أيام مع "صلاح الدين الأيوبي"
منذ ست سنوات مضت، شاهدت لأول مرة المسلسل السوري "صلاح الدين الأيوبي".. هذا المسلسل العبقري الذي كتبه د. وليد سيف وأخرجه حاتم علي، والذي شدتني حلاوة لغته وحكمة حواراته ودقته التاريخية، لكي أشاهده كله في ثلاثة أيام متوالية، بلا كلل أو ملل!
ونظرا لأني المسلسل كانت تنقصه حلقة لم أشاهدها في المرة الأولى، ولم أحصل عليها إلا مؤخرا، فقد أعدت مشاهدة هذا المسلسل كاملا مرة أخرى في الأسبوعين الماضيين، لأزداد إعجابا به بما فاق المرة الأولى، فالمسلسل يحوي رؤية فكرية ورسالة سياسية، تدفع المشاهد إلى إعادة قراءة الواقع في ضوء التاريخ.. مثلا: بعد أن تشاهد هذا المسلسل، ستزول لديك علامات استفهام كثيرة، لا ريب أنها أرهقت تفكيرك بعد وقوف الكثير من الحكام العرب وأزلامهم من العلمانيين وكتاب المارينز العرب، مع إسرائيل في حربها ضد حزب الله وحماس عامي 2006 و 2008، فهذا نفس ما فعله أمراء الحصون وملوك حلب ودمشق حينما تحالفوا مع الصليبيين ضد عماد الدين زنكي حينما بدأ في محاربة الصليبيين.. ويفسر المسلسل هذا بأنهم لا يريدون من يحرجهم ويكشف تخاذلهم أمام شعوبهم، ويكرهون أن يتقدم عليهم بالجهاد شخص آخر فيحوز قلوب رعاياهم وولاءهم ويزيحهم عن عروشهم.. وبدلا من أن يسابقوه إلى الجهاد أو يعينوه عليه ويتحملوا تبعاته، يستسهلون الخيانة والتآمر مع أعداء الدين والأمة!
المسلسل أيضا يجعلنا نفهم لماذا يبذل الغرب كل غال ورخيص لإبقاء اليهود هنا، فهو يؤكد أن مصر والشام جناحا طائر يحمي قلب الأمة الإسلامية، وبغرس هذا الخنجر بين هذين الجناحين لا يمكن للطائر أن ينهض أو يطير.
ويقدم المسلسل مادة تاريخية دسمة، تتناول تاريخ عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود، ويبدأ من يوم ولادة يوسف بن أيوب الذي لقبه أبوه بصلاح الدين، ثم لقب بعد ذلك بالناصر.. ورغم أن المسلسل قدم رؤية متوازنة لعماد الدين زنكي ومعين الدين أنر، وربما نور الدين محمود زنكي أيضا، إلا أن نغمة التبرير تعالت كثيرا مع صلاح الدين، بطريقة مبالغ فيها، فلجأ المسلسل إلى طرق ملتوية لتبرير انتزاعه الملك من ابن نور الدين، ولم يكن في حاجة إلى هذا، فقد كان صبيا لا يطيق حكم مصر والشام في تلك الفترة العصيبة المحتدمة بالصراع مع الصليبين.. كما حاول تبرير زواجه من زوجة نور الدين (عصمة الدين خاتون) بحدوث انجذاب بينهما، والجلي تماما أنها سنة الملوك لتثبيت سلطانهم، ولا ريب أن هذا الزواج جاء في إطار صفقة تحافظ فيها لابنها على إمارة حلب.
أما أكبر وأعقد تبرير في المسلسل، والأكثر فنية ودرامية أيضا، فهو علاقة صلاح الدين بالعاضد، آخر خلفاء الدولة العبيدية (المعروفة خطأ بالدولة الفاطمية) في مصر......
