المتابعون للمدونة

الثلاثاء، 25 سبتمبر 2012

آلام الحبّ


آلام الحبّ

 

مَـنْ ذا الذي في وحشتي iiألقاني؟        مُـتناثرًا  فـوقَ الـزّمانِ القاني
مُـتقطعًا  وجْـدًا بـلا 
iiمحبوبي        مُـترنّحًا  والـدمعُ فـي iiأجْفاني
حُـلمٌ  يَـبُثُّ النارَ بينَ 
iiضُلوعي        حُـلمٌ.. ولـيسَ الحُلمُ دَرْجَ بَناني
الـحظُّ  يـا قلبي الجريحَ 
iiمُقسَّمٌ:        حُـسنٌ لـها، ولنا لَظَى iiالحِرمانِ
رَمـشٌ لها بَخِلَتْ على طَرْفي بهِ        دَمـعٌ  لـنا يَجري كما 
iiالطُّوفانِ
لـو كـانَ لـلإنسانِ قلبٌ 
iiشاغرٌ        غـيرَ  الذي أفناه، كان iiيُعانى؟!!

كـلُّ الـذي أهـواه ماتَ 
iiأمامي        ضـيّعتُ أيّـامي عـلى أحْلامي
فـي عـينِها دِفءٌ يَشُدُّ 
iiشُرودي        لـكـنّها تـأبَى عـليَّ iiهُـيامي
مـازجْتُها  فـي مُهجتي 
iiبفُتوني        وَرَمَـتْ  لـيالي القلبِ iiبالإظلامِ
أعـطيتُها  عُـمري بلا 
iiاستكثارٍ        فـوَجدْتُ أنّ الـحُكمَ iiبـالإعدامِ!

نـكّسْتُ أشـجاني عـلى ألحاني        وبـكيتُ  أُمـنيَةَ الزمانِ 
iiالحاني
لا تَـنـفعُ الأيـامُ أنْ 
iiتُـنسيني        لا شيءَ - غيرَ جمالِها - أنساني
لا  تـقدرُ الأشـياءُ أن 
iiتُـلهيني        والـحُلمُ مَـصلوبٌ على iiأشجاني
عـشقٌ بـلا وَصْـلٍ ولا 
iiأفراحٍ        مـوتٌ  بـلا قـبرٍ ولا iiأكـفانِ

وحـدي ولا أدرى مـتى 
iiألفاني        شبحًا  سأمضي في الزّمانِ iiالفاني
سوّيتُ من شوقي طريقَ 
iiوجودي        فـردًا حـزينًا خـافتًا iiمُـتفاني
أخـبو وبعضُ الذكرياتِ 
iiوقودي        أُمـسي  رمادًا في مَدَى iiالأحزانِ
لـو كـانَ لـلإنسانِ قلبٌ 
iiشاغرٌ        غـيرَ الـذي أفناهُ كانَ iiيُعانى؟!!


محمد حمدي غانم

1998

السبت، 22 سبتمبر 2012

التنين البائس!!

التنين البائس!!

مشكلتُكَ أنّكَ تنينٌ محبوسٌ داخلَ قارورةْ!
لو تَنفثُ غضبَكَ داخلَها تُحرقُكَ النارُ المسعورةْ!
لو شئتَ تَهدُّ جوانبَها تسقطُ قبضاتُكَ مبتورةْ!
أمّا لو أنتَ استسلمتَ فَسَتُقادُ كثورِ الناعورةْ!
وستُخمِدُ صوتَكَ عُزلَتُها، تَهمدُ في القَفْرِ النافورةْ!
والموجُ الهادرُ يَتعثّرُ برمالٍ تجتثُّ غرورَه
والنَّجمُ الناصعُ يَتوارَى والظلمةُ ستُبـدّدُ نورَه
مشكلتُكُ أنّكَ مجنونٌ لا تَعرفُ حلَّ "الفَزّورةْ"!
محمد حمدي غانم
1995

الجمعة، 21 سبتمبر 2012

كاتب الأمصال وكاتب الفيروسات (5)

كاتب الأمصال وكاتب الفيروسات!
(5)
جرائم العقل

هل اتضح ما يفعله المخرّبون العلمانيون بالعقل العربي بكتاباتهم؟
ليس مجرد إباحية وعري وسكر وعربدة.. بل تأصيل للفهلوة والإجرام ـ كما شرح د. مصطفى محمود.
فكلّ أدبنا يقدّم نماذج أولئك الذين "يفهمونها وهي طائرة" بلا علم حقيقي أو ثقافة، ويعرفون من أين يأكلون الكتف ومن أين ينهبون القرش وكيف يتحايلون على القانون.. يعيشون للجيب والمعدة والفرج فحسب.
لم يكن هؤلاء الكتاب يعبّرون عن الواقع، بل كانوا يصنعون الواقع الذي نحياه الآن!
أتمنى يوما أن يكتب أحد دراسة مستفيضة يسرد فيها تاريخ الأعمال الأدبية ومحتوياتها من الأفكار، وأثرها في الجريمة والمشاكل الاجتماعية بعد 10 سنوات و20 سنة و 30 سنة من نشرها!!
وأتمنّى أكثر أن تكون هناك قوانين لمحاكمة من يقترفون جرائم العقل، تماما كما توجد عقوبات لجرائم الجسد.
طبعا هناك عينة من هذه القوانين، وضعها الحكام للمحافظة على كراسيهم فحسب، مثل تلك التي تجرّم الاعتداء على الذات الملكية أو تحرّض على قلب نظام الحكم أو التجمهر والتظاهر والإضراب والشغب..... إلخ.
لكنّ الموضوع يجب أن يتسع ليشمل جرائم الاعتداء على عقول البسطاء.
ماذا عن التحريض على الفاحشة؟.. أيعقل أن يحض التلفاز والكتب شبابنا على الزنا والسكر والعربدة، لتتلقفهم الشرطة على الجانب الآخر لمعاقبتهم؟!!
عموما، الإسلام وقف بالمرصاد لمثل هذه النوعية من الجرائم.. لن أكلمكم فقط عن أن من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة دون أن ينقص من أوزارهم شيء.. بل سنتكلّم مباشرة عن حدّ الحرابة:
(إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ {33} إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {34}) المائدة.
آه، قبل أن يظنّ أحد أنني أدعو إلى الإرهاب.. أنا أتكلم عن تشريعات يأخذ بها أولو الأمر، لا عن شريعة غاب يطبقها كلّ فرد بيده.
وهذا بالمناسبة يذكرني بالحديث عن الكذبة الإعلامية التي اتهمت التيارات الإسلامية بطعن (نجيب محفوظ)، في حين أن التحقيقات لم تثبت صلة من طعنه بأيّ جهة، ولم تعلن جهة مسئوليتها عن ذلك، بل يبدو أن ذلك الشخص كان مجرد مختل!.. هذه عينة فقط من عينات التدليس والكذب الإعلامي التي اعتادها هؤلاء المضللون!
***

