحديثة بمليارات المرات.. لكن المشكلة أنّ
هناك شخصين يعيشان معا في جسد كل منا.. شخص عالم يتحكم فيه النصف الأيسر من المخ
المسئول عن اللغة والمنطق والعقل، وشخص فنان يتحكم فيه النصف الأيمن من المخ المسئول
عن التعرف والتمييز والتذوق الفني.. ويتواصل النصفان معا عبر الألياف العصبية، لكن
الكلمة العليا تكون للنصف الأيسر من المخ، لهذا يسكن "أنا" كل منا ـ
الذي تعبر عنه أفكارنا ولغتنا وتصرفاتنا الواعية ـ في النصف الأيسر، لكن هناك
"أنا" أخرى على بعد سنتيمترات قليلة في النصف الأيمن، ولكنها صامتة!
وصمت ليترك لها استيعاب هذه الفكرة، فلم تلبث أن ابتسمت
وقالت بحماس:
- يا له من تأمل.. هذا يفسر الصراع الداخلي بين الذات البالغة العاقلة الديكتاتورية
المهيمنة في النصف الأيسر، والذات الطفولية المراهقة الفنانة المتمردة على قواعد
المجتمع والمكبوتة في النصف الأيمن.
- نعم.. أنتِ أسقطتِ ذلك على الصراع
النفسي، وويلسون أسقطه على كبت القدرات الحسابية الخارقة للمخ.. فعندما يُجرى الإنسان
عملية حسابية على الورق فإنه يستخدم نصف مخه الأيسر، مع قسط قليل من معونة النصف
الأيمن التي يقدمها بين حين وآخر في صورة استبصارات مفاجئة أو عمليات حسابية سريعة..
فالنصف الأيسر هو "الإنسان الأمامي" أو الأنا التي تتعامل مع العالم..
والنصف الأيمن لا يستطيع أن يعبر عن نفسه للعالم الخارجي إلا عن طريق النصف الأيسرـ
لهذا يجد عناء شديدا في أداء وظيفته، لأن
النصف الأيسر في عجلة دائما من أمره، ومشغول بالعالم المادي وصراعاته ومعالجة مشكلاته،
لهذا يميل إلى معاملة النصف الأيمن في شيء من نفاد الصبر.. لهذا لا يملك الإنسان العصري
من الحدس والبصيرة إلا القليل.
- (متأملة وعيناها تشعان بريقا) فهمت
هذه النقطة.. هو يعني أن الفراسة والحدس والبصيرة، هي ملاحظات دقيقة يجمعها النصف
الأيمن من المخ عن العالم المحيط لأنه ينتبه لكل التفاصيل، لكنه لا يستطيع أن
يوصلها إلى وعي كل منا لأن النصف الأيسر يبدو كأنه مخمور بمشاكل الواقع المادي
ورغباته.. وحينما يفيق لحظة، تتضح فجأة في ذهنه بعض الحقائق التي لا يعلم من أين
جاءت، فيبدو كأن الإلهام هبط على هذا الإنسان بغتة!
- تأمل جيد.. وهذا نفس ما يحدث مع عباقرة الحسابات الرياضية، إذ يبدو أن
النصف الأيمن من أمخاخهم يحل المسألة بسرعة خارقة، ولا يعوقهم النصف الأيسر لسبب
ما عن إدراك الحل والتعبير عنه.. لكن كما سبق أن أشرت، فإن انتباه النصف الأيسر لعالمه
الداخلي، يأتي على حساب عدم قدرته على الاندماج بالعالم الخارجي.. وفي حياة كل
منا، ينجح النصف الأيمن من المخ في أن يعبر عن نفسه بين فينة وأخرى.. مثلا حينما
يشرد نصفنا الأيسر ونحن نقود السيارة أو نلعب لعبة فديو، لكن النصف الأيمن يظل
يؤدي المهمة بدقة، فإذا أفقنا تعجبنا كيف وصلنا وجهتنا أو أنهينا اللعبة ببراعة بدون
تركيز، مع أننا كنا نفشل فيها ونحن في قمة التركيز!.. فهذا النصف الأيسر غارق في
القوانين والأعراف وكلمات اللغة ومواقيت الزمن، ليؤدي الدور المطلوب من الإنسان
اجتماعيا، لكنه بحكم هذا التدريب، يعيق النصف الأيمن عن التعبير عن قدراته الأكبر،
وعوالمه الأرحب من اللغة، التي يغرف الشعراء قطرات من بحورها في إبداعهم، وزمنه
الأبدي الذي يجعلنا في لحظة شرود تحسب الثواني أو الدقائق، نعيش خيالات طويلة
كأنها الساعات.
