من الذي ينتخب النخبة؟
وهل النقابات فعلا هي الحل؟
هناك سؤال هام، يردده البعض: ما هي النخبة، ومن الذي سيختارها؟
النخبة هي إفراز مجتمعي ناتج عن ملكات يمنحها الله للأفراد إضافة إلى اجتهادهم الشخصي في استثمارها، وليس ناتجا عن اختيارات أحد.. أستاذ الجامعة مثلا هو حصيلة اجتهاد طويل في الدراسة والتحصيل العلمي، ولا يتم اختياره أستاذا جامعيا برأي الأغلبية!
ولكن.. ألا يعني هذا التعريف أن هذه النخبة مجرد مجموعة من المثقفين والأكاديميين المعزولين عن المجتمع، والعاجزين عن فهم الناس، بسبب ما في رؤوسهم من أفكار ونظريات بعيدة عن الواقع؟
والإجابة هي نعم: هم ليسوا كذلك، فالنخبة ليست المثقفين فحسب.. فالنقابات تشمل كل قطاعات المجتمع، وبالتالي فإنها تفرز نخبا من جميع الطبقات.. مثلا: هناك نخبة من نقابة العمال وهم يصلون إلى قيادة النقابة لأنهم الأكثر احتكاكا بالعمال ومشاكلهم، والأكثر قدرة على خدمتهم وجمعهم حولهم والتأثير فيهم.. ويقابلهم الغرفة التجارية (ما يعتبر نقابة رجال الأعمال) وهكذا في كل نقابة.. هذا تمثيل شامل متوازن قائم على مصالح كل فئة، وليس على كلام نظري في بطون الكتب، أو مبادئ مثالية لا علاقة لها بالواقع.
أما المثقفون فشأنهم كغيرهم.. الصحفيون تمثلهم نقابتهم، والكتاب يمثلهم اتحاد الكتاب، وهكذا.. أنا لم أقل في اقتراح ترشيح الحاكم أن هذا من حق الصحفيين والكتاب والمثقفين، بل اقترحت أن يكون من حق قادة النقابات والاتحادات (وربما رؤساء الصحف مثلا).. لكن ليس فئة كاملة من أي نوع، فكل فئة تفرز قادتها ونخبتها، ولهؤلاء فقط حق اختيار من يعلوهم.. وهكذا.. وهذا سيجعل لكل نخب المجتمع من كل طائفة وفي كل مجال تمثيلا متوازنا، ورأيا مؤثرا وحصانة مستندة على قاعدة شعبية قوية.
تذكروا دائما: أنا أدعو إلى إعادة بناء هرم المجتمع الذي دمرته الثورات الشيوعية والاشتراكية والأفكار العلمانية الرأسمالية والديمقراطية، فكلها ازدرت المجتمعات القديمة باعتبارها مجتمعات ذكورية أبوية، واعتبرت أنه لا فروق بين أي أحد ولا احترام لأي قيمة.
ومن وجهة نظري، اعتماد التمثيل النقابي كبديل للمثيل النيابي هو ما سيفعل هذا.. كما أن التصويت النقابي أفضل من التصويت الجماهيري من باب أساسي، هو وجود الحد الأدنى من التخصص والمعرفة والمصالح المشتركة.. هذا ملاحظ الآن في دول أوروبا، فالنقابات هي التي تقود الجماهير ضد القوانين الجائرة، بينما البرلمانات توافق عليها!.. حدث هذا في قانون المعاشات في فرنسا، وقانون زيادة المصاريف الجامعية في إنجلترا، وفي قوانين التقشف في إسبانيا والبرتغال واليونان وغيرها..
فمهما انخفض مستوى ثقافة عضو النقابة، فإنه في النهاية يعرف تماما ما يضره وما ينفعه من واقع مهنته.. وفي مصر، القوى الوحيدة التي تظاهرت وأضربت في السنوات الأخيرة هي النقابات.. عمال الغزل والنسيج في المحلة أشعلوا الدنيا في يوم 6 أبريل الشهير للمطالبة بحقوقهم، وغيرهم من العمال الذين افترشوا رصيف مجلس الشعب الذي لم يخدمهم في شيء.. نقابة الصيادلة أضربت ضد قرارات مصلحة الضرائب، والأطباء أضربوا لرفع رواتبهم، وأساتذة الجامعات و... و....