محمد حمدي غانم
2006


ملحوظة:
حين كتبت هذا قبل الثورة، لم يكن هناك أي أمل في أي إصلاح في الوسط الفني الموبوء وما ينتجه من أفلام ومسلسلات، فقد كانت عصابة مبارك تستغله لتخدير الناس بينما تتم سرقتهم وتسميمهم وقتلهم!
أما الآن، فالأمل موجود في بدء تنظيف هذه المزبلة.. وفي لقاء د. مرسي مع الفنانين، أوصل رسالة قوية بأنهم أمام فرصة تاريخية تسنح لأول مرة، لتقديم فن راق ذو رسالة هادفة.
ولا أظن المشكلة ستكون في الممثلين والممثلات، فهؤلاء دمى في يد من يدفع لهم أجورهم.. لكن المشكلة الحقيقية هي في الكتاب وأفكارهم الملوثة، فمهما فرضت عليهم الدولة من رقابة، فلن يعدموا حيلهم الخفية لتسريب ما يريدون للجمهور!!.. لهذا سيحتاج الأمر بعض الوقت لإعادة إفراز طبقة جديدة من المبدعين بفكر جديد، وأهداف تستحق.

الخميس، 20 سبتمبر 2012

نداءات الغريق

نداءات الغريق

سَأَهْمِي في شجوني      ويـنساني iiالطريقْ
وفـي قـلبي 
iiجليدٌ      يـغالبُه  iiحـريقْ!
لـقد ولّـى 
iiبـليلٍ      سَـنَا الحبِّ iiالعتيقْ
وخـانتنا الأمـاني      وخـلاّنا  
iiالصديقْ
لأنّـي  كانَ 
iiحُلمي      بـعينيكِ  iiالـعميقْ
إلـيكِ أطـيرُ 
iiلَهْفًا      على شوقي iiالرقيقْ
وددتُ  أكونُ  نَجمًا      وأهـديكِ 
iiالـبريقْ
وددتُ أكـونُ نحلاً      وعـيناكِ  
iiالرحيقْ
وددتُ أكونُ 
iiعِطرًا      يَجوبُكِ  في الشهيقْ
ولـكنْ  
iiزلـزلتْني      رمـاحُكِ كي iiأُفيقْ
أصابَ الهجرُ 
iiقلبي      بـحزنٍ لا iiيُـطيقْ
أهبتُ: جننتُ 
iiشوقا      ودمـعاتي iiأُريـقْ
فـما  لـبَّى حبيبي      نـداءاتِ 
iiالـغريقْ

محمد حمدي غانم
1995

الأربعاء، 19 سبتمبر 2012

كاتب الأمصال وكاتب الفيروسات (4)

