أبدع حاسب وأبدع نظام تشغيل
10- إنتاج البشر:
تأمّل قوله تعالى في سورة لقمان:
(مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {28})
في ضوء المعلومات الوراثية الحديثة، نكتشف أنّ كلّ البشر هم في الحقيقة قالب واحد، لكنّه يختلف فقط في بعض الخصائص الوراثية المخزنة على شريط DNA.. الآن أصبحنا نفهم أنّ كلّ المطلوب لبعث البشر جميعا هو المواد الأولية اللازمة لبناء أجسادهم (متوفرة في التربة)، والشفرة الوراثية التي تحوي سماتهم (محفوظة في علم الله، كما أنّ هناك خلايا في عصعص الإنسان لا تذيبها الأحماض ولا تفتتها الانفجارات!)، وآلية لترجمة الشفرة الوراثية لإعادة بناء الجسم من عناصره الأولية (وهي عملية سهلة، فهي مجرّد إعادة لعملية الخلق التي حدثت من قبل بالفعل!.. أليست إعادة الشيء أسهل من بنائه؟).
ألا يوضّح لنا هذا كيف أن خلق وبعث كلّ البشر هو مجرّد تكرار لعملية خلق وبعث نفس واحدة؟.. فكّر في خطوط إنتاج المصانع، أو في تعريف نسخ من نفس الفئة Class في البرمجة مع تغيير بعض خصائص كل كائن Object تم تعريفه ليختلف عن الآخر، ولله المثل الأعلى.
الملفت للنظر، أنّ الآية السابقة لهذه الآية مباشرة، هي قوله تعالى:
(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {27})
لا داعي للكلام عن كلّ نعم الله التي لا تحصى.. فكّر فقط في المعلومات الموجودة على شريط DNA الخاص بالبشر، والذي يحوي ما يعادل نصف مليون صفحة من المعلومات، تضم ثلاثة بلايين شفرة مختلفة.. فإذا دوَّنا كل المعلومات الموجودة في جزيء (د ن أ) واحد على الورق، فسيمتد هذا الورق من القطب الشمالي إلى خط الاستواء!!.. وهو ما يوازي نحو 10000 مجلد، صالحة لملء مكتبة كبيرة.. وإذا شرع شخص ما في قراءة شفرة (د ن أ) واحدة كل ثانية دون توقف، طوال اليوم وكل يوم، فسيستغرق ذلك منه 100 سنة!!.. هذا يؤكد لك طبعا أنك لن تحصي نعم الله عليك، لأنك قبل حتى أن تنهي مجرد قراءة معلوماتك الوراثية التي تجعلك تحيا وتتميز عن غيرك، فسيكون عمرك قد انقضى!!.. سبحان الله.. لهذا استغرق مشروع الجينوم البشري ـ الذي اضطلع به أسطول من أساطين العلماء والباحثين من عدة دول متقدمة ـ عشر سنوات كاملة لتدوين هذه البيانات!
هذا عن شفرات شريط واحد.. فما رأيك إذن أن نبحث في عدد احتمالات تباديل وتوافيق هذه المعلومات، لتكوين أشرطة DNA مختلفة عن بعضها (بمعنى آخر: بشر يختلفون عن بعضهم)؟
كما ذكرنا من قبل، فإنّ معلومات الحمض النووي تتكوّن من 4 حروف مختلفة (4 مركبات كيميائية) تتراص في كلمات طول كلّ كلمة منها 3 حروف.. هذا يعطينا (4 أس 3) أي 64 كلمة مختلفة.. هذه الكلمات هي الشفرات الوراثية.
وهناك حوالي 3 مليارات موضع للشفرات على شريط DNA (قرأت في مصدر آخر أنها 8 مليارات موضع.. لكن دعنا نأخذ الرقم الأصغر ونرى).. ويأخذ كلّ موضع من هذه المواضع أيّ شفرة محتملة من بين الشفرات الـ 64 المختلفة.. معنى هذا أنّ عدد نسخ DNA المختلفة التي يمكن الحصول عليها تساوي (64 أس 3 مليار) أي حوالي (10 أس 5 مليار).
