أبدع حاسب وأبدع نظام تشغيل
1- الإنسان يطوّر، لكن لا يخلق
يقول عز وجل في سورة البقرة:
(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {31} قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {32} قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ {33})
هذه إذن هي نقطة البداية الحقيقية.. لقد علم الله سبحانه آدم الأسماء كلها، فبدأت الإنسانية بطفرة في المعرفة.. بدفعة ما زلنا نسير في قصورها الذاتي إلى الآن.
لكن، هل يعني هذا أن الإنسان بدأ وهو يعرف كل شيء؟
ليس هذا ما نعنيه، فقد منح الله سبحانه وتعالى الإنسان العقل والإرادة، والقدرة على التعلم والاستكشاف، ومن ثَم التطوير.. ولم يكن هذا ممكنا لو لم يزود الله سبحانه وتعالى الإنسان باللغة والقدرة على التواصل.. يقول سبحانه في سورة الرحمن:
(الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ {2} خَلَقَ الْإِنسَانَ {3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ {4})
ومما يدل على أن الإنسان لم يولد ومعه المعرفة كاملة، قصة قابيل وهابيل ابني آدم عليه السلام، حينما قتل قابيل هابيل ولم يكن يعلم شيئا عن دفن الجثث.. يقول سبحانه في سورة المائدة:
(فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ {31}).
فالإنسان لم يولد بالعلم الكامل، لكن الله سبحانه منحه القدرة على التعلم من الطبيعة والمخلوقات من حوله.
هذا يوصلنا إلى حقيقة مذهلة، هي أنّ معظم التقنيات والاختراعات والفنون التي أبدعها البشر كانت مكتوبة أساسا على جينات الكائنات الحية!
هناك زهرة وفراشة وريشة صنعت فن الرسم.. ألوانها وتصميماتها الهندسية مكتوبة على جينات النباتات والحشرات والطيور بقدرة الخالق عز وجل.
هناك طائر زقزق فعلم الإنسان الغناء والعزف، وطائر طار بجناحيه فألهم الإنسان بحلم الطيران، وجعله يقلد ديناميكية طيرانه ومقاييسه الهندسية عندما صمم طائراته.
هناك طائر يخيط عشه علم الإنسان الحياكة.. وطائر يبني عشه بالطين علمه بناء المساكن.. ونملة علمته النظام والتدبير والتخزين، و.... و....
لكن الأمر لا يتوقف عند مجرد الملاحظة والتعلم والتقليد فالابتكار.. الأروع من هذا، أن معظم المواد التي نستخدمها في الصناعة جاءت من النباتات والحيوانات أساسا، (مثل الصوف والقطن والحرير والصمغ والأصباغ والأدوية وجميع المواد الكربوهيراتية والدهون النباتية والبروتين والخشب وعلف الماشية.. إلخ).. بل إن الفحم والبترول اللذين صنعا ثورة الآلة أصلهما النباتات والحيوانات، ولم يكونا ليوجدا لو لم يعمل اليخضور (الكلوروفيل) في أوراق النبانات على تحويل ضوء الشمس إلى طاقة كيميائية مختزنة في الروابط الكيمائية للنشويات والبروتينات، التي يتغذى عليها الحيوان، ومن تحلل أجساد النباتات والحيوانات تحت ضغط باطن الأرض ودرجة حرارتها نشأ الفحم والبترول.
أما عن الكيمياء الحيوية التي تحدث في أجساد هذه النباتات والحيوانات، وما تفرزه من سوائل ومواد مختلفة الطعوم والأشكال والألوان والأغراض، فهذا مجال يطول فيه الحديث!.. وكمثال بسيط: لقد تعلم الإنسان من إنزيم الليبيز الموجود بالمعدة كيف يصنع مساحيق الغسيل الحديثة التي تزيل البقع الزيتية والدهنية!
لقد سطر الله سبحانه على جينات الكائنات الحية أفكارا مدهشة وتقنيات بديعة، فمن هذه الكائنات ما يصنع خزفا وخشبا وعسلا وسما و... و... و....، ومنها ما يستخدم حيل دفاع متطورة لحماية نفسه، ومنها ما يجيد الغَزَل والغناء، ومنها ما يتباهى بجماله وألوانه، ومنها ما يستخدم قوانين الطبيعة ليسبح في الماء أو الهواء أو يزحف على الأرض أو يحفر خلالها، ومنها ما يتكيف مع الحر والبرد والجفاف والجليد و.... و.....!
