المتابعون للمدونة

الخميس، 30 أغسطس 2018

الأصلي والتايواني


اثنان في واحد، ليس برت بلاس
(10)


قال لنا محمد ولي الذي رَهَـكْتُ فكّه:

-  لقد كان موعد معمل الحاسبات اليوم في الحصة الثالثة، ولكنّ ذهني كان متخما كزوجة مصرية انتهت لتوها من التهام آخر إصبع محشي، وفضّلت أن أجلس مع (محمد فايز) ليُسمعني  بعض أغانيه الجديدة، فهي تساعد ذهني على سرعة الهضم.. وفي النهاية، حضرت إلى المدينة الجامعية، وتناولت غدائي بنفس الكيفية التي أسهبتَ أنت في شرحها في الفصل الثاني يا غانم: (تبدأ الأحداث في ذلك اليوم الجميل.. كنت قادما من مطعم المدينة الجامعية بعد وجبة الغداء، أمسك ملعقتي في يدي بفخر، وأرفعها كل حين لتحيي صديقاتها المستكينات في يد قوافل المدينجية الزاحفين على المطعم أو العائدين منه، في طقس يومي معتاد).

قاطعته في ملل:

-      لا داعي للتكرار.. كلنا يفهم ما تعنيه.

صحح لي أحمد عزيز:

-      بل نعيشه.. لع.. تفرق (تذكروا أنه ينطق القاف جيما).

واصل محمد ولي الذي نسفتُ فكّه:

-  ما علينا.. بعد أن بدأت الأحداث في ذلك اليوم الجميل، وبعد أن قدمت من مطعم المدينة الجامعية بعد وجبة الغداء، ممسكا ملعقتي في يدي بفخر، لأحيي بها صديقاتها المستكينات في يد قوافل المدينجية الزاحفين على المطعم أو العائدين منه، في طقس يومي معتاد.. وصلت أخيرا حجرتي، فوجدتك نائما يا غانم وآثار زيت الكافور تبدو على غيبوبتك، فأخذت المنشفة وذهبت إلى الحمام، وشعرت بنفس الاستمتاع المريض وأنا ألصق ملعقتي بالفرومايكا أثناء سيري، لتحدث صوتا عاليا تقشعر له أبدان التعساء المقيمين في غرفة المفتّقة وتصيبهم بحالات هستيرية.. ثم تذكرت نصيحتك، فاحترمت الورقة التي ألصقوها على الفرومايكا يبوسون فيها ملاعق المارين ويناشدونهم بالتوقف عن هذه الهواية الممتعة، وقررت أن أسرّي عنهم بالغناء بأعلى صوتي النشاز وأنا عائد من الحمام واستمتعت بالصدى وهو يصنع في الممر مع صوتي النشاز سيمفونية عذبة و...

قاطعته وأنا أنظر حولي متوجسا:

-      اختصر يا فتى.. فالقارئ المفقوع يقتحم الحوار في مثل هذه المقاطع.

نظروا لي في بلاهة، فقلت بضجر:

-  لا عليكم.. إنها قصة طويلة، يمكنكم مراجعتها في الفصول السابقة.. المهم.. هات الخلاصة.

-  الخلاصة أنت تعرفها.. عدت إلى الغرفة، وفتحت الباب لأفاجأ بنسخة أخرى منّي، وكان ما كان!

قال أحمد عزيز ساخرا:

-      أفادكم الله.

قال محمد ولي الذي برّأنا ناني من تهمة صفعه على خده:

-  بغض النظر وأكل الجزر.. أظن أن روايته تؤكد شيئا هاما هنا.. أن المشكلة حدثت معي أنا لا هو.

صاح محمد ولي الذي دككتُ فكه:

-      نعم نعم.. هذا صحيح.. أنا محمد ولي الأصلي.. هو محمد ولي المزيف.

وانقض على شبيهه فجأة صائحا بهستريا:

-      اقبضوا عليه في الحال.

حاولت الفصل بينهما، بينما راح أحمد عزيز يضحك باستمتاع قائلا:

-      بانج تشانج خرونج.. محمد ولي الأصلي ومحمد ولي التايواني.. لع حلوة.

وددت أن أصفعه في غيظ، لكني كنت أجاهد لأتحاشى اللكمات والركلات المتطايرة بين المحمدين، فاكتفيت بأن أقول له بغضب:

-      افعل شيئا إيجابيا، وتعال ساعدني لإيقاف صراع الديوك هذا.