- يا للروعة.. نسبية الزمان بداخلنا.. النصف الأيسر يحسب الزمان ببطء حركة
الشمس في السماء، بينما النصف الأيمن يتعامل بالفمتو ثانية وأسرع!
- نعم.. يرى كولن ويلسون أن الزمان مفهوم اخترعه النصف الأيسر، وأن الكون لا يعرف
إلا ما أطلق عليه الفيلسوف وايتهد اسم السيرورة Process أي تعاقب الأحداث والظواهر المنتظمة والمتصلة.. وما يسميه البشر بالزمان
ليس إلا مفهوما نفسيا اخترعه النصف الأيسر لتأريخ الأحداث ورصد إيقاع الظواهر
المادية اللازمة لبقاء الإنسان، كالفصول المناخية ومواسم الزراعية وغيرها.
- الآن فهمت مغزى كلامك عن تألق النصف الأيمن إذا ذهبت الحواس.. فحينها لن
يجد النصف الأيسر شيئا يشغله عن الجلوس إلى النصف الأيمن والاستماع إليه، بكل ما
لديه من عوالم لا نهائية من الخيال، وأعمار ممتدة من الزمان تمددت فيها كل ثانية
مليارات المرات بسبب سرعة المخ، حيث ينكشف الغطاء عن بصيرة النصف الأيمن فيحكي كل
أسراره وملاحظاته وتأملاته واستبصاراته وابتكاراته وإبداعاته.. لعل هذا ما يحدث
لنا في أول لحظات الموت، حينما تخرج الروح من الجسد، فينكشف عنها غطاء العالم
المادي، ويصير بصرها حديدا فترى العوالم الأخرى التي كانت محجوبة عنها.
- تعجبني إشارتك للغطاء.. يرى كولسن أن الكد الذهني والانهماك في متطلبات
العالم المادي دون فترات استرخاء وتأمل وتصالح روحي، يمكن أن يولد الحالة التي
سماها سارتر بالغثيان، أي الحالة التي يستعرض فيها المخ الأيسر العالم مع افتقاره
لكل بصيرة عن معناه.. هنا يكون المخ الأيمن قد تخلى عن مهمته: فيبدو الواقع فجا
خاليا من المعنى.
- نعم.. كما قلت أنت لي أول مرة: بدون المبدعين والعلماء ورجال الدين، سيبدو
العالم المادي للناس خانقا مملا فاقدا للمعنى ودهشة الاكتشاف.. وعلى الناحية
الأخرى، قد يهرب البعض من العالم المادي إلأى الخمور والمخدرات لقمع الوعي، فيغسب
عنهم الشعور بالزمن، ويشعرون بمتع وهمية تبدو كأنها تمتد لساعات طويلة وهي مجرد
دقائق، لهذا كان كثير من الشعراء يشربون الخمر قبل أن يكتبوا، ويقال إن بعض
المتصوفة كانوا يشربون الحشيش ليصلوا إلى تلك الحالة من الوجد الصوفي بلغته
القريبة من الهذيان، وربما كان استخدامهم للطبول وهز الرأس بنفس الحركة الرتيبة
نوعا من التنويم المغناطيسي للوصول إلى نفس الحالة من الخدر والغيبوبة عن الوعي..
لكن كل هذه الممارسات ضارة، لأنها تدمر الجسد والعقل.. لعل النصف الأيسر محق في
النهاية في استبداده، لأنه يحاول حماية الوجود المادي للإنسان في المقام الأول.
- هذا صحيح.. وربما لهذا لجأ فلاسفة وكهنة الشرق إلى ممارسات روحية أخرى
للوصول إلى هذه الحالة، كاليوجا والنيرفانا، مع الحياة بين الطبيعة وقلة الطعام
وحرمان الجسد من شهواته.. وهو نوع من التطرف على الجانب الآخر.. لكن من الواضح أن
كل هؤلاء يربط بينهم الرغبة في قمع الوعي، للغوص إلى العالم الآخر الذي يمنعهم عن
الوصول إليه نصفهم الأيسر.. لهذا يقول ويلسن في ذروة فكرته: إن المخ الأيمن هو
الذي يعرض علينا الحقيقة والواقع بينما لا يعرض علينا المخ الأيسر إلا الظواهر
الآنية، أي ما يحدث هنا والآن.. فالمخ الأيسر يتفحص العالم بدقة لكن المخ الأيمن هو
الذي يُضفي عليه المعنى والقيمة.