فقد حشد الكاتب كل حيله الفنية لإظهاره كسلطان مريض خانع لا رأي له أمام وزرائه، ورغم هذا أظهر فيه دهاء خفيا في تلاعبه بهم، ثم صور لنا علاقة صداقة معقدة بينه وبين صلاح الدين، وصراعا نفسيا عميقا داخل صلاح الدين لرغبته في خلعه لتوحيد الأمة الإسلامية تحت الخلافة العباسية، وتحرجه من صداقته له.. ومن أبدع مشاهد المسلسل، المشهد الذي يؤدي فيه تيم الحسن ـ القائم بدور الخليفة العاضد ـ حوارا طويلا أشبه بالمونودراما في مواجهة صلاح الدين، والأخير مُكْتَفٍ بالإطراق الصامت أو بعبارات مقتصبة متباعدة، ليكشف لنا العاضد كل صراعاته النفسية، ويعقد المقارنة بين ضعف خلافته وضعف خلافة العباسيين، ويكشف فهمه لمحنة صلاح الدين وما هو مضطر إلى فعله.. هذا مشهد مذهل يجبرك على التعاطف مع خليفة أجرم في حق الإسلام والمسلمين والمصريين بتحالفه مع الصليبيين أكثر من مرة، وسمح لحامية منهم أن تقف على أسوار القاهرة لتمنع عنها جند الشام، لكن الكاتب أبى إلا أن يظهره لنا في ضعفه الإنساني بصورة تستحيل مقاومتها، وربما أراد الهروب من إثارة أي حساسية بين السنة والشيعة، لأن رسالة المسلسل هي توحيد المسلمين لإخراج اليهود من أراضيهم وتحرير القدس.. وهي رسالة يلح عليها المسلسل في عشرات المواقف، فتحرير بيت المقدس لم يكن ممكنا بدون توحيد حلب ودمشق أولا، ثم توحيد الشام ومصر ثانيا، وضمهما إلى العراق تحت خلافة بني العباس.
وينتهي المسلسل بدخول صلاح الدين إلى القدس، حيث ينقلنا المخرج مباشرة إلى العصر الحديث، إلى مشهد البواخر التي تنقل اليهود المحتلين المتدفقين على بلادنا، مع رسالة يوجهها صلاح الدين من عمق التاريخ إلينا.
المسلسل ممتع ويحرك الذهن، ويحمل رسالة حية متجددة.. وقد أحببت فيه شخصية أسد الدين شيركوه المرسومة ببراعة والمؤداة باقتدار، والمليئة بالحركة والحياة والحماس والقوة وعشق الجهاد والفروسية.
ونظرا لأن المسلسل ينتهي دون تناول الحملة الصليبية الثالثة، فقد أتبعته بمشاهدة الفيلم المصري "الناصر صلاح الدين"، حيث أهبط مضطرا من عالم الفصحى البليغة الجزلة، إلى لغة فصيحة ركيكة تتخللها العامية ويكثر فيها اللحن، مع الكثير من الأخطاء التاريخية التي ربما يكون هدفها الدراما، والتي تصل أحيانا إلى حد السذاجة، كما في المشهد الذي يستدرج فيه يوسف العوام ومن معه جيوش الصليبيين إلى المستنقع، وذلك بإثارة الغبار ببعض الخيول، وإلقاء بعض الأسلحة والأحزمة كعلامات يقتفيها الصليبيون، وكأن جيوش الصليبيين مجرد صبية لا يستطيعون التفريق بين حوافر بضع أفراس وبين آثار جيش كامل العتاد بخيوله ومشاته وعرباته!
كما أن صلاح الدين في الفيلم يبدو أصغر سنا، وهو يتكلم كثيرا عن العرب لا المسلمين، مع أن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب هو من أصل كردي لا عربي، وحكام الشام الذين صاهرهم عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين كانوا أتراكا!.. في الحقيقية لم يكن للعرب أي دور يذكر في تلك الحقبة، وقد استمر ذلك بعدها طوال الدولة الأيوبية، ثم حكم المماليك، ثم العثمانيين، ثم الاحتلال الغربي مرة أخرى في القرنين الماضيين، بل وما زال مستمرا حتى اليوم رغم استقلال بلادنا الشكلي ووضع حكام من جنسنا على رأسها!
لقد نجحت قومية أتاتورك التركية، وقومية رضا بهلوي الفارسية وصنع كل منهما دولةً أمّةً قوية، وورثت الثورة الإسلامية في إيران هذه الدولة وأضافت إليها، وتحكم الأحزاب الإسلامية اليوم هذه الدولة في تركيا وتحاول الصمود في وجه الجيش والإعلام والقضاء العلماني.. أما في بلادنا، فقد فشلت الحركة القومية فشلا ذريعا، وانتهت بتضييع القدس والضفة والجولان وسيناء، ليضاف ذلك إلى تفتت القومية العربية على 22 دولة يزيد عددها باستمرار.. وقد تبع ذلك فشل كل الحركات الإسلامية، وانهيار كل مشاريع النهضة والتحرر!