-  لع.. أنا مثقف يا فتى.. المثقفون لا يفعلون شيئا.. يستمتعون بالمشاهدة والتعليق وَقَط.

انحنيت انحناءة بارعة لأتفادى لكمة من محمد ولي الأصلي، فاستقبلتني ركلة في معدتي من محمد ولي التايواني، فقلت لأحمد عزيز متأوها:

-      هذا يعني أن وجودك في الحياة كعدمه.

التهم نفسا عميقا من ماسورة عادم الانتحار البطيء، وقال بتلذذ:

-  رائع.. إذا كان الوجود كالعدم، إذن فالعدم موجود، والوجود معدوم.. اثنان في واحد، برت بلاس، عودة النذل.

-      هراء.

-      تأكد ألا تخطئ مطبعيا في هذه الكلمة.

-      امم.. سأكتب ملاحظة للناشر.

-      أرأيت.. أحيانا أكون مفيدا.

تلقيت صفعة من أحد المحمدين في هذه اللحظة، فقلت بغضب:

-      ليس بدرجة كافية.

-      هكذا؟.. أتقلل من قوة الكلمة؟

-      يا عزيزي، أنا أيضا أتلاعب بالكلمات.

-      كلمات ليست كالكلمات.

-      نعم.. لكنها لا تمنع اللكمات.

-      من قال هذا؟

قلت بدهشة:

-  أنا.. هل علامات الحوار مربكة؟.. هل يجب أن أكتب اسم القائل قبل كل جملة؟

-  بانج نانج جرانج.. هذا سؤال استنكاري.. كأني أسأل: من الأحمق الذي قال هذا؟

-      القائل واحد في كلتا الحالتين!

-      إذن فلا فائدة من وضع اسم القائل.. يمكنك أن تكتفي بالأحمق.

العبقري: - هل هذا أفضل؟

المتفيهق: - ربما لو تجاهلنا نرجسيتك.

النرجسي: - إنني أحاول أن أتجاهل اللكمات هنا، وأنت ما زلت تتشدق بالكلمات.

المتشدق: - ويحك يا فتى الهندسة، أما زلت تقلل من قوة الكلمات، أمام قوة اللكمات.

فتى الهندسة: - نعم يا فيلسوف الصعيد.

فليلسوف الصعيد: - فليكن.

وصرخ بأعلى صوته بكلمة واحدة، فتجمد كل من المحمدين في مكانه في رعب، وكدت أنا أسقط مغشيا عليّ.

وكانت هذه الكلمة بالتأكيد:

-      غطاااااااااااطي

***
الأصلي والتايواني
 

 

كوخ الصمت


اثنان في واحد (ليس برت بلاس)
(6) 

نظرت لبرت بلاس ـ أقصد لمحمد ولي ومحمد ولي ـ وقلت في حزم:

-      أنا أريد تفسيرا لما يحدث هنا.. من منكما محمد ولي الأصلي؟

-      أنا.

قالاها معا في نفس السرعة، فعقدت حاجبي بغيظ وقلت ببطء:

-      قلت.. من.. منكما.. محمد ولي.. المزيف؟

-      هو.

قالاها معا أيضا بطريقة مثيرة للجنون، فهتفت بغضب:

-      قلت من منكما ليس محمد ولي؟

نظرا لبعضهما ببلاهة، ثم أشارا إليّ في حماس وهتفا بصوت واحد:

-      أنت.

قلت بدهشة:

-      أنا؟.. أنا لست محمد ولي؟.. ومن قال هذا؟.. من يمكنه أن يجزم؟

قال محمد ولي الذي حطمتُ فكه لأنه صفعني:

-      أنا أستطيع أن أجزم.. يمكنك أن تراجع بطاقتك الشخصية.

-  ولماذا لا أكون بدوري محمد ولي متنكرا في صورة محمد حمدي، ومعي بطاقة مزورة؟.. دعاني أترنّخ بالفرصة وأغتنم أوكازيون الجنون، وأدّعي أنني محمد ولي بدوري.. ما دامت مهزلة ثنائية، فلماذا لا نجعلها ثلاثية؟

حاول محمد ولي الذي صفعته ناني أن يقول:

-      غانم.. إ..

-      لا غانم بعد اليوم.. أنا محمد ولي.. محمد ولي... هاهاها.

مال محمد ولي الذي لكمته في فكه، على محمد ولي الذي صفعته ناني وهمس في حذر:

-      يبدو أنه يحتاج لصفعة حتى لا ينهار عصبيا.