حاول أن تتخيّل الرقم واحد وعلى يمينه 5 مليار صفر.. هذا رقم لا يمكن حتى مجرد تخيّله!
هل تعتقد أنّ كل أشجار الأرض ـ لو استخدمت كأقلام ـ وكل قطرة من ماء البحار والمحيطات ـ لو استُخدمت كحبر ـ تكفي لكتابة كلّ أنماط البشر الذين يمكن الحصول عليهم من التغييرات الممكنة في معلومات الحمض النووي DNA؟
هذا ونحن نتكلّم عن البشر فقط.. لكن ماذا عن باقي 9 مليون نوع من أنواع الكائنات المختلفة على سطح الأرض، والتي تختلف في عدد صبغياتها وأحماضها الوراثية أصلا؟
وصولنا إلى هذه النقطة، يلفت نظرنا إلى حقيقة هامة: وهي أنّ عدد البشر المميزين والمتفردين الناتج عن هذه التباديل، لن يكون بالضبط ذلك الرقم المهول الذي حصلنا عليه، لأنّ بعض الاختلافات لن تجعل الشخص متميزا.. أيضا ليست كلّ الاحتمالات مقبولة، لأن بعضها سينتج أشخاصا مشوهين، أو يحملون سمات غير بشرية، أو سمات تؤدي إلى إعاقتهم عن الحياة وقتلهم أصلا.
فكم يا ترى عدد النسخ الصحيحة الممكنة من وسط كلّ هذه الاحتمالات الهائلة؟
طبعا هذا العدد في علم الله، ولكن يمكننا أن نقول إنّ عدد البشر عبر التاريخ يقع في نطاق مليون مليار، أي 15 صفرا على يمين الواحد.. هذا بافتراض أن التاريخ البشري يمتد إلى مليون عام، وأن هناك مليار شخص يولدون كل عام وهو احتمال مبالغ فيه إلى أقصى درجة!
بل افترض حتى أنّ عدد البشر منذ بداية التاريخ يقع في نطاق 20 صفرا على يمين الواحد.. ثلاثين صفرا.. مئة صفر حتى.. هل يوجد وجه مقارنة بين عدد يحتوي على 100 صفر على اليمين، وعدد يحتوي على 5 مليار صفر على اليمين؟
هذا يجعلنا نفهم أنّ نشوء البشر بالصدفة هو أمر مستحيل، فاحتمالات تشوّههم أو موتهم نتيجة الترتيب العشوائي الخاطئ للمعلومات الوراثية هي احتمالات واسعة للغاية.. وكما يقول أحد الأطباء: إنّ كلّ طفل يولد صحيحا بدون نقص أو تشوّه هو معجزة في حدّ ذاته.. لكنّ هذه المعجزة تحدث وتتكرّر يوميا آلاف المرات.. فعن أيّ صدفة نتكلّم؟
وما دمنا قد وصلنا إلى هذه المنطقة، فلنتأمل قليلا هذا المشهد المهيب:
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ {172} أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ {173}) الأعراف.
والآن فلنسأل أنفسنا: كيف يمكن أن يجمع الله البشر جميعا ويشهدهم على أنفسهم؟
بالنسبة للمؤمنين، هذا سهل الحدوث على مستوى الأرواح.. لكن افترض أننا نجادل غير المؤمنين هنا.. دعنا نقول لهم إن الآية تتكلّم بوضوح عن النسل البشري جسديا.. عن أخذ الذرية من ظهور بني آدم (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ).. إذن فمن المنطقيّ أن نتكلّم ها هنا عن الأجساد أيضا، وليس الأرواح فقط.
والسؤال الآن: كيف ينشئ الله كلّ البشر دفعة واحدة، مع العلم أن هذا يتطلّب معرفة الآباء والأمهات أولا ليمكن معرفة سمات الأبناء الناتجين؟
بالنسبة لمن يؤمن بعلم الله المطلق ومعرفته بالغيب، يؤمن أنه من اليسير عليه سبحانه أن يعلم الشجرة البشرية كاملة منذ آدم وحواء إلى يوم القيامة.