ولكي نفهم لماذا يحدث هذا، علينا أن ننسى الشعارات التي يعلمونها لنا في المدارس، ونعلم أن العرب خارج التاريخ فعليا منذ قرون طويلة، على عكس باقي الأمم المحيطة.. وهذه السلبية لا يمكن عكسها بين عشية وضحاها، لأنها كامنة في خنوع الناس وسلوكهم وحِكَمهم وأمثالهم وثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم ووعيهم وأهدافهم في الحياة، وهو ما يكفي لإفشال أي تجربة في بلادنا عن جدارة!.. والأنكى أن الثورات العلمانية المجرمة في بلادنا عمقت هذه السلبية بمحاربة الإسلام ومساندة البدع والخرافات والموالد والإعلام الفاحش والأدب الهابط، مع البطش بكل صاحب صوت أو رأي أو حق.. فالأمم لا تبنى على الجهل والقمع والظلم ومعاملة الأحرار معاملة العبيد!
وعند مشاهدة فيلم صلاح الدين يتضح لنا هذا الوجه الآخر لهذه المشكلة بجلاء في فكر كتاب الفيلم، فقد رسخوا طغيان نموذج الحاكم الفرد الذي بدونه لا قيمة للأمة، فصلاح الدين كما يقدمه الفيلم هو نموذج القائد الحكيم صاحب الرأي السديد والوحيد، الشجاع الذي يذهب لملاقاة ملوك الغرب في معسكرهم مع اثنين فقط من أصحابه بدون أي حراس، العالِم الذي يجري التجارب الكيميائية في خيمته، الطبيب الذي يعالج ريتشارد قلب الأسد بنفسه، المثالي الذي لا يعنيه جنوده وأرضه في مقابل مُثله، فيرفض عرض ملك فرنسا لخيانة قومه في مقابل بعض الحصون، بل والمدعي الذي يحاكم خائن عكا، والقاضي الذي يحكم عليه.. وهذا بالمناسبة هو أبدع مشهد في هذا الفيلم: المقابلة المسرحية بين محاكمة لويزا بتهمة خيانة الحقد المقدس والوقوع في حب فارس عربي، ومحاكمة خائن عكا بتهمة الكراهية والخيانة لقيم الحب والسلام.. الفيلم عامة اختار الجانب المسرحي الدرامي في الكثير من المواقف على حساب الدقة العلمية وتقديم الخلفية التاريخية للأحداث.. لكن رسالة الفيلم تركز على الصراع بين الشرق والغرب.. وكل هذه أمور يمكن فهمها من سياق المرحلة التي تم إنتاج الفيلم فيها، وسيطرة نموذج الحاكم الفرد على رسالة الفيلم بتأثير الفكر القومي والزعيم (الملهم)!!.. وهو عكس ما قدمه المسلسل السوري تماما، فصلاح الدين يشاور أصحابه في كل أمر، ولا يملك أي قدرات خارقة للطبيعة، ويحاسب نفسه ويراجعها ويعترف بأخطائه، ويرد الفضل في كل لحظة إلى عماد الدين زنكي ونور الدين اللذين وحدا الشام والجزيرة الفراتية، وإلى كل جندي حارب في كل موقعة من الصليبيين عرفنا اسمه أم لا.. بل إن المسلسل ركز حتى على دور طائفة أحداث دمشق في رد المظالم إلى أهلها والحض على الجهاد والمشاركة فيه، وأظهر مقابلات طريفة بينهم وبين الشيوخ والوعاظ، عندما التقى شيخ الجامع الأموي بمراد رئيس الأحداث في السجن ثم في ميدان القتال، وعندما يشتركان معا في قتال الصليبيين، فيستشهد الأول في الدفاع عن الشام، ثم يستشهد الآخر في نهاية المسلسل في موقعة حطين.. شخصية مراد أيضا من الشخصيات التي أحببتها في المسلسل، رغم أنها لم تأخذ حيزا كبيرا.
على كل حال، ورغم أي سلبيات في المسلسل أو الفيلم، فهذه أعمال تستحق المشاهدة، لأنها تحرك الفكر وتدفع إلى التأمل وإعادة تقييم الواقع، علنا نستفيد شيئا من دروس الماضي يفيدنا في حاضرنا ومستقبلنا.. قبل فوات الأوان!
