على صدر الزمان
-6-
ضحكِتْ يومًا فتجهّم.. سألَتْه:
- ما بك؟
- أشعرُ بالحزن.
- إنني أرى عينيه في وجهِك.. أعرفُ هذا وما لهذا سألت.
- لا تَشغلي بالَك.
- أرجوك.. ألسْنا نقتسمُ كلَّ لحظة.. حتّى ولو كانتْ مُرّة؟
- [متنهّدًا]: حينما ضحكتِ، خدرتني نغماتُكِ الساحرة، وحلّقَتْ رُوحي في لحظةٍ، هي بينَ الوهمِ والحُلمِ والرؤيا والرؤيةِ والحقيقة، فكأنّي أُشرفُ على سماءِ الزّمن، وأستشرفُ الغد.
- وماذا رأيت؟
- لم يكُنْ هذا واضحًا أمامي.. كانَ الضبابُ يغلّفُ كلَّ شيء، وكفّانِ متعانقتـانِ تستميتـانِ ألا تفترقا.. لكنّ هناكِ ما كانَ يجذبُهما.. بعيدًا بعيدا.
انقبضَ قلبُها وأطرقَتْ لحظة، ثم قالت وهى ترفعُ رأسَها في حسم:
- عِدْني بألا نفترق.
- إنني لستُ إلها!
- الملائكةُ لا تُضحي آلهة.
- والزمانُ لا يَعصي القدر.
- لا تجعَلْ من لحظةِ خَدَرٍ قَدَرا.. عِدْني بألا نفترق.
- أعدُكِ ألا أنساك.
- عِدْني بألا نفترق.
- أعدُكِ أنْ أتعذّبَ بك.
- عِدْني بأن تنعمَ بي.
- أعدُكِ أن أموتَ بعدَك.
- عِدْني بأنْ تحيا معي.
- أعدُكِ بما أقدر: ألا أحيا في غيرِك.. لكِ.. وحدك.
صمتَتْ مُكتئبةً ثم قالتْ بحزن:
- كلُّ هذا لأنّي ضحكْت؟.. لن أضحكَ بعدَ هذا أبدا.
- ستبكين؟
- لن أبكى.
- إذن فستكفّينَ عن حبّي.
- ......!
- سيمنعُك الخوفُ عن الضحك، وسيجبرُك التجلّدُ على عدمِ البكاء، وستتشقّقُ نفسُكَ في جمودِك، لأنّي لـن أتركَكِ تنعمينَ به.. إنني كالثلـج.. كالنار.. كالـزلـزالِ كالإعصار.. إنني لا أحيا إلا في الضحكِ والدموع.. إنني أقطابُ الحياةِ المتنافرة، ولو تعادلْتُ على وجهِكِ فسأساوى صفرا.. سيفتُر حبّي داخلَكِ رويدًا وينتهي.
- إنّكَ عجيب.. أحيانًا لا أستطيعُ فهمَك.
- نتشابهُ في هذا.
- لا تستطيعُ فهمي؟
- لا أستطيعُ فهمَ نفسي!
- ......!
- ماذا ستفعلين؟
- سأكتفي بالابتسامِ حتّى لا تُساوي على وجهي صفرا.
- أخشى أن تكونَ ابتسامةً حزينة.
- لماذا تحملُ فرشاتَكَ دومًا وتشـوّهُ معالمَ اللحظات؟.. تقلبُ الحزنَ سخريةً وتنسفُ الفرحَ خوفا؟
- تخافينَ أن أشوّهَ ملامحَك؟
- أخافُ أن تشوّهَ نفسَك.
- نفسي تشبهُ ملامحَك.
- هل ملامحي غامضة؟
- لغزٌ منَ الجمال.
صمتَتْ لحظةً ثم قالت بعينينِ شاردتينِ وصوتٍ خافت:
- أجل.. أخافُ أن تشوّهَه فُرشاتُك.
- الحزنُ يَزيدُكِ روعة.. الدّمعُ بعينِكِ دُرٌّ.. الخوفُ نداءٌ طاغٍ يأمرُني باحتوائِك.
- ستحاولُ أن تُؤلمَني؟!
- ستحاولينَ أن تغيّريني.
- لهذا ستؤلمُني؟
- بل لهذا ستبكينَ من أجلى.
- ممّ أنتَ مصنوع؟
- من آلامِ السنين.. مِن أبابيـلِ الأرواحِ القلقـة.. مِن ذاتِ شاعـرٍ تضيقُ عن نفسِه، وتَسَعُ الدنيا وأنتِ.