كاتب الأمصال وكاتب الفيروسات!
(4)
صناعة العقل

يهمني هنا أن أتحدث قليلا عن أدب د. (أحمد خالد توفيق)، فقد جاء بمثابة نقلة نوعية بعد د. (نبيل فاروق)، فهو يكتب بنفس الغزارة والتنوع في مجال الميتافيزيقا والرعب، ولكنّ لغته أكثر بلاغة وشاعرية، وأفكاره أكثر عمقا وتفكرا وتفلسفا، وشخصياته لها أبعاد إنسانية واجتماعية، وليس له قالب ثابت لغويا وأسلوبيا، ورواياته تعتبر موسوعة طبية علمية ثقافية فنية نقدية.......، فأبطاله يثرثرون كثيرا في أيّ شيء وكلّ شيء، ويملأون الروايات بالتأملات الساخرة والمعلومات عن كلّ شيء في الغرب والشرق والماضي والحاضر!
بخلاف هذا يمتلك د. (أحمد) جرأة كتابية هائلة:
فروايته "حبّ في أغسطس" تضعك في رواية رومانسية محلّقة تدور أحداثها في اليابان، لتوقظك فجأة وأنت وسط انفجار القنبلة الذرية، فأنت لم تنتبه إلى أنك في أغسطس عام 1945!
وروايته "أرض العظايا" رسالة تحذير مخيفة من أنّ استمرار العرب في الكسل الاستهلاكي اعتمادا على عائد البترول سيؤدي إلى تخلص الغرب منهم بعدما ينتهي دورهم، بحيث لا تتبقى منهم سوى عظايا في المتاحف!
أمّا روايته "قصاصات" فهي جولة في الوجدان الجمعي اليهودي عبر اختراع علمي، ترينا عينة من جرائمهم التاريخية والمعاصرة بطريقة مفزعة مؤلمة تثير الغضب!
أمّا "فلاسفة في حسائي" فهو عمل مذهل يختصر فلاسفة الغرب وفلسفاتهم في كتيب مغامرات!
ولا داعي لأن أكلمكم عن "شيء من حتّى"، الذي يعتبر مغامرة تاريخية لغوية نحوية ممتعة!
وغيرها من عشرات الروايات التي لا تتوقف عن إدهاشك وإثرائك، كروايات "الكاهن الأخير" و"أرض أخرى" و ؟؟؟ وغيرها.
يمكننا أن نختصر كلّ الكلام بقول د. (أحمد) عن نفسه إنه حاول تغمير الأدب وتأديب المغامرة.. وأظنه قد نجح نجاحا مبهرا، وبفضله صار فتية تحت الثامنة عشرة يقرأون عن الفلاسفة والأدباء والمفكرين والنقاد ويرون الحياة بصورة أعمق.. كلّ هذا وهم يظنون أنهم يتسلون!
يقول د. أحمد خالد حول رسالته:
"أنا لست مصلحاً ولا أنا (عمرو خالد).. أنا فقط أحاول أن أسليكم بشكل لا إسفاف فيه"
تبدو رسالة بسيطة.. أليس كذلك؟
في الحقيقة هي أعمق مما تبدو عليه بكثير.
فهذه التسلية تحوي منهجا للتفكير يتمّ تدريب القارئ عليه بدون وعي منه.. هذه هي عبقرية الحدوتة.. الخبرة المنقولة بدون وعظ.. رؤية الدنيا بمنظور آخر.. اختزال التجارب في حيز زمني محدود، ليبدأ الإنسان من حيث عرف أين انتهى الآخرون.. منطق في الاستنتاج والاستدلال.. إعادة فكّ وتركيب للعقل بطريقة لا تسبب الصداع.. تجسيد للأحلام لتنتقل من عالم الخيال إلى وجدان جيل جديد، سيكون منه من سيعمل على نقلها إلى عالم الواقع.
د. (نبيل فاروق) فعل هذا برواياته التي سخر منها الكثيرون (وربما فهم بعضهم تأثيرها فحرموه عشرين عاما من عضوية اتحاد الكتّاب وهاجموه بضراوة).. ود. (أحمد خالد) أيضا يفعله.
رأيت تعليقا يقول صاحبه:
"أهنئك يا دكتور أحمد..  لقد أثّرت في شباب الوطن العربي كما أثر د. نبيل بالضبط.. لا أعرف إن لم تكن هناك روايات مصرية للجيب أية ثقافة كنا ننتهجها الآن"
أنا أعرف: ثقافة طه حسين ونجيب محفوظ والسباعي وعبد القدوس، التي عملت ببراعة على انحدار مستوى الصفوة باستمرار من جيل إلى جيل، لدرجة أنّ المرء صار يظنّ أن عصر الاحتلال الإنجليزي هو العصر الذهبي في مصر، وهو كذلك حقّا، لأنهم كانوا قد بدأوا ثقب برميل العسل حينها حتّى وصلنا فارغا مملوءا بفضلاتهم!!
لكني أرى الآن أملا في الجيل الذي صنعه د. (نبيل فاروق) ود. (أحمد خالد).. إنهما كلمة طيبة كشجرة طيبة بإذن الله، ستزيد فروعها تشعبا وإثمارا مع كلّ كاتب جديد يخرج من أصلها، لتؤتي أكلها بإذن الله كلما تقدم بنا الزمن.
***
لكل هذا ، أريد أن أشكر د. (نبيل فاروق) ود. (أحمد خالد) وكل من كتبوا أدبا رفيعا راقيا ممتعا ومفيدا، حتّى ولو لم يعترف به النقاد كأدب جاد.. (في رأيي: هذا الكاتبان ربيا جيل الثورة).
فهم قد سدوا الثغر الذي يقفون عليه جيدا، وهم خطوات مهمة في طريق الخروج من التبعية والتغريب.. وهذا أمر من المنطقي أن يتمّ بالتدريج، بتراكم الخبرات واستعادة الثقة بالذات.
هذا على الرغم من أنّ العازل الذي شكّلته كتابتهما لا يخلو من بعض الثقوب.. ولكن حتّى مع وجودها.. يظل فضلهم لا ينكر.
سيبدو د. (نبيل فاروق) محايدا في كتاباته، وكلّ بطلاته تكشف شعرها وتتبرج ـ بل هكذا رأيت زوجته معه في إحدى الصور.
وسيكون د. (أحمد خالد) أبلغ أسلوبا وأغزر معرفة وأقرب درجة إلى القضية، وسيكتب "حب في أغسطس" و"أرض العظايا" و"قصاصات"، لكنه في حواراته سيمتدح المترنحين الفاحشين من أمثال (علاء أسواني) وغيره.
ورغم هذا وذاك، تبدو هذه الهنات أقل بكثير مما يرتكبه في كتاباتهم أدباؤنا العظام (الذين تساقط عنهم لحم الفضيلة)!!

غريبة

غريبة

لديكِ اعتداد عجيب بالنفس..
ثقة قوية حادة أقرب إلى التحدي..
تحدٍّ يودّ لو قفز في وجه كل من يعترضه ليصرخ فيه في عنفوان: "أنا هنا"!
لديك أيضا عجلة وتسرع..
ألمحهما في حركاتك المندفعة..
في كلماتك المتدفقة..
وفي لمساتك العاجلة التي تُضفينها على كل شيء.
بل إنني حتى ألمحهما في سكناتك النادرة..
في ذلك الهدوء الظاهري الذي يعجز عن إخفاء ذلك القلق المتفجر في أعماقك..
وفي تلك النظرات الشاردة التي تُشعرني أنك رغم كل هذا الحماس غريبة عن كل ما حولَك..
بأنك تبحثين عن شيء أثير فقيد ولا تجدينه.
نظرات حائرة لا تتوقف أبدا عند شيء بعينه..
نظرات تشبه كرة مصقولة ناعمة تبحث عن مستقر لها على سطح زجاجي أملس مائل.
أو تشبه سهما من الماس شديد الصلادة يخدش الحياة خدشا، دون أن يعثر بينَ الخدوشِ أبدا على ضالته..
لكنه مصرّ على العثور عليها، وواثق من هذا!
وآه كم خدشتني نظراتك كثيرا..
وآه كم أخشى ألا أكون ضالتك..
آه وألف آه.

محمد حمدي
1995

الثلاثاء، 18 سبتمبر 2012

كاتب الأمصال وكاتب الفيروسات (3)

كاتب الأمصال وكاتب الفيروسات!
(3)
كاتب الفيروسات!

