الحب يجرح أحيانا
كانت تنظر له نظرة عدم تصديق، والدموع التي تترقرق في عينيها تنِمّ عن خيبة أمل قاتلة.. سألته بصوت مشروخ:
- لماذا جرحتني؟
استجمع نبرات حروفه من غُصة تؤلمه وغمغم في عجز:
- لقد خلقتُ لأجرح!
- ما أسهلَ أن نلوم أقدارنا.
- لا ألومها.. أنا فقط أخبرك بالحقيقة.
- الحقيقة أنك خدعتني.
- أنتِ خدعتِ نفسك.
- أنا؟!
- خيالكِ غرّر بك.
- خيالي أم اصطناعُك؟
- لم أصطنع شيئا.. كنتُ أعبر عن جزء من نفسي.
- وحجبتَ عني جزءا آخر.. جزءا يدمي!
- حجبه عنك فُتونك.
- أنت فتنتني.. أنتَ خدعتني.. جعلتَ من نفسك ملاكا أروع من أن أقاوم فُتوني به.
- [هاكما] ألم تعلّمكِ الحياة يوما أن الملائكة لا تحيا في عالمنا؟
- ظننتُك الاستثناء الوحيد.
- [متنهدا] ألم أحذّرْكِ؟
- [بتردد] ربما.. لكني خِلتُه نوعا من التواضع منك!
- [بسخرية] تواضع الملائكة؟!!.. لا فائدة.. لا أحد يرى إلا ما يريد رؤيته.. ما أقتلَ التبرير!
- [بغضب] وأنتَ، ألا تبرر الآن؟
- بلى.
- إذن تعترف؟
- [باستسلام] نعم.
- [بنظرة مندهشة] هكذا ببساطة؟!
- [ببسمة باهتة] نعم.
- هل خداعي وجرحي لديك بمثل هذه البساطة؟
- [بشجن] الحياة أبسط مما تتخيلين.. آلامنا أتفه من شرود الغروب، وصراخنا أخفت من هدير البحور، وأحلامنا شموع تنطفئ آلاف المرات في أعمارنا القصيرة.. ماذا في نظركِ يستدعي التعقيد؟.. غرورُنا؟
- ها أنتَ ذا تحاول تخديري بكلماتِك الغريبة من جديد!
- وهل سأنجح؟
- [بتلعثم] ربما.. أنت تعرف نقاط ضعفي!
- وهل أعرف عيوبك؟
- عيوبي؟
- أتَخْلِينَ من العيوب؟
- حتما لا.
- وهل أعرف أنا هذا؟
- [بعد لحظة تردّد] أجل.
- ورغم ذلك أحببتُكِ وما زلت.. أليس كذلك؟
- [سالت دموعها] بلى.
- فلماذا أحب عيوبَك؟
- تحب عيوبي؟
- أجل.
- فأخبرني أنتَ لماذا؟
- لأنها عيوبك.. لأنها أنت.
- [باستخفاف] أساطيرُ شعراء.
- بل أحاديثُ عقلاء.
- أفدني.
- أليس من نقصنا ينبع سمونا، حين نتعالى لننشد الكمال؟.. ألسنا ذلك السعيَ الدائب على درب التجرِبة والخطإ والتعلم؟.. ألا تبدينَ في غاية الفتنة وخداكِ متوردان خجلا وعيناكِ تلوذانِ برموشهما مهابةَ مواجهتي بهفواتك؟.. ألا تبدينَ كقطة صغيرة بديعة وأنتِ تتكومين في صدري تستدرّينَ صفحي؟.. ولمَ في نظركِ خُلِقتْ هذه الضلوع إلا لاحتوائكِ في ضعفكِ وانهزامك؟
- [ودموعها تنهمر مدرارا] أحببتَني مثل هذا الحب؟
- وأكثر.
- كيف؟
- رأيتك طفلة بريئة، يحق لها أن تخطئ ويتوجب علينا أن نتغاضى.
- وهل تطالبني بالمثل؟
- لم أفعل.
- لم يكن ممكنا حتّى لو فعلت.. أنتَ أحكم من أن تكون طفلا يخطئ.. أنت ملاذي وحكمتي ومرشدي.
- كيفَ لم تَرَيْ الطفل بداخلي؟.. كان يتوقُ إلى حنانِك!
- كنتَ تأخذ بيدي على درب الحياة، وكان عليكَ أنتَ أن تُرِيَني ما يجب عليّ أن أراه.
- أوّاه.. ما أثقلَ المسئولية!
- تتنصل من مسئولياتك؟
- لا.
- ولكنكَ خذلتَني.
- أنتِ حمّلتِني ما لا طاقة لي به، ورفعتِني إلى حيث خنقني نقص الهواء وأحرقني دُنوّ الشمس!
- لقد توقعتُ منكَ ما أبديتَه أنت.
- لقد فَتَنَكِ العسل، فتصوّرتِ حوريةً تصنعُه من رحيقِ أنفاسِها ودموعِ خشوعِها.. لكنّ العسل تصنعُه نحلةٌ لا حورية.
- وأنتَ هذه النحلة؟
- ماذا تَرَين؟
- إنّك وسيم.. لستَ قبيحا مثلها!
- لكنّني ألسع مثلها!.. لقد خُلقت لأجرح مثلما قلت لك!
- ولماذا يجب أن تكون هكذا؟
- هل لمتِ نحلةً من قبلُ على كونِها قبيحة أو أنها لسعتك؟
- لا.
- فلِما؟
- لم يكن يعنيني أكثرُ من عسلها.
- كان يمكنكِ أن تكتفي مني بشعري!
- ولكني أردتُكَ كلَّك.
- الشوكُ بعضي، لهذا أدماك حِضني.
- تخيّلتُ أني أستطيعُ قصفَ شوكك!
- لهذا رحتِ تطعنينَني بكلِّ حماس!
- لم أهدف إلى إيذائك.. كنت أظن أنني أجعلك أفضل.
- [بتهكم] وماذا تَرَيْنَ الآن؟
- [بعذاب] لم تعُدْ أنتَ أنت، ولم أعد أنا أنا!
ابتسم بشجن وأشاح بوجهه ولم يُعقّب.
وتركته وابتعدت في مرارة.
***
صفعتها الريح في تلك الليلة الباردة، فسَرَت في جسدها رجفة شديدة.
رآها ترتعش فرقّ لها.. فَرَدَ لها ذراعيه في حنان فترددت لحظة.. استحثّها بابتسامة صفح، فاقتربت منه بخطوات بطيئة، لتسكن في حضنه وتستكين، فيحتوِيَها بجوار قلبه في حب..
وسْطَ دفءِ صدره..
ووسْطَ الأشواك!
***
محمد حمدي غانم
15/12/2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.