قال له محمد ولي الذي صفعته ناني:

-      معك حق.. تفضل.

تراجع محمد ولي الذي لكمته في فكه، صائحا في ذعر وهو يتحسس فكه:

-      لا لا.. أشكرك.. سبق أن جربت!

***

حَرَّدنا نحن الثلاثة إلى كوخ الصمت، حيث رحت أفتش جوانبه عن تفسير لهذا الموقف العبثي.. لكني لم أعثر سوى على آنية صدئة لا تصلح حتّى لإعداد كوب من التركيز الساخن، فألقيته بإهمال في جانب الكوخ، وجلست على أريكة خشبية عتيقة وأنا أنظر إلى برت بلاس بقلق، خشية أن يأتي الزنجي صاحب الكوخ من أدغال الشرود، فيجدنا هنا ويحدث ما لا تحمد عقباه.

ولهذا قلت أطردهما من كوخ الصمت، وأنا أُحرِد في سيري تجاه بابه:

-      هيا.. لا وقت لدينا... أسرعا قبل أن يأتي صاحب الكوخ و...

نظرا لي في دهشة، وقال محمد ولي الذي صفعته ناني لأنه لم يعرف من أين تُراقَص النملة:

-      ماذا تعني؟

همس في أذنه محمد ولي (الذي لكمته في فكه):

-      يبدو أنه جن تماما.

-      لا عليك.. إنه هكذا دوما.

-      دوما؟

-      دوما دوما.

-      دوما دوما؟

-      دوما دوما دما.

-      دو.....

كادا يصيبانِني بالجنون، فهتفت أقاطعهما في صرخة انتزعت أمعائي من أحشائي:

-      كفى.

ثم أدركت في هلع أن الصرخة انتزعت أحشائي من أمعائي، فسارع محمد ولي الذي صفعته ناني يهتف:

-      لا تصرخ فينا صرخة تنتزع أشلاءك من أمعائك.. نحن لسنا طفلين أمامك.

أسرعت أعيد أشيائي إلى أجزائي، وأنا أقول بصوت خفيض:

-      معذرة.

ومضت برهة حرّدنا فيها إلى كوخ الصمت من جديد، ولكننا لم نكد نفتح الباب لندلف إلى الداخل، حتى فوجئ بنا زنجي نحيف، تطلع إلينا بذهول، وأسرع ينتزع سكينه، وهو يرطن بكلام كثير لم أفهم منه حرفا، ولكنه كان كافيا ليطردنا مذعورين من كوخ الصمت.

-      هل سمعتني؟

-      هه؟

اكتشفت أن ذلك الزنجي لم يكن سوى محمد ولي الذي صفعته ناني على خده لأنه لم يعرف كيف تُراقَص النملة (إنها فضيحة)، وكان يكرر كلامه الذي شردت عنه:

-  أقول لك إنني لا أفهم ما يحدث.. لقد عدت منهكا من معمل الحاسب بعد الحريق الذي شب فيه و....

اعتدلت مقتنصا الكلمة مرددا في لهفة:

-      حريق؟

-      نعم.. ألم تر وجهي والقميص؟

تذكرت الحرارة والشرارة والمرارة والجدارة والسيجارة والأثارة والسدارة والغارة والمغارة التي دخلنا في قافيتها من قبل، فالتقطت نفسا عميقا (حوالي 33,25 مترا، حتى إنه كان مليئا بالتراب) وقلت بحزم:

-      حسن.. يبدو أن هناك قصة.. كلي آذان مصغية.

وفي الحال تحولت ذراعاي وساقاي وبطني وظهري إلى آذان كبيرة توجهت كلها صوب محمد ولي (الذي صفعته ناني لأنه لم يعرف من أين تؤكل كتف النملة)، وأنا أقول:

-  ولكن حذار أن تهمل أية تفاصيل مهما كانت دقيقة أو حتى ثانية.. ومن يدري.. ربما نستطيع اكتشاف حل اللغز.

ولكن هل هذا صحيح؟.. هل؟

***

كلا يا حزنُ

ما فيكَ يغنّي أبدا حسنُ

قد صار عصا موجعة يا حزنُ الغصنُ

هجرته طيورُ صباحٍ لا تهواكْ

لا تقربْ منا لا نهواكْ

***

-      كلا يا سيدي الناشر وألف كلا.