وربما يكون الدرس الذي نتعلمه من التاريخ في هذا الصدد، هو أننا لا نحتاج إلى انتظار صحوة العرب وخروج قائد عربي ملهم لإنقاذ بلادنا، فعبقرية الإسلام هي أنه يلغي القوميات والأجناس والأعراق، ويوحدها ويصهرها في هوية واحدة هي الهوية الإسلامية، فأينما ظهر القائد المسلم المُخلِص المُخلِّص، فهو منا ونحن منه، وساء كان من بلد عربي أو بلد إسلامي غير عربي، فكلها بلاد المسلمين، وعلى كل مسلم واجب الدفاع عنها وحمايتها.. لهذا كان الكردي صلاح الدين هو من حرر القدس، وكان المغوليان قطز وبيبرس هما من هزما التتار!.. ولعل هذا ما يرعب البعض عندنا من بزوغ نجم زعماء تركيا الإسلامية، ومواقفهم القوية ضد إسرائيل، رغم تشابك مصالح تركيا مع إسرائيل، وهو ما لم يعد يجرؤ عليه أي حاكم عربي حاليا!
أما الولاءات الزائفة التي يدرسونها لنا في المدارس، فقد أثبت الواقع كذبها وهشاشتها، فالعراق واليمن والسودان تتفتت، وأمازيغ المغرب يتململون، وبعض نوبة مصر والسودان يحلمون بدولة لهم، والصحراء المغربية لم تعتبر نفسها يوما جزءا من المغرب، وأكراد العراق والشام وتركيا وإيران يثيرون مشاكل واضطرابات مستمرة في هذه الدول، ويبدو أن عدد الدول العربية سيزيد ومساحة الوطن العربي ستتقلص في السنوات القليلة القادمة بدءا بانفصال جنوب السودان!!.. ولو أن هذه المناهج الوطنية العقيمة غرست في نفوس شعوبنا هوية الإسلام، لما حدث أي من هذا، فمعظم دولنا تحتوي على قوميات وأجناس أخرى لا يجمعها إلى الإسلام، وحتى الأقليات غير المسلمة، يعطيها الإسلام حق تطبيق شريعتها ولا يتدخل في أمورها، مما يجعلهم أفضل حالا من حكم الدولة العلمانية التي تفرض عليهم قوانين تخالف شرائعهم.. ولو حررنا أنفسنا من مفهوم الدولة القطرية التي رسمها الاحتلال، لما كنا ساهمنا في تدمير دولة عظيمة كالعراق من أجل دويلة نشأت حديثا نصف سكانها الأصليين بدون جنسية حتى اليوم، واتضحت لنا مهمتها الوظيفية التي رسمها الإنجليز لأجلها هي وكل دويلات الخليج المماثلة، حينما اتخذها الأمريكان قاعدة لاحتلال العراق، فكل هذه الدول هي مجرد قواعد بحرية وجوية وبرية لجيوش أعدائنا، ومصدر تمويل دائم لبنوكهم وشركاتهم المتعثرة من ثرواتنا على حساب شعوبنا، مما يجعل هذه الدويلات تهديدا مستمرا لأي قائد عربي لديه مشروع حضاري أو تنموي أو وحدوي!
فهل يقرأ حكامنا التاريخ، أو حتى يشاهدون هذه الأعمال الدرامية، أم أنهم يدرسون تاريخا آخر غير الذي نعرفه، كَتَبه سادتهم في الغرب، أم أنهم أميون صم بكم حبيسو قصورهم وشهواتهم لا يكادون يفقهون حديثا؟
لعلكم تفهمون الآن لماذا تدعم وزارات الثقافة في بلادنا الفن الهابط والبذيء، ويركز إعلامنا على الراقصات والمغنيات ولاعبي الكرة.. فمثل هذه الأعمال الجادة قد تسبب لهم صداعا هم في غني عنه!.. ولعل هذا يوضح لكم أيضا لماذا تحارب المدارس الأدبية الحديثة كل عمل جاد يحمل فكرا وهدفه، وتصمه بالتكرار والتقليدية والوعظية، إلى آخر هذه الاتهامات الجاهزة!
اللهم أصلح أحوال المسلمين.
محمد حمدي غانم
29/12/2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.