إلى الآن ما زلت أتكلم عن كتاب أدب المغامرات والخيال العلمي؟
فماذا إذن عن الأدب الاجتماعي؟
ماذا عن كاتب مثل نجيب محفوظ؟
لا شيء!!!!... لم أجد لديه علما ولا دينا!!!
وما عدا بعض أعماله التاريخية ـ وربما الكرنك لو تغاضينا عن الابتذال الغريزي ونفاقه السياسي مع كلّ مرحلة!! ـ لا قيمة في نظري لما كتبه، مهما بدا جيدا فنيا، خصوصا أنه كان من الجيل المحظوظ الذي لو كتب "ريانُ يا فُجل" لكان مبتكرا ومجددا وعبقريا.. كانوا ينقلون تجارب الغرب للمرة الأولى إلى العربية، والساحة خالية تماما.. آه.. لماذا جئنا متأخرين كلّ هذا الوقت؟!!
إن هي إلا أعمال تضاد الأخلاق وتشوه المجتمع ـ بالتركيز على النماذج المريضة فيه ـ ولا فائدة منها ترتجي!!!!
لهذا لا تتعجّبوا أن يكون كثير ممن تأثروا به ـ ومن شابهه ـ من المتغنين بالعلم والتفكير العلمي دون أن يفقهوا فيهما شيئا، إلا اتهام الإسلام زورا بأنه ضدهما على طول الخط!
وها هي السنوات قد مرّت والتجربة قد اتضحت نتائجها بعد تطبيق شعاراتهم على أرض الواقع، فانظروا نوعية الأجيال التي ربوها وأخرجوها لنا.. أليسوا مسئولين عن كلّ ما نحن فيه من جهل وسلبية وغياب ضمير وانهيار اقتصادي وتعليمي وتقني وعسكري؟
أليسوا هم من يقود السفينة، بل هم من عمل مخلصا على ملئها بالثقوب؟!!
***
هنا سيهز أحدكم رأسه ساخرا، ويقول: كيف استنتج كلّ هذا وهو لم يقرأ للرجل؟
قرأت له نماذج متنوعة على فترات، وشاهدت كثيرا من أفلامه، وقرأت نماذج لعشرات من جيله والجيل التالي له، بل وقرأت له كتابا يجمع مقالاته في الصحف ـ وكانت هي ما أعجبني من كتاباته! ـ وقرأت عنه دراسات نقدية، طبعا بخلاف رأي الإسلاميين فيه.
وفي كلّ مرّة كانت القاعدة تتأكّد لي: كلّهم تلقوا الصدمة ويترنحون، وكتاباتهم تهدم ولا تبني، ولا توضّح حلا!!
لهذا فشخص مثل (نجيب محفوظ) جدير بأن يأخذ جائزة نوبل اليهودية، لأنه سوسة كبيرة من السوس الذي نخر في مجتمعاتنا وعقولنا!!
والآن: قبل أن يسخر أحدكم من كلامي، ويصنّفني مع الرجعيين المتخلفين، أو أنني ضيعت عمري في قراءة قصص المغامرات.. أحبّ أن أخبركم أنّني قضيت في قصور الثقافة (جميل أنهم يعرفون أن الثقافة بها قصور هم من أنشأه!!!) أكثر مما قضيت في المساجد، وقرأت في الأدب والفن بأكثر مما قرأت في كتب الدين.. وكلّ ما قلته أعلاه، هو نتاج مئات الشخصيات التي قرأت لها أو قابلتها فعلا في تلك الأماكن الموبوءة، وأحكامي التي أطلقها علمية تماما من هذا المنطلق، لأنها مبنية على خبرة إحصائية، وليست افتراضات أو تعميمات خيالية.
***
خذوا توفيق الحكيم كمثال آخر:
لقد قرأت له تقريبا كلّ ما كتب وفي كلّ المجالات، وقرأت عنه العديد من الدراسات.. أنا مفتون به فعلا، خاصة أنه ـ على خلاف جيله ـ كان متنوع التجارب والأفكار، مغرم بالتجديد في الشكل والمضمون، وكتاباته تحمل لمسات فكرية وفلسفية، بل إن بعض مسرحياته تنتمي إلى أدب الخيال العلمي، مثل "مسرحية الطعام لكل فم".. هذا كاتب لا يتوقف عن إدهاشك، حتى أواخر حياته.
لكن للأسف: هذا الرجل اعترف بأن "عصفور من الشرق" سيرة ذاتية ـ وهذا يعني أنه اعترف بالزنا (وأنت تعرف أنّه تزوج لأوّل مرّة وعمره 49 عاما)!
كما أن له مقالات تفوح منها رائحة الإلحاد، وقد اعترف في أواخر أيامه في مقال له، بأنه كان يجلس في ذلك المقهى الفرنسي لساعات متواصلة يفكر في أمور فلسفية عليا، وأنه ألحد ثم آمن، ثم ألحد ثم آمن، وأنه ظلّ حتّى السبعين لا يصلي.
رغم كلّ شيء احترمت فيه أنه كان قادرا على الاعتراف بأخطائه (أستثني من هذا الاحترام تلك الأخطاء التي تدخل في باب المجاهرة بالكبائر).
اعترف مثلا بتأثير الصدمة الحضارية عليه في شبابه، حينما كان في فرنسا، في فترة كانت تظهر فيها النزعات والمدارس الأدبية والفنية العجيبة كلّ يوم، فقال إنه كان يخجل من أن يعلن عدم تذوقه ـ بله فهمه ـ لمثل هذه البدع، حتّى لا يتّهم بأنه شخص متخلف من الشرق.
للأسف: كثيرون غيره عاشوا وماتوا دون أن يجرؤوا على الاعتراف بهذا ولو بينهم وبين أنفسهم!!
هنا سؤال يشغلني: لماذا لم يحظَ هذا الرجل بجائزة نوبل، رغم أن مسرحياته مثلت في كثير من الدول وترجمت أعماله للعديد من اللغات؟
هل يا ترى لأنه كتب مختصر أحد التفاسير الإسلامية في نهاية أيّامه، وكتب السيرة النبوية في صورة مسرحية، وبدأ يبدي بعض التراجع عن أفكاره القديمة؟
هل لأنه أقل تدميرا وتجنيا على الإسلام؟
هل لأنه لم يكتب أولاد حارتنا؟
ألم تلاحظوا أن محفوظ لم يأخذ الجائزة إلا بعد وفاة الحكيم، وكأنهم كانوا ينتظرون موته، لأن الجائزة لا تعطى إلا للأحياء، وهذا يجعل الأمر أكثر منطقية؟

الاثنين، 17 سبتمبر 2012

كاتب الأمصال وكاتب الفيروسات (2)

كاتب الأمصال وكاتب الفيروسات!
(2)
كاتب الأمصال!