-      اجلس.. اجلس فقط يا سيدي لنتفاهم.

-  نتفاهم؟.. وهل بقي هناك تفاهم؟.. شركتي على وشك الإفلاس وهذا الوغد (يعنيني أنا بلا فخر) يرفض أن أضع إعلاناتي وسط الأحداث، رغم أن كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمشمومة تتلهف للحصول على عقد إعلانات شركة بخاركو.

-      هدئ من روعك فحسب يا أستاذ بقلظ، وسيكون كل شيء على ما يرام.

-  ماذا يظن نفسه؟.. هه؟.. إنه مجرد مؤلف فاشل (يعنيني أنا ولا فخر) لا يستطيع كتابة مشهد واحد يقنع نملة محترمة بقراءته (ذكروني أن أبحث عن سبب كثرة النمل في هذه القصة.. هل هناك سكر في أي مكان هنا؟).. إنه معتوه (يعنيني أنا ولا فخر).

-  صبرا يا سيدي.. كل شيء سيتم كما تريد.. ولكن دعني أحضره أولا وأملص أذنيه (يعنيني أنا ولا فخر).. وثق أنه سيذرف دموع الندم ويطلب الصفح منك وهو (يعنيني أنا ولا فخر) يعتذر ألف ألف مرة.

***

النحلة الذهبية والعسل الأسود


اثنان في واحد (ليس برت بلاس)
(5)




مضى وقت طويل ونحن نتبادل النظرات الذاهلة، قبل أن يقول محمد ولي (الذي صفعته ناني على خده الأيسر لأنه لم يراقصها):

-      يا إلهي.. هذا مستحيل!

هززت رأسي بعنف، واتجهت نحو محمد ولي (الذي لم تصفعه ناني على خده الأيسر _ وليتها فعلت)، وقلت له في حزم وصرامة واقتضاب:

-      اصفعني.

نظر لي الفتى بدهشة، فزمجرت هاتفا فيه:

-      قلت اصفعني.. هيا.

تردد وهلة، ثم أمام إصراري لم يجد أفضل من أن يصفعني بوهن، وهو ينظر لي حائرا.

ولكني هتفت فيه مغضبا:

-      قلت لك اصفعني، وليس دغدغني.. اصفعني.

وأمام كل هذا الإصرار، رفع يده وهوى بصفعة كالقيامة على خدي، جلجلت في دويّ عنيف، فراحت الدوامات تدور في عينيّ، والعصافير تحوم حول رأسي بسعادة!

وتجمدت في مكاني بذهول، قبل أن يغلي الدم في عروقي، وأصرخ فجأة بغضب عارم:

-      أيها الحقير!

وهويت على فكه بلكمة ساحقة، انتزعته من مكانه وضربت به الباب من خلفه، فأغلقه وهو يسقط أرضا، وأنا أواصل مرتعدا في غضب:

-      كيف تجرؤ على صفعي أيها الحقير؟

أسرع محمد ولي (الذي صفعته ناني على خده الأيسر لأنه لم يراقصها) يقول مهدئا:

-      مهلا يا غانم.. أنت الذي طلبت منه هذا.

نظرت له بدهشة، كأنني أتذكر حقيقة غابت عن ذهني، ثم اكتسى وجهي بحمرة الخجل، وهدأت نبرة صوتي وقلت وأنا أحك مؤخرة رأسي:

-      عجبا.. لم آخذ بالي مطلقا!

ثم هتفت فجأة:

-      يا إلهي.. لقد صفعني ولم أستيقظ.. إنه ليس حلما إذن!

نعم ليس حلما.. إذن فما هو؟

***

هو الفجرُ..

يهلُّ فترقصُ الأزهارُ بينَ سحائبِ العطرِِ

ويشدو الطيرُ بالألحانِ والآفاقُ بالبِشرِ

وتصحو الشمسُ،

يلهو النور فوقَ خدودِها الحمرِ

***

هو من جديد ذلك الشيء الذي لا غنى عنه لكل ربة بيت.

معذرة لأننا سنضطر إلى الاختصار هذه المرة، لأن الفقرة الإعلانية التي سمح بها الناشر بعد الضغط على ذلك المؤلف الوغد صغيرة للغاية.

تذكروا حلة بخاركو للطهي والكي.

***

والآن نبدأ الفصل الأول من قصتنا.

لا تندهشوا، فالأمر بسيط للغاية.. كل ما فات كانت فصول المقدمة.. أما فصول القصة، فتبدأ من هنا.. من منتصف الفصل الخامس من المقدمة!