- وهذا معناه أن الذين يعيشون بنصف مخهم الأيسر فقط، هم في الحقيقة آلات صماء
تنفذ برمجة مسبقة، وليس لها أي رأي أو إضافة حقيقة للحياة، لأنها لا تفهمها أصلا..
مدهش.
- نعم.. يقول القديس أوغسطين: "عندما لا أسأل السؤال، فأنا أعرف الإجابة!"..
فما بالك بمن يغرقون في مستنقع الاسئلة الخاطئة عن كم يمتلكون وكيف يزيدونه ولماذا
يمتلك غيرهم أكثر منهم؟.. إنهم محجوبون عن سماء الحقيقة في هوة سحيقة.
- تذكر الآن شيئا قرأته لدكتور مصطفى محمود قريبا من هذا.. يقول إن الأهواء
والشهوات التي تسيطر على الكل تعطل التفكير، وتصنع مناخا عاما من الغفلة، واقتناعا
وقتيا بأن هذه الدنيا هي كل شيء.. ويظل الكل سادرا في الغفلة حتى تأتي لحظة الموت
ولا تعود هناك رجعة.. وما أقرب الموت منا جميعا.
- نعم.. لهذا فإن الإسلام يقدم وسطا بين فلسفات الغرب المغرقة في المادية
والشهوانية، وبين فلسفات الشرق المغرقة في الروحية والزهد.. (وكذلك جعلناكم أمة
وسطا).. فهو يقدر الجسد ورغباته، والروح وتطلعاتها، ويعلي من قيمة العقل في الفهم
والإدارك، لكنه يلفت انتباهه إلى التفكير فيما وراء كل ظواهر العالم المادي وأخذها
آيات للتفكر في بديع صنع الله، ويذكره دائما بالاستعداد للعبور إلى عالم الآخرة
بعيدا عن كل هذا المتاع الزائل، ويحذره من الاستسلام لكل رغبات النفس لكن مع عدم
حرمانها أيضا.. فلا إفراط ولا تفريط.
تفكرت لحظة، ثم ابتسمت قائلة بامتنان:
- شكرا لك يا عمو.
- علامَهْ؟
- لقد أوضحت لي مجددا إجابة الكثير من الأسئلة التي كانت تحيرني.
- وشكرا لك مجددا يا (هالة).
- علامَهْ؟
- لقد أعدتِ لي مرة أخرى الثقة بعقول النساء!
***
سألها (ماهر) متعجبا:
- لكنكِ لم تسأليني من هو كولن ويلسون؟!
أجابته (هالة) مبتسمة:
- عندي فكرة عنه يا أستاذي.. سبع سنوات من القراءة، أمضيت نصفها في الوسط
الجامعي، مع مشاهدة القنوات الفضائية الوثائقية واستخدام الإنترنت، لا ريب أنها منحتني
بعض المعلومات.
هز رأسه وهو يرمقها بإعجاب، فسألته بحذر:
- لكني مندهشة أنك تقرأ له!.. كتابه "اللا منتمي" مفضل لدى
الملحدين ويصنّف على أنه كتاب وجودي.. فهو وإن كان مغرما بعوالم الروح للهروب من
عالم المادة، يقول "إن اللامنتمي يفضل ألا يؤمن ولا يريد أن يشعر بتلك
التفاهة تتحكم بالكون"!!.. وبسبب كلامه عن ظواهر ما وراء الطبيعة وقصص السحر
والعرّافين، صنّفه كثير من نقاد الغرب على أنه مشعوذ!!
- إعجابي ببعض أفكار كاتب، لا يعني بالضرورة موافقتي على كل أفكاره.. وما لخصته
لك من أفكار أعجبتني في مقاله "الزمن نهبا للفوضى" ليس كل المقال، فقد
نبذت منه كل حديثه عن القدرات النفسية وظواهر ما وراء الطبيعة والتنبؤ بالمستقبل،
وأخذت منه فقط الأفكار التي لها أساس علمي.. لست مغرما بقراءة الفلسفة المجردة،
وأي شيء يعارض العلم والدين ألفظه في الحال.. ثم لا تنسَيْ أن كثيرا من علماء
الغرب ومفكريه ملحدون منذ انتشار خرافة داروين في الأوساط العلمية والفكرية، فهل
يعني هذا التوقف عن قراءة جميع كتب الغربيين؟
- بالطبع لا.