لقد قدم د. (نبيل فاروق) ود. (أحمد خالد) خدمة جليلة للأجيال العربية الجديدة، برغم أنّ كليهما يحمل بعض الأفكار المخالفة للشريعة الإسلامية.
هذه الخدمة، تتمثّل في أن كتاباتهما عملت كعازل ضد الكتابات التغريبية والعلمانية.
في يوم ما كان الفتى (نبيل فاروق) مضطرا أن يبحث عن كتّاب غربيين ليقرأ الخيال العلمي، وكان الفتى (أحمد خالد) مضطرا أن يبحث عن كتّاب غربيين ليقرأ أدب الرعب.. ونحن نعرف أن الكلمة وعاء الفكر، والفكر سم في العسل، مقدّم في قالب جذاب لعقول يافعة ليدخل كلبنات في تكوينها المبكر.
لكن جيلي كان أسعد حظا منهما، فقد وجد أمامه أكثر من 1000 رواية عربية في الخيال العلمي والمغامرات البوليسية والرعب ضمن روايات مصرية للجيب، بحيث لم يجد وقتا أصلا ليقرأ لكتّاب غربيين، أو حتّى لعلمانيين!
إن البعض يستهين بهذا النوع من الأدب، غير مدرك أنّ الطفل في مراحل نموه المختلفة يتدرّج من تشخيص الأشياء ومخاطبتها وتخيل أنها تتكلم، في حالة من عدم الفصل بين الخيال والواقع، إلى الشغف بالحكايات الخيالية ـ كألف ليلة وليلة مثلا ـ إلى حبّ المغامرات ذات البطل الواحد في سنّ الصبا، حيث يحبّ البطل وينتمي إليه ويتخذه قدوة.. ستكون كارثة طبعا لو كان هذا القدوة هو (جيمس بوند) أو (أرسين لوبين) بقيمهما الغربية الفاسدة!.. هذا ما دفع د. (نبيل فاروق) إلى ابتكار أبطال يحملون قيم العروبة والإسلام، وهي خدمة جليلة ستدين له بها أجيال وأجيال.
أمّا عن الخيال العلمي، فيكفي أن أقول إن (فرنسا) احتفلت عام (2005) بمرور 100 عام على وفاة أبي الخيال العلمي (جول فيرن)، بينما أبو الخيال العلمي العربي ـ د. (نبيل فاروق) ـ بدأ الكتابة قبل هذا التاريخ بعشرين عاما فقط!
وإن شئت المزيد، أخبرك أنّ وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) كرّمت كاتب الخيال العلمي (هاينلاين)، الذي اعترف كثير من علماء ناسا أنّ رواياته هي السبب الرئيسيّ الذي جعلهم يتجهون إلى هذا المجال!
إنّنا متأخرون بطريقة بشعة في كلّ شيء!
بينما كان الأطفال والفتية في الغرب ينشأون على أدب الخيال العلمي الذي يحبب العلم والبحث العلمي إليهم ويخفف من جمود المواد العلمية المدرسية، كنا نحن ندفع أطفالنا إلى كراهية الكتب والعلم والمعرفة في مدارسنا العقيمة ذات المدرس ضحل العلم والخيال ذي العصا والمعرفة السبورية لا المعملية، ونسمّم نفوسهم بأفلام الأحضان والقبلات وسيقان العاريات وبلاهة إسماعيل يس!!
وتستغربون لماذا ما زلنا متأخرين عنهم إلى الآن؟!!
عموما، لقد كنت أسعد حظا أنا وجيلي ولله الحمد.. لقد وُلدت فوجدت لديّ أدب خيال علمي عربيا، وتراكما من الأدب العربي وقاني من الصدمة الحضارية.. كان لديّ (نبيل فاروق) و(أحمد خالد) و(رءوف وصفي) و(مصطفى محمود) و(توفيق الحكيم) و(ألفريد فرج) و(محمد عبد الحليم عبد الله)..... إلخ.
وكان هذا كافيا لأجد ما أقرؤه بالعربية دون أن أضطر إلى القراءة بالإنجليزية أو الفرنسية، أو حتّى البحث عن المترجمات.
لكن هذا لم يكن كلّ شيء..
فللأسف، كثير من الكتّاب العرب من الأجيال الأولى الذين احتكوا بالغرب مباشرة وهم في أوجهم ونحن في حضيضنا، كانت الصدمة الحضارية قد صرعتهم، وانبهارهم بالغرب ولّد لديهم احتقارا للذات بدلا من أن يكون حافزا لتطوير الذات، ولم يروا حلا إلا في نسف قيمنا لتغييرها بالكامل إلى قيم الغرب، حتّى لو اصطدموا في سبيل ذلك بالدين والشريعة الإسلامية وقيم المجتمع وأخلاقه وعاداته!
لقد سقط بعضهم بالضربة القاضية، وبعضهم كان يترنح، وآخرون تماسكوا نوعا لكن تورمت أعينهم وشاهت رؤيتهم، فتعثروا بحصاة هنا أو هناك!
مثل هؤلاء كانوا كفيلين بتسميم فطرتي وتشويه عقلي مبكرا أنا وكلّ من يقرأ لهم.. ولكن أيضا، حماني د. نبيل ـ خصوصا ـ من تأثير هؤلاء.
أظنكم تعرفون الآن كيف حمتني كتابات د. نبيل من العلمانيين، كما سبق أن أوضحت.. ولكن لا مانع من مزيد من الإسهاب.
خذوا مثلا على ذلك: حينما حاولت قراءة نجيب محفوظ وعمري 14 عاما لم أستسغه مطلقا، وما زلت أمقت أسلوبه حتّى الآن!
ستقولون: يا للهول!.. يا للكارثة!.. يجب حرق كتابات (نبيل فاروق) لو كانت هي السبب في هذا حقّا!
ولكني أرى أن ما حدث كان منطقيا.. فبالرغم من أن د. (نبيل فاروق) يكتب بلغة قياسية متوسطة البلاغة، وانفعالات شخصياته كاريكاتورية فعلا ومبالغ فيها، فإن كتاباته ممتعة بحقّ، وأروع ما فيها هو العقل والعلم والتفكير المنطقي، وهذا شيء لو وضع أمامه معظم الأدب العربي الحديث لفضّلته عليه جميعا.