نعم يا سادة.. أنتم تتعاملون مع مؤلف غير تقليدي بالمرة.. وبما أن هذا العمل هو باكورة إنتاج فن الرعاشة، فمن حقي أن أضع قواعد هذا الفن كما يحلو لي.. هذه فرصة ذهبية لأفرض ما أريده على النقاد، وأكسر القوالب الجامدة للنصوص الأدبية. (اهئ.. اهئ.. لا عجب أنني لم آخذ حقي من الشهرة والنجاح بعد.. فالنقاد لا يقدرون موهبة فذة لهذه الرجة!)

وأهم مبدأ سأرسخه في فن الرعاشة، هو مبدأ الثرثرة غير العضوية الخلاقة (فهي تخلق جوا من الألفة بين المؤلف والقارئ، كأنهما جالسان على مصطبة في الأرياف ساعة العصر، يرتشفان كوبين من الشاي الأسود الثقيل، ويخوضان في أعراض العمدة وشيخ البلد وشيخ الخفر وشيخ الحارة وشيخ الجامع وشيخ المنصر، بعد انتهاء موسم جني القطن)، ضاربا بمبدأ التكثيف عرض الحائط.

فقد كنت دائما أتعجب لماذا يرفض النقاد أي كلمة زائدة في النص لا تفيد أحداث العمل الفني.

أنا مثلا لا أرى أي عيب في أن أدردش معكم الآن قليلا في بعض الأمور الهامة، مثل قضية النحلة الذهبية والعسل الأسود، وهي قصة طريفة لم أكتبها بعد، وأجدها فرصة مثالية أن أكتبها هنا!

يقال إنه في أرض البطاطس، كانت هناك نحلة ذهبية لونها أخضر فُحلُقي (للنحل الذهبي ألوان كثيرة، مثل الأحمر المسخسخ على روحه، والبرتقالي المعصور).. وكانت النحلة الذهبية تعيش مع زوج أمها القاسي، حيث كان يكلفها بكل الأعمال الشاقة المؤبدة، بلا رحمة ولا وازع من ضمير.

ومع كل مثل هذا الذي أي شيء، لم تعد النحلة الذهبية الخضراء الفحلقية قادرة على إفراز العسل الأبيض، فذهبت إلى طبيب أمراض النحل والتبييض (يناظر عندنا طبيب أمراض النساء والتوليد)، فاقترح عليها إجراء جراحة بالمنظار، لأن غدد العسل كانت في وضع غير طبيعي، ولكن زوج أمها رفض هذا الاقتراح من منبته، ودَعَّ النحلة الذهبية الخضراء الفحلقية إلى البيت دعّا، فعادت معه كسيرة الجناح، وما إن استوت على فراشها، حتى أخذت تبكي بدموع سوداء، راحت تنهمر على خديها، وتبلل شفتيها، فاكتشفت أن لهذه الدموع مذاقا حلوا، ففرحت بشدة، وذهبت لتخبر زوج أمها، الذي تشكك في الأمر في البداية، وتذوق الدموع السوداء في حذر، فأذهله حلاوتها الطاغية.

ولم يلبث زوج أم النحلة الذهبية الخضراء الفحلقية طويلا حتى تفتق ذهنه الشيطاني عن خطة شريرة، فراح يضرب النحلة الذهبية الخضراء الفحلقية كل ليلة، ليجمع دموعها السوداء ويبيعها في السوق حيث ربح منها مبالغ طائلة!

وتلك كانت قصة نشأة العسل الأسود!

ولكن ريثا.. إن القصة لم تهرول إلى خط النهاية بعد..

لقد ضجت النحلة الذهبية الخضراء الفحلقية، وجأرت بالدعاء إلى الله، فجاءتها فكرة مدهشة.

وحينما جاء زوج أمها ليضربها في اليوم التالي، استقبلته في هدوء، وعلى ثغرها بسمة ساخرة متحدية.

وعبثا حاول زوج أمها جعلها تبكي، ولكنها كانت تضحك وتزداد ضحكا كلما ضربها، حتى أصابه الإجهاد ويئس من أمرها، وأيقن أنه لن يحصل بهذه الطريقة على أيّ عِضَة من عِضِي النجاح والفلاح، فانصرف عنها خائبا حسيرا.

لكنه ظل يدير الأمر في رأسه الشيطاني، إلى أن فكر في حيلة ذكية تنمّ عن درجة عالية من الحَجا.