- لقد ذكرتِني بنقطة هامة.. من العجيب أن جميع علماء الغرب تقريبا يطعنون في
نظرية داروين بصورة خفية في كتاباتهم، لكن لا يجرؤ أكثرهم على إعلان رفضهم لها
صراحة.. وفي نفس مقال ويلسن هذا مهد للكلام عن المخ بجملة عجيبة يشبّه فيه المخ بحاسب
آلي فذ ويتعجب من أن قدرة هذا الحاسب تفوق بمراحل كبيرة القدرة اللازمة لبقاء
الإنسان في الحياة من منظور التطور الداروني، ويرى مثلا أننا لا نستخدم تلك المكتبة
الواسعة من "شرائط الذاكرة" التي يملكها المخ ويسجل فيها كل ذكرياتنا
بالصوت والصورة والرائحة والطعم والملمس والعاطفة، فلسنا بحاجة إلى استخدامها
للبقاء اليومي الذي يرى داروين أنه أساس تطور كل جزء في كل كائن حي.. ويتساءل كولن
ويلسون: فلماذا إذن توجد هذه الشرائط?.. ولماذا قضى التطور بأنه على المخ أن يتذكر
كل حادثة صغيرة للغاية وكل فكرة عبرت بحياتنا?
هزت رأسها موافقة، وعقّبت:
- يبدو فعلا كأنه ينثر شكوكه حول الداروينية، لكن لا يجرؤ على الاعتراف بهذا
علنا!
تذكر شيئا فسألها:
- وأنتِ هل تؤمنين بكل ما قاله د. مصطفى محمود؟
أدركت مغزاه، فابتسمت قائلة:
- بالتأكيد لا.. كل إنسان يؤخذ منه ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
يوجد الكثير مما أعترض على د. مصطفى محمود فيه.. وخجلت من قراءة كثير من أعماله
الأدبية، لكني من عشاق حلقات العلم والإيمان وجمعت الكثير منها من الإنترنت.
- لقد ظل د. مصطفى يثير اللغط طيلة حياته، منذ أن احتفى النقاد الماركسيون
بكتابه الأول الذي حجبه الأزهر، ثم انقلبوا عليه بعد كتبه التي بدأت تأخذ طابعا
إسلاميا مثل "حوار مع صديقي الملحد"، حتّى إنه بدأ يهاجم الماركسيين في
كتبه مثل "لماذا رفضت الماركسية"، ثم استعدى عليه النظام بكتاباته
السياسية في التسعينيات مثل كتاب "الإسلام في خندق"، ثم استعدى
الإسلاميين في مطلع الألفية الجديدة حينما أنكر الشفاعة، مقتطعا من القرآن الكريم
كل الآيات التي تنكرها، دون أن يذكر الآيات التي تؤكدها مثل (من ذا الذي يشفع عنده
إلا بإذنه)، وبعد الهجوم الضاري عليه بدأ يتراجع قليلا ويفسر كلامه على أنه يرفض
اتكال العصاة على أمل الشفاعة.. هو نفسه قال لقرائه كثيرا إن الفكر كائن حي،
والكاتب ليس شيئا جامدا ولا ينبغي أن يكون، وإنه لا يرى حرجا في الاعتراف بأخطائه
وتغيير أفكاره تبعا لما يراه الصواب والحق.
- فهمت مقصدك وأنت على حق تماما.. وربما لهذا لم أنضم لأي تيار من التيارات
التي تموج بها الجامعة.. فكل منها منغلق على أفكاره ومصادره، ويرى أنه على الحق
المطلق وغيره على الباطل المطلق.. هذا التعصب الذي يُشيع الإعلام أنه موجود لدى
الإسلاميين فقط، رأيته أكثر حدة عند العلمانيين.. هناك نوع من الجمود والانغلاق
الفكري والتعصب العامّ في هذا المجتمع، حتّى عند من يسمون أنفسهم مثقفين ويقرأون
بعض الكتب.. ربما كان هذا هو نوع الانتماء الذي ثار عليه ويلسون في النهاية: التعصب
المنغلق والانسياق وراء سلوك القطيع.
- لا أدري حقيقة ما كان يرمي إليه فلم أقرأ أكثر من مقتطفات من الكتاب.. لكنه
عامةً كتبه في منتصف الخمسينيات، أي أنه كان من الجيل الذي نشأ بعد الحرب العالمية
الثانية، بكل ما حدث فيها من فظائع وأهوال.. هذا الجيل ثار على المجتمع والمنظومة
الحضارية والعقل والدين، وألقى بمسئولية هذا الدمار على الأجيال السابقة له بكل
أفكارها وقيمها.. لمثل هذا انتعشت في الستينات الأفكار الوجودية والعبثية
والفوضوية وظهر الهيبز ودعاة الثورة الحضارية، وهو شبيه بما حدث أيضا بعد الحرب
العالمية الأولى مثل ظهور المدرسة السريالية في الفن والأدب.. خراب بهذا الحجم
يصدم النصف الأيسر من المخ، ويشككه في جدوى الوعي والعقل، ويجعل النصف الأيمن يرقص
رقصات مجنونة على أطلال العالم المادي المنهار!.. لكن المجتمع يجد طريقة للاتزان
بمرور الوقت، ويلفظ التطرف إلى أيّ من النقيضين: الجمود المادي، والعبث الفوضوي.
