على صدر الزمان
-2-
وجدتْه يومًا شاردًا فسألتْه:
- ما بك؟
قال بابتسامةٍ باهتة:
- أشعُرُ أنّكِ قد جعلْتِ منّي شخصًا آخر.
- أَعلى هذا أنتَ حزين؟
- بل على الزمنِ الذي مضى وأنا فيه ذلكِ اللا شيء!
*****
أتاها يوما بقطعةٍ واحدةٍ منَ الحلوى، فسألتْه باستغراب:
- ما هذا؟.. قطعةٌ واحدةٌ فقط؟
- نعم.
- لي أمْ لك؟
- لنا نحن الاثنين.
- هذه القطعةُ الواحدة؟!
- ألا تستطيعُ قطعةٌ واحـدةٌ أن تملأَ ثَغرين، كما ملأَ شعورٌ واحدٌ قلبين؟
*****
تأخّرَتْ عنه يومًا، فصادَفَها بوجهٍ مُتجلّد.. سألتْه:
- لماذا أنت متجهّمٌ هكذا؟.. هل أنتَ غاضبٌ منّي؟
- [بحدّة] أنا؟.. أنا أريدُ أن أشربَ مِن دَمِك!
- [مبهوتة] ألأنّي تأخّرْت؟!
ابتسم فجأة قائلا:
- بل لأنّ دمكِ مثلُ (الشربات)!
*****
تجرّأَ يومًا وأمسكَ كفّها.. وتجرّأتْ وتركَتْها في كفِّه.. قال بصوت دافئ:
- أشعرُ أنّني أمسكُ الدّنيا كلَّها في راحتي.
- هل يَعني هذا أن الدنيا صغيرةٌ جدًا بحجمِ كفّي؟
- بل يَعني أنَّ كفَّكِ كبيرةٌ جدًّا بحجمِ الدنيا!
- إذن فكفُّكَ أيضًا كبيرةٌ بحجمِ الزمن!
*****
قالتْ له:
- حدّثْني عنِ الغد.
- لا أريد.
- لماذا؟
- أخافُ أن أكونَ صادقًا فأصدمَك.
- لا تكُنْ صادقا!
- أخافُ أن أكونَ كاذبًا فأوهِمَك.
- كُن خياليّا.
- لا بدَّ أن ينضبَ الخيالُ يوما.
- لا تَدَعْه ينضب.
- إذن فسيكونُ مملّا!
- حيّرتني!.. كيف تريدُ أن تتكلمَ عن الغدِ إذن؟
- قلتُ لكِ لا أريد.
- عمّاذا إذن ستتكلم؟
- لن أتكلّم.
- ......!
- إن معي (أنتِ)، ونحن نعيشُ اللحظة، واللحظةُ أبديّة، دائمة، تمتدُّ من عمري لعمرِك، جميلة لا نملُّها، لأنّها ليستْ جديدةً يُصيبُها القِدَمُ فتَبلى، بـل ماثلةٌ يُصيبها القلـبُ فينتشي.. فماذا نريدُ من الزّمنِ غيرَ ذلك؟
- نريدُ الغد؟
- ونتركُ الآن؟
- إنّك عجيب!.. ألستَ تدعو دائمًا إلى التطلّعِ والتفكيرِ والخيال؟
- ألا أفكّرُ فيك؟.. حسبي حسبي.. دعينا نعِـشْ عمرَ لحظتِنا في هذه (اللحظةِ).. أرجوك.
*****
سألتْه في لحظةِ تأمّل:
- هل تحبُّ السماء؟
- لماذا إذن تظنّينَ أنّي أحببْتُ عينيكِ؟
- إنّ لها الكثيرَ منَ المعاني.
- إنني أراها بوضوح.
- القدر، الرزق، الجمال، الشمس، السحاب، المطـر، الطيور، الطموح، الحرية، الغروب، الليل، الحزن، البدر، الحب.. إنّ السماءَ هي نافذةُ عالمِ الواقعِ على عالمِ الشعرِ والخيال.
- تماما كعينيك.
- دعْكَ منّي الآن.. إنني أتكلّمُ بجدّيّة.
- أنا لا أتكلّم بجدّيّةٍ إلا عنكِ أو معك.
- لماذا (أو) وليست (و)؟
- لأنّي أتكلّمُ عنـكِ دائما.. سـواءٌ في غيبتِكِ أو حضورِك.. حتّى أتصدّقين: لقد بدأوا يخبرونَني أنني أتكلّمُ الآن وأنا نائم!
- إذن لماذا لا تكتبُ عنّي شعرا؟
- لأنّ الشعرَ نقصُ الشعراءِ وأنتِ كمالي.
ابتسمتْ وقالت وهى تنظرُ في ساعتِها:
- حسنا أيها الفصيحُ الحصيف.. لقد آنَ أوانُ انصرافي.
نظرَ في ساعته وقالَ بحسم:
- مستحيل!.. لقد بَقِيَتْ لي دقيقةٌ، وسأعملُ على استغلالِها أحسنَ استغلال.
- وماذا يمكنُكَ أن تفعلَ في دقيقة؟!
- سأحاولُ أن أملأَ رُوحي بأكبرِ قدرٍ مُمكنٍ مِن ملامحِك، لأشحنَ خلايا الجمالِ بداخلي.
ابتسمتْ وقالتْ وهى تنهض:
- فليكنْ.. أعتقد أنَّ الدقيقةَ قد مضتْ بالفعل، وخلاياكَ قد تمَّ شحنُها حتّى أُترعَتْ.. هل أنصرفُ الآن؟
- أرجـوكِ لا تسـأليني هذا السـؤالَ ثانيةً.. إذا شئـتِ الانصرافَ فانصرفي على الفورِ من غيرِ استئذان.
- لماذا؟!
- لأنّي لا أملِكُ القسوة الكافيةَ لأوافقَ على مثلِ هذه الجريمة!
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.