كورونا وتسونامي
التغيير
أعرض في هذا المقال الأسئلة الوجودية التي يطرحها كورونا:
1. هل سيسود التعليم والعمل عن بعد فيما بعد كورونا؟
2. هل عمل المرأة أهم
أم الإنجاب لمواجهة أي وباء مستقبلي يقتل الأطفال ويهدد بالانقراض؟
3. هل ستنتبه فئة الـ
10% التي تملك 90% من ثروات العالم، أن الفقراء خطر على حياتها، وأن محاولة قتلهم
وزيادة إفقارهم يمكن أن تدمر العالم وتبدد ثروات أغنيائه؟
آثار عميقة ظاهرة لكورونا:
كل قضاء الله خير،
ولله في أقداره حكمة بالغة، قد يدركها من يمعن النظر.
ولن أتكلم هنا من منظور
ديني عن كيف تجبر الأوبئة الناس على العودة إلى الله.
ولا من منظور
صحي حين تجبرهم على النظافة والعفة وتبعدهم عن التدخين والخمور والمخدرات
والأكل غير الصحي والحياة الخاملة غير الرياضية.
ولا حتى من منظور
علمي، من حيث تحفيز البحوث الكيميائية والدوائية والطبية بحثا عن علاج،
وإجبار الطُغَم الحاكمة على توجيه ميزانياتها من تطوير أسلحة القتل والدمار إلى
تطوير الصناعات الطبية والبحوث الصيدلية.
ولن أتكلم من منظور
اقتصادي عن هدم منظومة الربا والأنماط الاستهلاكية التافهة والأنشطة
الترفيهية التي أخذت أكبر من حجمها، وكل هذا يعيد توزيع الثروة في المجتمع من
جديد.
ولا حتى من منظور
إنساني، عن أن مجتمعات العالم الثالث الغارقة في الفقر والتشرد والمرض
والحروب والجثث المتراكمة في الشوارع والملقاة في مجاري الأنهار، هي البيئة الخصبة
لإخراج ونشر كل الفيروسات والأوبئة المسجل منها والمجهول.
ما يعنيني هنا هو كيف
تصفع الأوبئة والأزمات الضخمة بهذا الحجم، المجتمعات المترهلة المعاندة للتغيير
والتطوير، فتوقظها من غفلتها، وتسرع تطوير المؤسسات وكنس كل العادات والنظم
الراكدة منذ عقود وأحيانا قرون:
1. هل سيسود التعليم والعمل
عن بعد؟
فالعالم كله وجد نفسه
بغتةً بلا مدارس ولا عمل، ومعظم الناس محبوسون في بيوتهم، وهو ما سلط الضوء فجأة
على أن ثورة الاتصالات والمعلومات جاهزة منذ عشرين عاما على الأقل لتقديم بديل سهل
ورخيص وفعال للتعليم والعمل من المنزل، وأن ما كان يحدث من هذا باستحياء
وكاستثناء، يجب أن يصير القاعدة العامة.. وفي ظل الأزمة، صارت شركات عملاقة كثيرة
تعمل بالفعل من المنزل على رأسها شركات البرمجيات والمعلومات والإنترنت والخدمات..
ونحن نعلم يقينا أن معظم المعاملات الحكومية ومعظم الوظائف المحاسبية والاستشارية
يمكن إجراؤها عن بعد.. فلماذا نضيع عمر الناس في المواصلات، ونحرق كل هذا البنزين
ونلوث البيئة ونسمم الناس ونعرض الفتيات والنساء للانحراف والتحرش والاغتصاب بلا
داع؟
كورونا جاء ليغير شكل
العالم، بإجباره على قبول الانتقال الحضاري الذي تلكأ في قبوله طويلا، بسبب ضغط
جهات المصالح لبقاء الأمر كما هو عليه، مثل شركات النفط التي يهمهما استمرار
الزحام وحرق البنزين وتلويث البيئة لتربح أكثر، وشركات السيارات التي ستخسر كثيرا
وتنخفض مبيعاتها حينما يتعلم معظم الناس ويعملون من المنزل!!
في المقال التالي
بإذن الله، سأطرح أفكارا بسيطة لتقليل كثافة الفصول المدرسية إلى الثُمن، بنفس
البنية التحتية القائمة، وبدون استبعاد أي تلميذ من التعليم، وبدون أي زيادة في
أعداد المدرسين أو ميزانية التعليم!