ما أريد أن أقوله هنا هو أنّ الإنسان لا يخلق شيئا من العدم ولا يبتكر شيئا من خياله المحض.. الإنسان مخلوق مُنح القدرة على الملاحظة والتحليل والاستنباط، ومن ثَمّ إعادة البناء.
ويمتاز الإنسان أيضا بالذاكرة، والقدرة على تناقل المعرفة وتخزينها وإعادة تعلمها.. هذا ما منح للعلم البشري طبيعة التراكم، والقدرة على البدء من حيث انتهى الآخرون، وعدم بدء الحضارة في كل جيل من مرحلة اختراع العجلة!
لهذا انتقل الإنسان عبر تاريخه من مرحلة اكتشاف النار بواسطة صاعقة (مؤثر خارجي مفاجئ)، إلى مرحلة اختراع الآلات البخارية لأداء وظائف معينة، حيث كانت الآلة تصنع أولا وعند تجربتها لا تعمل لسبب أو لآخر، مما يضيع تكلفة إنشائها، ومن ثم بدأت الحسابات الرياضية تأخذ حيزا في العملية، حيث يتم تصميم الآلة أولا وحساب المعادلات التي تحكم عملها قبل إنتاجها، وهذا ما أوصلنا إلى المرحلة الحالية التي يسبق فيها التنظير التجريب، لدرجة أن صارت هناك معادلات نظرية لم يتم تطبيقها بعد لعجز التقنية!
وهناك عامل آخر أثر في مسيرة الفكر البشري، هو عامل الصراع، والحاجة التي هي أم الاختراع.. لقد قامت الدنيا على صراع الخير والشر، وهو ما كان حافزا ليطور كل فريق من الفريقين نفسه وأدواته، مما أدّى إلى تطور العلم والتقنية.. لقد أدت الحرب العالمية مثلا إلى قفزة هائلة في الطب والطيران والعديد من الاختراعات المفيدة كالأغذية المحفوظة على سبيل المثال.. هكذا يدفع الله الناس بعضهم ببعض، وإلا فسدت الدنيا وركدت.. ورب ضارة نافعة كما يقولون.
لكن ما يذهلك حقا هو قدرة بعض البشر على اختزال الحقائق بنظرة أحادية تستحق الشفقة، كأن يدعي بعضهم مثلا أن كل شيء نشأ بالصدفة بما في ذلك الإنسان نفسه وكل المخلوقات بل والكون بما فيه، وأن يدعي آخرون أن الصراع الطبقي هو أساس حركة التاريخ وأنه كاف لتفسير كل شيء، بما في ذلك الأديان التي يدّعون أنها جاءت لتكون أفيون الشعوب، وأن يدّعي غيرهم أن شهوات الإنسان وغرائزه هي المحرك لكل إبداعاته، وأن يدعي آخرون أن القرد تطور ليصبح إنسانا بينما كان يتسلى بأكل الموز على الأشجار!!.. إلى آخر كل هذه الأفكار المريضة الانتقائية، التي تأخذ ملاحظة سطحية ساذجة من ملاحظات الحياة وتحاول أن تعممها لتضلل السذج وقليلي المعرفة، بينما الحقيقة العلمية الواضحة تقول بجلاء إن هذا الكون محكم البناء ويسير على قوانين ثابتة، وإن هناك قوّة ملهِِمة، تركت مفاتيح الإبداع في الطبيعة حول الإنسان وأمام عينيه، مكتوبة بتقنية مبهرة على الأحماض النووية الوراثية للكائنات الحية وفي ظواهر الطبيعة، وإن كان الإنسان قد احتاج إلى قرون ليكتشفها تدريجيا ويتعلمها ويستفيد بها، وهو ما لم يكن يحدث أساسا لو لم يكن الإنسان مجهزا بالمخ والملكات الذهنية والغرائز والدوافع التي تجعله يتفاعل مع كل ما حوله ويستفيد به ويسخره ويتناقل خبراته عنه من جيل إلى جيل.
ما رأيك الآن لو أخذنا فكرة أوضح عن لغة البرمجة الإلهية المكتوبة على أشرطة DNA لنفهم عما نتكلم بالضبط؟
هيا بنا.