كتابات د. (نبيل فاروق) علّمتني كيف أفكر، وأحلّل المشكلة، وأضع كلّ الاحتمالات وأفنّدها، وأبحث عن المعلومة الصغيرة الناقصة لتكتمل الصورة، وأستبعد الأمور المستحيلة لتتبقى الحقيقة مهما كانت غرابتها.. لا تنسَوا أن رواياته الأولى في (ملف المستقبل) و (ع×2) وألغاز (زووم) كانت من طراز "من فعلها؟".. بل إن روايات (رجل المستحيل) لا تخلو من التفكير المنطقي، وكنت دائما أستمتع بكيفية إيجاد (أدهم صبري) للثغرات في النظم الأمنية التي تبدو حصينة.
وقد أحببت ألغاز هذا الرجل ولم أحبّ (أجاثا كريستي).. تفسيرها دائما كان مفاجئا ولا يمكن أن أصل إليه بأدلة محايدة بدون قفزات.. أما مع (نبيل فاروق)، فقد كنت أتحدى نفسي لاكتشاف اللغز مع البطل، وأحيانا كنت أنجح.. وحتّى حينما أفشل، كنت أجد أن الدليل منطقي فعلا، لكني لم أستطع اكتشافه.
(نبيل فاروق) دفعني لأذهب إلى المكتبات لأقرأ في علوم الفضاء والذرّة، وأحببت بسببه مناهج الفيزياء والكيمياء، ومناهج اللغة العربية التي كنت أمقتها بسبب إجباري على حفظ البلاغة وما شابه دون أن أتذوقها، قبل أن تجعلني هذه الروايات أعيش اللغة العربية كلغة حية لها ذكريات ومواقف أحبها وتملأ وجداني، فبدأت أتذوقها.
نعم: اللغة التي ندرسها في المدارس لغة ميتة، وأفضل طريقة لتحويلها إلى لغة حية هي معايشتها.. إن لم يكن بالحديث بها في الواقع، فعلى الأقلّ بمشاهدة الكثير من المسلسلات الناطقة بالفصحى، وقراءة الروايات الممتعة التي كتب حوارها بها.. وبهذا تتكون في الذهن حصيلة من المواقف بهذه اللغة، بدلا من أن تحتل العامية مساحة الذهن كلها.
لن أملّ من أن أكرر أنّ المخّ البشري جهاز قائم على التدريب والتمرين واختزان الخبرات لاستلهام القوانين منها إحصائيا.. بهذه الطريقة يكتسب الإنسان المهارات اللغوية والفكرية بالاحتكاك والمعايشة دون الحاجة إلى تلقينه القواعد.
وقد كانت روايات د. (نبيل فاروق) بالنسبة لي هي هذا التدريب والتمرين والخبرة، والعالم الافتراضيّ الذي تعلّمت فيه منهجية التفكير وقيمة العقل والعلم والمعرفة، وجمال اللغة العربية، وروعة البطولة والمثل العليا.
نعم.. كلّ هذا معا!
فبدلا من أمضي مرحلة نشأتي مع بطل مخمور مفتون بسيقان عارية، قضيتها مع بطل في المخابرات العلمية، وطبيب نفسي، وخبير في الأشعة، وخبيرة في الاتصالات، وطبيب شرعي، في تحديات عقلية وعلمية متصلة لحلّ الألغاز التي تواجههم ونصرة الحق.
وبدلا من أن أضيع فورة نشاطي الذهني في القراءة عن قمصان النوم، ومن خلعت وماذا خلعت بحثا عن حريتها من الفضيلة، ومساواتها بالساقطات، كنت أقرأ اسم أينشتين والنسبية وأشعة الليزر وأشعة إكس والثقوب السوداء والمادة المضادة والاستنساخ و... و...، مما جعلني أُقبل على مناهج الفيزياء والكيمياء والأحياء بشغف هائل، لمعرفة التفاصيل الكاملة لهذه الأمور، وأذهب إلى المكتبات بحثا عن المزيد.. كما صرت أحبّ النحو والصرف وأحفظ مفردات اللغة العربية، التي عشقتها عبر هذه الروايات.
لقد فعل د. (نبيل فاروق) في الأدب العربي شيئا يستحق أن يمنح عليه أرفع الأوسمة:
لقد جعل العقل ممتعا.. جعل التفكير لذة.. ربط العلم بمغامرات شيقة يحبها كلّ من يقرؤها، وكتب في ذلك بغزارة منّ الله عليه بها، وفي أجواء عربية وبلغة عربية سليمة.
لكلّ هذا ازداد تفوقي دراسيا بعد قراءتي رواياته وكنت الثاني على محافظة دمياط في الشهادة الإعدادية لأول مرة في تاريخ قريتنا، وبسببها فضّلت الهندسة على الطب ـ رغم معارضة أهلي، ورغم أنه لا توجد في مصر كليات هندسة حقيقية أصلا!! ـ وبسببها كتبت الأدب، وهو ما غيّر مسار حياتي تغييرا مفزعا!
دعوا د. (أحمد خالد) يتولّى الكلام عنّى هنا، فكلماته هذه ـ التي يلوم بها تجاهل النقاد لأدب الشباب ـ تلخص ما أصاب أهلي بسبب (نبيل فاروق):
"هناك رجل يغير فكر العالم العربي بأكمله عن طريق التأثير في الشباب.. وهذا الشباب يكبر ويتولى مناصب قيادية فيما بعد.. هذا الرجل يدعى (نبيل فاروق).. فهل تطوع أحدكم بمعرفة ما يقول؟.. من حسن حظ الآباء أن (نبيل فاروق) هو (نبيل فاروق)، المؤمن بالبطولة والدين والعروبة.. لو أن (نبيل فاروق) يدعو إلى الجنس والإلحاد لما شعر أحد ولوصلت رسالته كاملة"
مع تنويه صغير: أهالينا لا يعانون مشكلة من وضع أطفالهم أمام التلفاز والفضائيات التي تنقل لهم ما ذكره د. أحمد!.. لكنّ مشاكلهم تبدأ حينما يتسبب (نبيل فاروق) في صناعة شخص يفكر، ويا لها من كارثة تحيل الحياة إلى جحيم!!