- أخافُ منكَ أحيانا.
- أخافُ عليكِ دائما.
- تخافُ عليّ منك.
- لقد بدأتِ تعرفينَ عيوبي.
- تخافُ أن أكرَهَك؟
- أخافُ أن تحبّيني!
*****
قالتْ له في ضراعة:
- أريدُ أن نعودَ كما كنّا.
قال لها في حُزن:
- هناكِ أسوأُ من أنْ نبقى كما نحنُ.
- لماذا أنتَ حزينٌ هكذا دائما؟
- هناك شيءٌ قد انكسرَ في داخلي.
- لا أعتقدُ أنّي كسرْتُه.. أرجو ألا أكون.
- في لحظةِ برقٍ تمزّق ستارُ الظلامِ وعرفْتُ نفسي.
- نفسُك هي التي تُخيفُك؟
- خوفي هو الذي يُطمئنُني.
- لو أقدرُ أن أنتزعَ منكَ كلَّ هذا الحزنِ!
- إذن فستنتزعينَ نفسَك.
- أأنا سببُ حزنِك؟
- حينما وضعتُكِ في قلبي لم يَعُدْ قَلبي.. صارَ مِلْكَك.
- أكثيرٌ هو عليّ؟.. أخَسارةٌ فيّ؟.. أهذا سببُ حُزنِك؟
- إنّكِ لا تفهمينَ شيئا.
- أرجوكَ ساعدْني لأفهم.
- [وعيناه شاردتان]: وَهْمٌ انقشعَ عن حقيقة.. كنتُ أظنُّ نفسي عُلبةً مِخمليّةً تحتـوي على جوهـرةِ حبّك.. الآنَ أكادُ أرى نفسي بوضوح.. إنّكِ بيضةٌ نادرةٌ ستُفرخُ عصفورًا ماسيًّا، وأنا فيـلٌ أعمى، تنطلقُ حولَه الرَّصاصاتُ فيتخبّطُ في جنون.
- إنّكَ طفلٌ صغيرٌ يحتاجُ إلى أمٍّ حنون.
- لهذا ابتعدْنا.. لقد صرْتِ مُقدّسةً بالنسبةِ لي!
- لا تجعلْني وثنًا وتحرقْني بَخورًا لَـه!.. إنّكَ لا تدري أنّكَ لا تُؤلمُ نفسَكَ فقط.
- لم أعُدْ أقدرُ أن أحيا بدونِ هذا الحزن.. إنّه رفيقي، وأنا ـ رغمَ أنّي مُعترضٌ عليه ـ لا أستطيعُ أن أتخلّصَ منّه.. صدّقيني: ليتني أستطيع.. ولكنّه قدري.
- إنّكَ لستَ قدريًّا.. إنك انهزاميّ.
- ولهذا أخافُ أن أرتعبَ حينما تحتاجينَ لحمايتي.
- أنتَ الذي تحتاجُ لحمايتي.. أحميكَ من نفسِك.
- ستتوهينَ داخلي.
- وسأتوهُ خارجَك.
- متاهاتي أدغالٌ ومستنقعاتٌ ومَهالك.
- الحبُّ لا يختار.. أنا أيضًا أومنُ بقدري.
- وماذا بعد؟
- أحبُّكَ.
صمتَ واكتفى بالحزن.
*****
كانا يسيرانِ على صدرِ الزمانِ معا.
فتحَ الزمانُ عينيه فرآهما.
تمطّى فتمدّدَ صدرُه، فصارَتِ المسافةُ بينَهما مـسـافــــات.
قالتْ من بعيدٍ وصوتُها يَخبو:
- سأعيشُ أحلُمُ بلقائِك.
قالَ ودمعُه يترنّح:
- وأنا سأعيشُ أتمنّى فِراقَك.
- كرهْتَني؟
- أحببْتُكِ حتّى كرهْتُ نفسي.
- سأمضي.
- الآنَ ينبترُ نصفي.
- ستعودُ واحدًا.. لقد بقِيَ لكَ الكلّ.
- بَقِيَ الحزن.
*****
كانَ الحزنُ ثقيلا.. بطيئا كالزمن.
يحملُ جبالَ الآلامِ ويمشى بها على صدرِه فيسحقُه.
شيءٌ واحدٌ فقط كان يصمد:
قلبُه..
لأنّها فيه.
محمد حمدي غانم
(30/5 - 9/6)/1999
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.