في التنظيم النقابي، الأمور واضحة، والمصالح محددة، والمنفعة مشتركة، ولا يأتي أحد من خارج المجال ليطلب منك ترشيحه ليدافع عن قضايا لا تهمك.. أما في البرلمانات، فالعملية هلامية، ولا يهتم الناس بالانتخابات إلا من باب القبلية والتعصب العائلي، لكن لا يبدو أي شيء واضحا ولا يعرف الناس ماذا سيفعل النائب، ولا حتى النائب نفسه يعرف ماذا سيفعل، فالمطلوب منه أن يكون رجلا خارقا يفتي في كل قوانين البلد من جميع التخصصات، فإن فهم فيها شيئا، فمن قال إنها تعنيه في شيء أصلا؟!!
لهذا أرى أن التمثيل النقابي، وتولي كل نقابة إصدار تشريعات مهنتها دون تدخل أي غرباء، حل عملي أفضل، وسيجعل الناس تحصل على حقوقهم أو معظمها على الأقل، وسيصير هذا شوكة قاسية في حلوق الدكاتير، لأن تمرير أي قانون لن يكون سهلا أبدا.. وأذكركم أنه رغم هشاشة وضع النقابات المصرية الحالي، إلا أنها تزعج الحكومة، لدرجة وضع نقابة المهندسين تحت الحراسة منذ عقد ونصف ومنع الانتخابات فيها لعجز الحكومة عن السيطرة عليها، ومحاولة فعل المثل مع نقابة الصيادلة.. لأن النقابة جهة تملك التكتل القائم على المصالح المشتركة، وتملك التمويل والمؤسسات التابعة، وتملك قوة الدعوة إلى الإضراب الملزم لأعضائها.. وهذا كله لا يوجد له نظير في البرلمانات، حتى إن المرء يتساءل مدهوشا: ما فائدتها أصلا؟.. هل استطاع 100 عضو من الإخوان منع قانون واحد في مجل الشعب الماضي؟.. هل استطاعوا فرض قانون واحد؟
هنا يبرز سؤال هام: كيف نفعل هذه الأفكار؟
في الحقيقة لا يهمني هذا السؤال كثيرا، فدور المثقف هو أن ينتقد الواقع ويقترح الحلول، أما العمل السياسي فله ناسه.. كل ما يعنيني الآن هو تغيير فكر المثقفين، لأني يعز علي أن أرى الناس تموت وتضرب وتعتقل دفاعا عن أفكار فاسدة لو طبقت فعلا فستدمر مجتمعاتنا أكثر مما هي.. الكل يردد "الديمقراطية".. الديمقراطية"، وكأنها حل سحري، بل صار بعضهم يتغنى بأمجاد عصر الاحتلال الإنجليزي لمصر، باعتباره العصر الذهبي للديمقراطية وتداول السلطة (تحت الحكم الملكي).. لكن كل هذا عبث، والتجارب كلها فاسدة، وحينما كانت صناديق الانتخاب تزعج الإنجليز، كانوا يحاصرون قصر الملك بالدبابات لإجباره على عزل الحكومة!!
لقد ادعت الديمقراطية أنها وضعت الآليات المثالية التي تضمن اختيار أفضل شخص، وتضمن الحد من جبروته من خلال الفصل بين السلطات، ولكن حال العالم اليوم يقول إن هذه الفكرة استنفدت أغراضها، وفسدت آلياتها.. صحيح أنها ما زالت تتيح للشعوب التخلص من الحاكم الطاغية أو حزبه (كما اختار الأمريكان أوباما نكاية ببوش وحزبه، وفي التجديدات النصفية اختاروا الحزب الجمهوري نكاية بأوباما وحزبه!!)، ولكنها لا تعدو كونها ردة فعل تحركها مشاعر القطيع بعد خراب مالطة!!.. الديمقراطية تصلح كنظام للتجربة والخطأ وتصحيح الخطأ، لكنها لا تصلح كنظام واع حكيم خبير قادر على الفرز الصحيح أو الوصول إلى الاختيار الأقرب إلى الصحة منذ البداية!
وحبذا لو اتفقنا على أنه لا توجد نظم مثالية يمكن تطبيقها في هذا العالم.. كل نظام توجد فيه ثغرات، ويستطيع الأشخاص الأكثر فهما لثغراته توجيهه والسيطرة عليه على الأمد البعيد.. لهذا أنا أدعو إلى إعادة تقييم كل المؤسسات والنظم بشكل دوري كل عقدين من الزمان (خاصة المدارس)، لأنها لا محالة تكون ترهلت واستنفدت أغراضها وسيطر عليها المفسدون، وصارت تحكمها العلاقات الشخصية لا القوانين الأساسية، وخرجت عن أهدافها الأساسية، وربما صارت تؤدي عكسها.
لكن هذا لا يمنعنا من السعي إلى التفكير في نظم أقل أخطاء وثغرات.. وهذا ما أراه ينطبق على فكرة التمثيل النقابي، التي ستسد معظم ثغرات التمثيل النيابي الموجود حاليا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.