أنا ودراجتي والشعر
منذ يومين تداعت إلى ذهني ذكريات
كثيرة جميلة عن عشقي لركوب الدراجات.. ففي مثل هذه الأيام منذ 26 عاما خرجت إلى
الشوارع بأول دراجة كبيرة أمتلكها.
طبعا وأنا طفل اشتري لي أبي رحمه
الله أكثر من دراجة صغيرة، لكن كنت ألعب بها على سطح المنزل لدواعي الأمان.
بعد ذلك في المرحلة الإعدادية كنت
أستأجر دراجة كل يوم خميس لمدة ساعة أو اثنتين بعد انتهاء اليوم الدراسي أنا
وصديقي أ. محمد عبد الواحد، ونستمتع بجولة في مدينتنا وما يحيط بها من أراض زراعية،
قبل أن أذهب للعب كرة القدم في الملعب.. وطبعا كنت في بداية تعلمي لركوب الدراجات
الكبيرة في تلك الفترة، وأخذت عدة سقطات ممتازة مزقت بعض ملابسي، وفي مرة صدمت
طفلا صدمة خفيفة، وبسبب الارتباك صدمت أخاه بعده على بعد ثلاثة أمتار ولا أدري كيف
نجوت من جدتهما في ذلك اليوم :D.. الحمد لله طبعا لم يصابا بأذى..
ظل محمد عبد الواحد يذكرني بهذا اليوم بعدها لسنوات :D.
وبمثل هذه التدريبات (الرائعة) طوال
ثلاث سنوات، صرت محترفا في ركوب الدراجات، وأستطيع أن أحافظ على توازني حتى بدون
أن أمسك مقود الدراجة بأي من يديّ.. وهذا شجعني على أن أطلب من أبي رحمه الله شراء
دراجة لي، وقد وعدني إن حصلت على مجموع كبير في الشهادة الإعدادية فسيشتريها لي،
وهو أمر بسيط فقد كان ترتيبي الأول على المدرسة بالفعل كل شهر وفي نصف عام وفي
نهاية العام طوال المرحلة الإعدادية بفضل الله، لكن يبدو أنني تحمست جدا بسبب عشقي
للدراجات، وحصلت في ذلك العام على المركز الثاني على مستوى محافظة دمياط، وصار أبي
ملزما بشراء هذه الدراجة لي، مع ملاحظة أن ثمنها كان يقترب من نصف راتبه الحكومي
حينها!
وقد بر أبي بوعده رغم هذا، لكن بعد
عدة شهور، حينما سنحت الفرصة واشتراها بالتقسيط من معرض للسلع أقامته التربية
والتعليم، وفوجئت به يناديني لأحملها في الفصل الدراسي الأول من الصف الأول
الثانوي (في نهاية عام 1992)، حيث وضعتها في صالون الشقة، مع قاعدة صارمة بعدم
نزولها الشارع إلا في إجازة نصف العام!
ربما كانت هذه أكثر هدية مبهجة
أهداها لي أبي في حياته، ولم يتفوق عليها بعد ذلك إلا شراؤه أول حاسوب لي بعد ذلك
بسنوات، وثمنه حينها كان أكبر من ضعف راتبه.. لكن أبي رحمه الله لم يعتد أن يحرمنا
من شيء، وقد سافر مرتين في حياته لينفق علينا ويعلمنا، المرة الثانية كانت وهو في
الأربعينات وأنا في الصف الثاني الثانوي، وكانت سنوات صعبة عليه في الغربة بسبب
سنه ومرض السكري المصاب به، وصعبة علينا بسبب افتقاد دوره الأبوي في سن المراهقة
في عصر لم يكن فيه انترنت ومحادثات فديو ووسائل تواصل اجتماعي تقرّب البعيد، ما
عدا بعض مكالمات الهاتف الدولية كل حين وآخر، أو بعض الخطابات وأشرطة التسجيل.
للأسف: الاختيارات أمام الأب في مصر
قاسية، خاصة حينما يكون موظفا حكوميا ليس له مصدر دخل آخر غير الراتب الحكومي..
فإما أن يحرم أبناءه من بعض ما يريدونه، وإما أن يحرمهم منه هو نفسه ليسافر ويحقق
متطلباتهم!.. ووجهة نظري التي ترسخت بعد هذه التجربة، أن تدريب الأبناء على العمل
في الإجازة الصيفية للمساهمة في أعباء الأسرة - أو على الأقل لشراء بعض ما
يحتاجونه - أفضل لشخصيتهم، مع الإقرار بصعوبة إيجاد بيئة عمل محترمة في مصر لا
تفسد فيها أخلاق الطفل أو المراهق، وهو ما قرر أبي ألا يعرضنا له.. كلها اختيارات
صعبة، وكل منها له ثمن يجب أن يدفع!