وفي اليوم التالي، فوجئت النحلة الذهبية الخضراء الفحلقية بزوج والدتها يعاملها بحنان جم ويحدب عليها، بل واحتضنها معتذرا عما بدر منه، فتأثرت النحلة الذهبية الخضراء الفحلقية تأثرا كبيرا، وسالت دموعها دون أن تدري و.....

وهنا أسرع زوج أمها يجمع دموعها في شراسة وهو يضحك في ظَفَر وشماتة، فخورا بفلاح حيلته.

ولكنه انتبه هذه المرة إلى أن العسل الذي جمعه كان أزرق اللون تماما، وله مذاق أحلى من سابقه.

وتلك هي قصة نشأة العسل الأزرق.

(ملحوظة: لم يتم اكتشاف العسل الأزرق بعد).

لا تقلقوا.. القصة لم تنته بعد.. ما زال أمامنا قصة اكتشاف العسل البرتقالي، والعسل البنفسجي، والعسل الأخضر، وعسل مختلف ألوانه كثير.

ولكن دعونا نُحرِد هذا الموضوع جانبا الآن، فهو ليس موضوع الرعاشة الأصلي، وإن كنت أفضل الحديث فيه أكثر من أي شيء، لأنه موضوع لذيذ مليء بالعبرات والعبر.

بالمناسبة: تذكرت الآن أن صديقي الذي ذهب لإحضار النملة لنعد أرجلها لم يعد بعد.. الوغد!.. لماذا تركني جائعا هكذا؟.. قلت له أن يحضر النملة ويعود مسرعا قبل أن أتميّز جوعا.. هل تراه الآن يراقص ناني ونسيني؟

***

-      لو سمحت يا أستاذ.

-      قارئي المفقوع؟!.. أهلا أهلا.

-      هل يمكن أن تخبرني أين نحن الآن لأنني تهت؟

-  نحن الآن في المدينة الجامعية لطلبة جامعة القاهرة في منطقة بين السرايات بالجيزة.

-      أعرف هذا، ولكنه ليس ما أعنيه.. أين نحن في الأحداث الآن؟

-  نحن الآن جالسان على مصطبة في الأرياف ساعة العصر، نرتشف كوبين من الشاي الأسود الثقيل، ونخوض في أعراض العمدة وشيخ البلد وشيخ الخفر وشيخ الحارة وشيخ الجامع وشيخ المنصر، بعد انتهاء موسم جني القطن.

-  جميل.. وأين إذن القصة الأصلية التي أسميتها "اثنان في واحد ليس برت بلاس".

-  إنني أحكيها بالفعل ونحن جالسان على مصطبة في الأرياف ساعة العصر، نرتشف كوبين من الشاي الأسود الثقيل، ونخوض في أعراض العمدة وشيخ البلد وشيخ الخفر وشيخ الحارة وشيخ الجامع وشيخ المنصر، بعد انتهاء موسم جني القطن.. ولقد انتهينا حتى الآن من شق "اثنان في واحد" بظهور محمد ولي الذي ضربته أنا في فكه بعد أن صفعني على خدي، والذي هو نسخة طبق الأصل من محمد ولي الذي صفعته ناني على خده لأنه لم يعرف كيف يراقصها.

-  رائع.. وبهذا المعدل السلحفائي في الحكي.. كم صفحة تظن أنك تحتاج لتنهي لنا هذه الحكاية؟

-  إمم.. سؤال وجيه.. ستكون الأمور على ما يرام لو أن الأرنب كان كسولا واستطاعت سلحفاة الحكي أن تسبقه.. ثم إنني سردت نصف الأحداث حتى الآن بالفعل، ولم يتبق إلا الشق الخاص ببرت بلاس.. لا تقلق.. الناشر يتفاوض معهم حاليا للحصول على ثمن هذه الدعاية، ولو نجح، فستنتهي الرواية بأسرع مما تتصور, ولن تتجاوز الألف صفحة بأكثر من مئتين وخمسين صفحة على الأقل، بأي حال من الأحوال.

-  طمأنتني.. رُح يا شيخ وفقك الله.. سأذهب الآن للحصول على جرعة من المهدئات، وأتركك تواصل شرب الشاي على المصطبة.. السلام عليكم.

-      وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.. لا تتأخر غدا، فأنا في انتظارك!

***
 
 
 

 

صفحة الشاعر