لكن أيضا حتى لا نخذل أصدقائنا إياهم، دعنا ننظر للمسألة بصيغة أخرى:
لماذا تجب معرفة الشجرة البشرية كاملة؟.. لماذا لا ننظر للموضوع خطّيا Linearly.. فبدلا من تخيّل الشجرة البشرية بكلّ علاقات التزاوج والأبوة والبنوة فيها، لماذا لا يتمّ مباشرة إنتاج كلّ احتمالات شريط DNA المقبولة التي تنشئ بشرا؟
كما قلنا من قبل، كلّ المطلوب هو شفرة وراثية، ومواد أولية، وخطّ إنتاج لتنفيذ كلّ شفرة إلى منتج بشري (بالنسبة للتقنية الإلهية، فهي أرقى تقنية شهدها الكون: كن فيكون).
وبهذه الطريقة المباشرة يقف البشر جميعا في صعيد واحد أمام خالقهم دون الحاجة إلى أن يعرفوا آباءهم وأمهاتهم، ليشهدهم الله سبحانه على أنفسهم وعلى ألوهيته.. ثمّ ينسون جميعا هذا المشهد كخبرة تحفظها الذاكرة، لكن يظلّ في داخلهم كشعور فطري، وسؤال يبدأ مع كلّ طفل صغير يسأل أبويه: من أين جئتُ، وأين كنتُ قبل أن أجيء، وأين يذهب من يموت؟
أخيرا، في ضوء كلّ ما ناقشناه عن عدد البشر المختلفين المحتملين، يجدر بي أن أسألك:
هل تتعجّب من عدم تطابق بصمات الأصابع لأي اثنين عبر كلّ البشرية منذ نشأت؟.. في الحقيقة لا يقتصر الأمر على بصمات الأصابع فقط، فهو يشمل كذلك بصمة قزحية العين، وبصمة الأذن، وغير ذلك.
هل تستغرب أنه لم ولن يوجد بشريان متطابقان في سِماتهما الجسدية تمام التطابق؟
تذكّر أننا نأخذ نسخ البشر من بين (10 أس 5 مليار) احتمال مختلف.. حتى مع استبعاد احتمالات DNA الفاسدة التي لا تعطي بشرا أحياء أو أسوياء، فستظلّ الأرقام مذهلة.. لا تنسَ أننا نتكلّم عن 5 مليار صفر على يمين الواحد.. ما الذي سيختلف لو أنقصت عدد هذه الأصفار لتصل إلى مليون صفر؟.. بل إلى ألف صفر حتى؟.. ما زلنا نتكلّم عن أرقام خارج الحدود الفلكية نفسها!
ملحوظة:
يقول سبحانه عن بعث الإنسان في سورة القيامة:
(أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَجْمَعَ عِظَامَهُ {3} بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ {4})
والبنان هو طرف الإصبع، وهو موضع البصمة.. فالله سبحانه وتعالى يتحدى الكفار بأنه سيحييهم يوم القيامة، وسيعيدهم طبق الأصل بأدق تفاصيلهم، بما في ذلك بصماتهم.. وكما صار مفهوما لدينا الآن، فإن هذا لا يحتاج إلا إلى حفظ نسخة واحدة فقط من الحمض النووي الخاص بكل إنسان!
قد يقول قائل: لكنّ بصمات الأصابع لا تنشأ عن الثماني مليارات شفرة كاملة، لتتكلم عن كلّ هذه الأرقام!
حسنا.. في الحقيقة أنا لا أعرف عدد الشفرات المسئولة عن تكوين البصمات، لكن لو افترضنا أنه من بين 8 مليارات شفرة على شريط DNA، كان عدد الشفرات المسئولة عن تكوين بصمة الأصابع 30 شفرة فقط، لكان معنى هذا أنّ لدينا (64 أس 30) بصمة مختلفة ممكنة، أيّ حوالي 10 أس 54 بصمة مختلفة، وهو عدد هائل بما يفوق الوصف، يكفي لوجود مليار مليار مليار مليار مليار مليار إنسان ببصمات أصابع مختلفة!
حقّا: سبحان الله العظيم:
(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ {27} مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {28}) لقمان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.