نعود إلى دراجتي الجديدة التي حصلت
عليها، والتي ظلت حبيسة في الصالون بغلافها لشهرين، ولكم أن تتخيلوا كيف كنت أجلس
بجانبها كل يوم وأستنشق عبيرها المطاطي في انتظار اليوم الموعود لقص الشريط،
وتدشين نورماندي تو :D
حتى أخيرا جاء هذا اليوم، وأخذت
إجازة نصف العام، وألقيت كتب المدرسة في سلة المهملات وهرعت لإخراج دراجتي إلى
الشوارع لأول مرة في يناير 1993، وذهبت لتربيط صواميلها جيدا عند المعلم طاهر عبد
الواحد صديقي الزجّال المبدع وأمهر عجلاتي في الروضة.
كل هذا تذكرته بسبب أغنية يا عمرنا
لعمرو دياب، فقد صدر هذا الشريط الغنائي في تلك الفترة، وله طعم هذه الذكريات..
خاصة يوم أن ذهبت أنا وصديق العمر د. أيمن سامي البوهي بدراجتينا إلى مدينة
الرحامنة المجاورة لزيارة صديقنا د. تامر العباسي (الذي غير اسمه بعدها ليصير عمر
العباسي).. كانت هذه من أوائل رحلاتي بهذه الدراجة ولها بهجة خاصة بطعم ذكريات الصداقة
الجميلة.
ومن حينها إلى اليوم وأنا لا أتوقف
عن ركوب دراجتي، خاصة أنني أكره ركوب الدرجات النارية لأنها غير آمنة، كما أنني لا
أحب قيادة السيارات وليس لدي أي نية ولا رغبة في امتلاك واحدة.
طبعا الآن أركب الدراجة الثالثة بعد
سرقة دراجتين سابقتين :(.
الدراجة الثانية اشتراها أخي محسن
لنفسه واستوليت أنا عليها بعد أن سافر وركنت الدراجة الأولى في مخزن البيت، حتى
جاء أبي يستأذنني أن يعطيها لأحد أقاربه فوافقت لأنه من اشتراها لي في الأساس
وخاصة أني لم أكن أستخدمها، وللأسف سُرقت هذه الدراجة ممن أعطاها له بعد فترة وجيزة،
وسُرقت دراجة أخي محسن بعدها بعدة أشهر!
والدراجة الثالثة اشتريتها بأجري في
كتابة دليل استخدام حفص لشركة RDI بعد سرقة الدراجة الثانية، والحمد لله ما زالت حية ترزق، لكن طبعا
غيرت كثيرا من أجزائها مرة أو أكثر مع السنين.. الدراجة في النهاية هي الهيكل
المعدني، وكل ما عداه يتم تغييره مع الاستهلاك والتلف، لهذا تظل الدراجة ما دام
الهيكل نفسه سليما، وما لم يسرقها لص أثيم!
الطريف أنني في الجمعة قبل الماضية
قررت أن أعمل كعجلاتي، واشتريت كرسيا جديدا وقلبا للترس الأمامي (محور دوران
البدالين) وركبتهما بنفسي، وهي عملية استغرقت مني عدة ساعات بسبب عدم الخبرة ونقص
الأدوات.. فمثلا: صواميل الكرسي كانت كلها مقاس 13، ولم يكن لدي مفتاح بهذا
المقاس، لكني استفدت من فديو مر علي على الفيسبوك سابقا، تعلمت منه استخدام أي
قطعة معدنية (كجنيه فضي مثلا) لوضعها بين المفتاح الأكبر والصامولة الأصغر حتى
يمكن فكها.. وقد استمتعت بتطبيق هذه الفكرة عمليا ونجحت في فك الصواميل رقم 13
بمفتاح رقم 15 بتخشينه بقطعة معدنية!.. هذا قبل أن أذهب لشراء مفتاح 13 لمواصلة
العمل كعجلاتي مستقبلا :D.
أما فك قلب الترس القديم فقد عذبني
في البداية، لأنني لم أجد أي أداة مناسبة لذلك، واضطررت إلى البحث على يوتيوب عن
طريقة الفك، فوجدت قناة مصرية يشرح فيها صاحبها فديوهات لإصلاح الدراجة في المنزل،
فشاهدت الحلقة الخاصة بتركيب محور الترس الأمامي، واتضح أنه يحتاج مفتاحا مقاسه
كبير لم أره في حياتي (تقريبا مفتاح 42)، لكن بديله الممكن هو المفتاح الانجليزي،
وهو موجود عندي، فاستخدمته، وتمت العملية بنجاح بحمد الله :)
أنا أستمتع بالأعمال اليدوية فعلا،
ولولا عشقي للحاسوب لكنت مهندس ميكانيكا وليس اتصالات!
ما علينا.. نترك إصلاح الدراجات
ونعود إلى عشقي لركوبها:
يمكن القول إنني صرت شاعرا بسبب
ركوب الدراجة، فقد جُبت معظم محافظة دمياط بدراجتي، بمفردي أو مع صديق أو آخر..