هزت رأسها موافقة، وقالت:
- هذا درس آخر أتعلمه منك.. سأنوع قراءاتي، لكن بعين نقّادة، فالحكمة ضالة
المؤمن، وأنَّى وجدها كان أولى بها.
- نعم.. لكن مع الحذر.. فبالتأكيد رأيتِ كيف يجد كل تيار فكري في شباب
الجامعة تربة خصبة لزرع أفكاره، فالتعصب لأول فكرة هو دَيْدَن أصحاب العقول
الفارغة.. وهناك اليومَ تراكم معرفي هائل من الكتب والأفكار عبر التاريخ، ومن
السهل برمجة عقل أي شاب ببعض الكتب التي تريه الدنيا الواسعة من ثقب إبرة، تماما كشخص
محبوس في غرفة لا يعرف ما خارجها، وينظر للخارج عبر ثقب صغير في أحد جدرانها.. كل
أيدلوجية تقدم نفسها على أنها هذا الثقب، وتؤكد لأتباعها أن العالم هو ما يرونه
عبره، وأن أي ثقب آخر في أي جدار آخر هو ثقب في الموضع الخاطئ والعالم الذي يعرضه
عالم مزيف!.. وكل أيدلوجية تبدأ بمقدمات صحيحة مبنية على نقد أخطاء الواقع وعيوب
المجتمع، ثم تنطلق منها إلى استنتاجات بعضها صحيح ومعظمها خاطئ ومغلوط.. فإذا كانت
المقدمات الخاطئة تقود بالضرورة إلى استنتاجات خاطئة، فالعكس ليس دائما صحيحا،
وكثيرا ما يستخدم المدلّسون مقدمات صحيحة، ثم يقفزون منها إلى استنتاجات خاطئة
باستخدام المغالطة والتكذب والتضليل واستغلال جهل السامع.. لهذا يجب أن يتسلح
الإنسان أولا بكثير من الحقائق قبل أن يغرق في وجهات النظر والآراء والأفكار
والفلسفات.. هذه الحقائق تأتي من العلم والدين والتاريخ والأعراف الحميدة التي
اكتسبتها المجتمعات بالتجربة والخطأ عبر آلاف السنين، فهذه الممارسة المجتمعية جزء
من المنهج العلمي التجريبي، حتّى وإن وصمها من يدعون أنفسهم بالمثقفين بأنها عادات
بليدة ورجعية.
- ولكن بعضها كذلك فعلا!
- صحيح.. وهم يستخدمون هذا البعض كمقدمات صحيحة، للقفز منها إلى تعميم نتائج
خاطئة.. لهذا قلتُ العادات الحميدة.. فكل شيء يخالف الدين والعلم والفطرة ويؤذي
الإنسان هو مرفوض.. مثل التدخين مهما كثر مدمنوه.. ومثل تعقيد متطلبات الزواج وما
شابه.
فكرت لحظة وقالت:
- لعلك تعني الأخذ بمبادئ المجتمع الأخلاقية ونبذ أعرافه المادية.
- ليس بالضبط.. فقد لا تعيب الأعراف بعض الأخلاق رغم أنها محرّمة دينيا، وقد
تكون بعض المعايير المادية ضرورية مثلا لإثبات جدارة الشاب بتحمل المسئولية وإشعاره
بأن الزواج ليس لعبة.. لكن المبالغة في هذا إلى درجة تعطيل الزواج نفسه وإشاعة
الفاحشة في المجتمع، هو أمر يجب التصدي له.
- نعم.. ما زاد عن حده انقلب إلى ضده.
***
*
مقال "الزمان نهبا للفوضى"، هو عنوان الفصل السابع من كتاب "فكرة
الزمن عبر التاريخ" وهو كتاب يجمع بين الفسلسفة والتاريخي والأدب والعلم،
كتبه مؤلفون متعددون، وهو مترجم ومنشور ضمن سلسلة "عالم المعرفة"، العدد
159.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.