الجمعة، 14 سبتمبر 2012

كاتب الأمصال وكاتب الفيروسات (1)

كاتب الأمصال وكاتب الفيروسات!
(1)
من صدأ الدماغ، إلى عالم الإبداع

اثنا عشر عاما من عمري قضيتها أمام التلفاز، منها ستة كنت فيها في المرحلة الابتدائية من التعليم.
في التلفاز لم أكن أكتفي ببرامج الأطفال، بل كنت أتابع بشراهة كلّ شيء ـ عدا ما يفيد!.. إعلانات، أغاني، أفلام، مسلسلات.
وكان هذا يكفي لأن تتم برمجتي على مشاهد حبّ المراهقة وعورات العاريات والأحضان والقبلات وكلّ غث وقميء!
وتمّ تتويج ذلك بدخولي إلى المدرسة، حيث تولي زملائي الجهابذة تثقيفي غريزيا بما هو طبيعي وما دون ذلك!
ويوميا، لم يكن يشغل أطفالا في سننا، سوى قصص الحبّ والجسد، ومن تم ضبطه متلبسا يفعل ماذا....... إلخ!
وطبعا كان كلّ ذلك يجري في معزل عن البيت، فالآباء لا يتصورون أنهم يرسلون أبناءهم للمدارس ليتعلموا الصياعة!
وكنتيجة طبيعية بدأت أوّل قصة حبّ لي وأنا في الصفّ الثاني الابتدائي، مطبقا معايير الشكل بجدارة!
ولحسن حظي، ألحقني أهلي في تلك الفترة بكتّاب القرية لأحفظ القرآن الكريم، فكان طوق النجاة الذي أُلقي إليّ مبكرا في هذا المستنقع الآسن!
ودائما كان لديّ يقين لا يتزحزح بأنّ القرآن الكريم لم يحفظني فقط من فحش القول والفعل، بل إنّه أيضا أطلق قدراتي وملكاتي.. فقد بدأت أتفوق دراسيا وأعتد بنفسي كأحد الأوائل على الفصل وأحد من يحصلون على الجوائز في مسابقات القرآن الكريم.. وطبعا نمت سليقتي اللغوية، حتّى إنني أذكر أنّ مدّرسة اللغة العربية أطلعت أبي وأمي على أوّل موضوع تعبير أكتبه في حياتي، وكان عن الفلاح المصري كما أذكر، حيث خطر لي حينها أن أكتب الموضوع على لسان ذلك الفلاح بدلا من أسلوب السرد بضمير الغائب!
ولكن للأسف، كانت الفوضى التي بداخلي تمنعني عن الانتظام في حفظ القرآن، ففي الإجازات كنت أسهر أمام التلفاز مما يجعل الاستيقاظ مبكرا للذهاب إلى الكتاب مستحيلا، كما أنّ اللعب وقت العصر كان يجعل الذهاب في ذلك الموعد أشد استحالة.. لهذا لم أحفظ أكثر من 12 جزءا من القرآن الكريم على مدار أربعة أعوام.
وكان أبي يتساهل معي في ذلك، فقد كانت لديه نظرية عجيبة، تقول بأنّ الطالب يجب أن تصدأ دماغه في الإجازة الصيفية، ليدخل إلى الموسم الدراسيّ نشيطا ويحرز أفضل الدرجات.
وقد أدّت هذه النظرية إلى ارتباكي في حفظ القرآن، كما منعت أبي من محاولة تدريبي على العمل أو تعلم صنعة، وهو الأمر الذي أثّر سلبا في تطوّر شخصيتي مع تقدمي في العمر.
ولكن رغم ذلك، فقد أدّت هذه النظرية هدفها المنشود، فقد حافظت على تفوقي الدراسيّ، وكنت من فريق أوائل الطلبة في الصف السادس الابتدائيّ ـ وكان ضمن الفريق الصديق العبقري (مأمون عثمان) ـ وقد وفقنا الله سبحانه فحصلنا على الكأس والمركز الأوّل على مستوى المحافظة لأول مرّة في تاريخ قريتنا ـ وأظنها الأخيرة!
وقد تمّ تكريمنا في حفل كبير في المدرسة، وحصلنا على عدد من الجوائز، كان منها جائزة غيرت مسار حياتي فيما بعد.
فقد أهدى الأستاذ (داوود عتمان) كلا منا روايتين من روايات المغامرات، وكان من نصيبي روايتان من روايات (رجل المستحيل)، هما "أعماق الخطر" و"الضباب القاتل".. وبقراءة هاتين الروايتين انفتح أمامي عالم جديد رائع، لم أكن أتصوّر حتّى وجوده.
كانت لغة هذه الروايات صعبة بالنسبة لي في تلك السن، لكن رغم هذا لم أفتر عن قراءتها.
وهكذا أدّت نظرية أبي عن صدأ الدماغ إلى نتيجة غير متوقعة، فقد بدأت هذه الروايات تفعل العكس تماما: بدأت تجلو الصدأ!
وفي العام التالي تعرفت على الصديق (محمد عبد الواحد) الذي أخذ يلحّ عليّ لقراءة رواية من سلسلة (ملف المستقبل) اسمها "الشمس الزرقاء".. كنت أنا مغرما بروايات (رجل المستحيل)، فأخذ يعدد لي محاسن رواية "الشمس الزرقاء"، ويسرد لي معلومات وردت فيها عن فيتامين "د" وما إلى ذلك، مما نفّرني منها!
نعم.. كنت كأيّ طالب مصريّ أصيل، أمقت العلم وأكره الكتب وكلّ ما يذكرني بالمذاكرة والامتحانات، وأعشق نظرية صدأ الدماغ بعد إغلاق كتاب المدرسة!
حتّى إن صديقي (مأمون عثمان) كان يحبطني بسؤالي عن عواصم دول لم أسمع حتّى أسماءها من قبل، فأسأله في استخفاف عن جدوى معرفة ذلك!