فذهبت إلى القرى المحيطة لزيارة الأصدقاء، وذهبت إلى ترعة السلام وبحيرة المنزلة، وذهبت
إلى فارسكور وكفر سعد ودمياط، بل ذهبت حتى إلى رأس البر على بعد 25 كم.. أي حوالي
50 كم ذهابا وعودة.. ومعظم هذه الطرق تخترق الأراضي الزراعية (التي للأسف تتقلص رقعتها
كل عام باستمرار!)، وهو جو مبهج يثير الشاعرية.
وقد كنت معتادا كل يوم خميس في شهور
الدراسة على ركوب الدراجة بعد المدرسة، قبل أن أذهب للعب الكرة.. وقد ظلت هذه
العادة مقدسة معي طوال المرحلتين الإعدادية والثانوية، وانتهت إجباريا بذهابي إلى
الجامعة في القاهرة.. وفي الصف الثالث الثانوي كنت أخرج بدراجتي يوم الخميس وآخذ
معي كراسة وقلما وأكتب الشعر بين الحقول، أو على ضفة الترعة.
طبعا السير على هذه الطرق الإسفلتية
بدراجة كان مخاطرة لم أعد أرتكبها الآن.. المخاطرة اليوم أكبر طبعا لأن الطرق ما
زالت كما هي لم تتسع للعدد الذي تضاعف من السيارات وما أضيف إليه من دراجات نارية
وتكاتك انتشرت كالجراد!.. الطريق الوحيد الهادئ الذي ما زلت أسير عليه حتى الآن بصحبة
الصديق أ. مصطفى الهواري هو الواصل بين مدينة الروضة وبحيرة المنزلة، لكن باقي طرق
المحافظة خطيرة جدا، ولم أعد أجرؤ على ارتيادها بالدراجة!.. بل إن السير بالدراجة
حتى داخل المدينة اليوم صار خطرا، بسبب التكاتك والدراجات النارية التي يركبها
شباب طائش!.. والله خير حافظا.
الحقيقة أنني أقدّر اليوم القلق
الذي كان يصيب أبي وأمي كلما خرجت من المنزل بالدراجة على هذه الطرق، ولو أنني كنت
مكانهما لم أكن سأسمح أصلا بهذا الأمر!.. إنه أحد الاختيارات الصعبة في التربية:
هل تحمي ابنك على حساب استمتاعه بالحياة وتجاربها، أم تتركه يخاطر ويتعلم وهو
ونصيبه؟!.. المؤكد أن الحياة كلها مخاطرة، لكن من العقل أن تكون المخاطر محسوبة
وفي أقل الاحتمالات.. لعلي لهذا كنت مزعجا جدا لمحمد ابن أخي محسن في الصيف الماضي
حينما اصطحبته بجولة بدراجته بين الحقول، فقد تجنبت تماما كل طرق السيارات، وسرنا
في طرق زراعية ترابية، إلى أن يتعلم الركوب جيدا.. وقد أزعجته بالأوامر والنواهي
طوال الرحلة، لأني كنت قلقا جدا عليه.. المسئولية صعبة!
وأذكر أنني في مرة ذهبت بالدراجة
عصرا إلى صديقي عبد الله بدر في مدينة الرحامنة، وتركتها في بيته وركبنا سيارة إلى
قرية إسكندرية الجديدة لمقابلة د. طاهر بطة، فتأخرنا هناك بعد العشاء، ولم نجد
مواصلات للعودة، وظللنا ننتظر سيارة، إلى أن فوجئت بأبي قادما بسيارة أجرة للبحث
عنا.. طبعا لم يكن هناك هاتف محمول في تلك الفترة ومعظم المنازل لم يكن فيها هواتف
أرضية أيضا، وبالتالي لم يكن يستطيع الاتصال بي، ولم يكن يعلم أنني تركت الدراجة
وذهبت بالمواصلات، لهذا خشي هو وأمي أن يكون أصابني مكروه وجاء يبحث عني!
تربية الأبناء قلق لا ينتهي، مهما
كان عمرهم.. أعان الله كل أب وأم.. ورحم الله أبي وجزاه وأمي عنا كل خير.. ما زالت
أمي تدعو لنا في كل صلاة، وتظل تدعو لي كلما خرجت من البيت حتى أعود.. فلعل ما
ينجينا من المهالك دعوة أم.. حفظها الله وبارك في عمرها.
ما زلت أعشق ركوب الدراجة حتى اليوم..
لكن ليس للمتعة فقط، فهي مهمة جدا لي في هذه السن، لأنها نوع من الرياضة والحركة
التي أقاوم بها زيادة وزني، خاصة مع قلة الحركة بسبب العمل خلف الحاسوب منذ سنوات..
كما أنني أركب الدراجة حينما أكون متضايقا أو أحتاج لتصفية ذهني والتفكير في أمر
ما.. يمكن القول إن بيني وبين دراجتي صداقة عمر وشعر ومغامرات.. فاللهم ارزقني
خيرها وجنبي شرها واحفظني من كل مكروه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.