2. هل
عمل المرأة أهم أم الإنجاب لمواجهة أي وباء يقتل الأطفال ويهدد بالانقراض؟
هل سأل عاقل نفسه
ماذا سيحدث لو كان كورونا يقتل الأطفال؟
وهل سيجهز الغرب نفسه
لاحتمال كهذا، وهو يعاني أصلا من انهيار عدد المواليد وانخفاض نسبة الأطفال
والشباب إلى نسبة الشيوخ والعواجيز في المجتمع؟
هل حقا دور المرأة
الأهم في الحياة هو العمل في الصناعة أم الإنجاب والعمل في صناعة الحياة؟
ماذا لو قتل الفيروس
التالي معظم المواليد والأطفال وعرّض أوروبا وأمريكا وروسيا والصين لخطر الانقراض؟
هل سيبدأون من الآن
في إجراء عملية غسيل مخ عكسية للتي يقوم بها إعلامهم وآدابهم وفنونهم منذ عقود،
لإقناع المرأة أن دورها كأم هو أخطر دور في الوجود، وأن عمل الرجل أيا كان غايته
الأسمى هو توفير الظروف المناسبة لها لأداء هذه المهمة، وأنه مهما علا شأنه أجير
يعمل لخدمتها، وأن كل أسرة يجب أن تنجب ثلاثة أطفال على الأقل تحسبا لأي وباء قادم
يقتل الأطفال؟
وهل سيسمح الغرب
بتعدد الزوجات، وهو يرى كورونا يقتل من الرجال ضعف ما يقتل من النساء؟.. وإذا ترك
الأمر لديمقراطيتهم، فكم امرأة عانس يمكن أن تعترض على هذا؟
وإذا جلست معظم
النساء في منازلهن، ألن يسمح لهن هذا بتعليم أطفالهن منزليا وتعليم أطفال الجيران
تساهميا (لضرورة التعليم وجها لوجه في المراحل الأولى من حياة الطفل)، ثم تعليم
أطفال العالم عن بعد عبر الإنترنت ويوتيوب؟
ألن يكون هذا النوع
من المدارس المجتمعية أفيد نفسيا للأطفال، ويحميهم من العدوى والمخاطر التي
يتعرضون لها في الشوارع والمدارس (مثل المخدرات والاغتصاب أو حوادث إطلاق النار
العشوائية المتكررة في المدارس والجامعات الأمريكية)، وسيوفر نقود الأسرة والدولة،
ويقلل حرق النفط وتلويث البيئة، ويحول المدارس في العالم أجمع إلى معامل بحثية،
يذهب إليها الطالب يوما أسبوعيا في رعاية الأسرة لإجراء التجارب العملية، ويترك
للطفل حرية كبيرة لممارسة هواياته وتنمية مواهبه وحتى العمل مبكرا إن شاء عبر
الإنترنت أو في مهن بسيطة تناسبه بجوار دراسته؟
وألن يستدعي كل هذا
إعادة رسم خريطة الوظائف وتعريف سوق العمل لإنهاء مصطلح البطالة نهائيا، ودعم
الدول لصناع المحتوي العلمي والإبداعي على الإنترنت من مخصصات المهن التي ستختفي
أو تكاد كمهنة المدرس؟
3. هل
ستنتبه فئة الـ 10% التي تملك 90% من ثروات العالم، أن الفقراء خطر على حياتها،
وأن محاولة قتلهم وزيادة إفقارهم يمكن أن تدمر العالم وتبدد ثروات أغنيائه؟
أليست مدينة نيويورك
الأشد معاناة الآن من الوباء هي عاصمة أمريكا المالية بل وربما عاصمة العالم كله،
ورغم هذا يوجد فيها آلاف من المشردين وملايين الفقراء الذين يعيشون حياة غير آدمية
في أحياء متدنية وكثير منهم يعيش ويأكل وينام في غرفة واحدة فيها موقد وسرير
وحمام؟!!
أليس هؤلاء البيئة
الخصبة لانتشار الأوبئة والأمراض التي تقتل الأغنياء في النهاية؟
وهل يستطيع الأغنياء
عزل أنفسهم عن هؤلاء، وهم يعملون لديهم خدما وحراسا وحرفيين وعمالا وحتى مدرسين
لبنائهم؟
ألا يجب أن يدرك كل
غني أن حياته متعلقة بحياة هؤلاء، وأن البيئة الآمنة تبدأ من مجتمع نظيف صحي آمن
للجميع؟
وحينما يموت هؤلاء
ويتوقفون عن الشراء والاستهلاك، ويحظر الناس عن العمل في المصانع والمتاجر، فمن
أين سيجني الأغنياء أرباحهم؟
أليس هذا هو مفهوم
العدالة الاجتماعية، ومصداق الحديث النبوي الشريف: ما نقص مال من صدقة، ومصداق
قوله تعالى (يَمحقُ اللهُ الربا ويُربي الصدقاتْ)؟
درس عملي مباشر، سنرى
هل سيدركه الأغنياء أم ستسقط النقطة من فوق النون فتحولها إلى باء؟
أليس غريبا أن يثير كل هذا فيروس ضعيف تافه مقارنة بفيروسات
أخرى أشد فتكا وشراسة ووحشية ونسبة وفيات، لكنه طعن غرور الحضارة المادية في مقتل؟
كورونا ثورة فكرية تجتاح العقول والنظم.. درس قديم متجدد، يقول
للعالم كله:
من يقف أمام التغيير يسحقه قطار الحياة.
كورونا هو ذلك الطفل الذي رأى الغرب عاريا، ففضحه أمام كل
العميان والمتعامين!
كأنه زلزال قد يكون عاديا لو ضرب سطح الأرض وخلف بعض الأضرار،
لكنه ضرب عمق المحيط الفكري والاقتصادي والاجتماعي للحضارة المادية الغربية،
وستتبعه موجات تسونامي هائلة تجرف كل هذه الأفكار والنظم القديمة في طريقها.
حقا: (وما يعلم جنود ربّك إلا هو)
حفظنا الله وإياكم من كل سوء، لعلنا نرى معا كيف سيتشكل عالم
ما بعد كورونا.