كنت طالبا مثاليا، أحرز الدرجات وأكره العلم والمعرفة، كما ينبغي للطالب المصري أن يكون!
ولكن تحت إلحاح الصديق (محمد عبد الواحد)، أخذت منه رواية الشمس الزرقاء ـ على الأقلّ حتّى أرتاح من زنّه! ـ وشرعت في قراءتها في حديقة المدرسة في حصة الزراعة.. وحديقة المدرسة هذه لم تكن حديقة طبعا، ولم يكن بها إلا التراب، الذي جلسنا عليه نثرثر ونلهو!
وما إن شرعت في قراءة رواية الشمس الزرقاء، حتّى عرفت أنّ حياتي بعدها لن تعود كما كانت قبلها!
إنّه العالم الرائع الذي أعشقه.. عالم المستقبل.. عالم يمتزج فيه العلم بالخيال بالمغامرات بالإثارة.. عالم اندمجت فيه بكلّ كياني، حتّى مضى الوقت دون أن أشعر، وانتهت الحصة للأسف قبل أن أنهي الرواية، وكانت الحصة الأخيرة، فتوسلت للفتى بأن يترك لي الرواية، فوافق مبتسما ابتسامة العليم ببواطن الأمور!
ولم أطق صبرا لإتمام الرواية، فلم أذهب إلى بيتنا لبعد لمسافة، وذهبت إلى بيت جدي القريب من المدرسة، حيث ألقيت الحقيبة وعدت لأواصل القراءة بلهفة.
ولا يمكن لشيء أن يصف متعتي بهذه الرواية.
متعة لم تضاهِها عندي سوى البرمجة فيما بعد.
بعدها صرت مدمنا لروايات مصرية للجيب، وعلى رأسها (ملفّ المستقبل)، التي كنت ـ وما زلت ـ أقرؤها قبل غيرها.
وكان الصديق (محمد عبد الواحد) يُمدني بعشرات من هذه الروايات، وهو الجميل الذي لا أستطيع نسيانه له مهما طال الزمن.
وكان هذا بداية التحول في حياتي.
كانت هناك جملة دعائية على أغلفة هذه الروايات تهدف لترويجها، تقول إنها ألذ من التلفاز ومباريات كرة القدم.. بل ألذ من الطعام نفسه.
وكنت أسخر من هذه الجملة في البداية، قبل أن أكتشف أنها كانت حقيقية مئة بالمئة!
نعم.. كان يُعرض على التلفاز فيلم (عادل إمام) ـ وكان ذلك الممثل التافه أسطورة بالنسبة لنا في تلك السن ـ فأعجز عن أن أترك رواية (نبيل فاروق) لمشاهدته، رغم أنّه كان بالإمكان أن أرجئ قراءتها إلى ما بعد مشاهدة الفيلم.. لكنّ هذا كان مستحيلا من فرط تشويقها وجاذبيتها!
وهذا طبعا نفس ما كان يحدث مع مباريات كرة القدم، التي كان أبي وأخواي من عشاقها، فكنت أستغل كون فترة المباراة راحة رسمية معترفا بها من المذاكرة، لأقرأ رواية من هذه الروايات اللذيذة.
وهكذا عملت هذه الروايات بالتدريج كعازل بيني وبين التلفاز، حتّى صرت أحتقر مشاهدة الأفلام العربية الغبية والمسلسلات التي لا جديد فيها.. ولم أكن أحرص إلا على متابعة الأفلام الأجنبية، خصوصا الخيال العلمي.. وهذا ما سمح لي بتنظيف عقلي مع الزمن!
وتلا تلك المرحلة مرحلة محاولة الكتابة، التي استلزمت أن أذهب إلى المكتبات العامة لقراءة كتب الفضاء والذرّة والكتب العلمية المختلفة.
وبهذا بدأت رحلة المعرفة خطوة فخطوة.
وأثناء هذه الرحلة، كنت أحاول التعرف على أدبائنا "الكبار"، لكنني سرعان ما كنت أزهد في كتاباتهم وأزدريها، فلا دين فيها ولا علم فأيّ خير يرتجى منها؟
وكان لديّ مرشّح حاد، يجعلني ألقي أيّ كاتب يتطرق إلى النواحي الغريزية في سلة المهملات!
لقد هربت إلى عالم الكتب من الابتذال الغريزي الذي كنت غارقا فيه في المدرسة، ولا يعقل أن ألجأ إليه في الكتب!
كنت أقول لنفسي دائما: ما حاجتي لإرهاق نفسي لأقرأ كلاما متدنيا كهذا، وفي استطاعتي في أيّة لحظة أن أذهب إلى أتفه زميل لي ليقول لي ما هو أجمل وأمتع، وأحصل منه على صور عارية أو أذهب معه لمشاهدة ذلك على الفيديو في أماكن يعرفونها جيدا؟!
كنت قد قررت بكل صدق أن أقرأ لمن يخاطب عقلي لا فرجي، وأيّ حقير لا يتفق مع هذا التوجه فلا مكان له في عالمي.
وهذا طبعا وضع ثلة "عباقرتنا" معا في سلة المهملات، واكتفيت ـ بجوار قراءة الكتب وخصوصا العلمي منها ـ بقراءة د. مصطفى محمود ومسرحيات توفيق الحكيم وكتابات عبد الوهاب مطاوع وأحمد رجب...... وغيرهم ممن لم يبتذلوا أقلامهم وأنفسهم واحترموا عقول قرائهم.
وإن كنت في كلّ فترة أحاول إعادة قراءة عينات لأولئك الكتاب العباقرة لتصحيح فكرتي عنهم، ولكنهم كانوا يرسبون دائما في الاختبار!
وعموما كان د. (نبيل فاروق) ود. (أحمد خالد توفيق) ـ الذي انضم إلى المؤسسة وأنا في المرحلة الثانوية ـ غزيرَيْ ومتنوعَي الإنتاج بدرجة مذهلة وبهيجة، بحيث لا يحتاج المرء حين يبحث عن المتعة النظيفة لأكثر منهما!

صفحة الشاعر