المبرمجان
(قصة)
تسارعتْ أصابعُهما على لوحةِ الأزرارِ في سباقٍ محموم، بينما يَختلسُ أحدُهما بينَ فَيْنةٍ وأخرى، نظرةً عاجلةً لشاشةِ الآخرِ ووجهِه، قبلَ أن يعودَ إلى الانهماكِ فيما هو فيه.
كانَ الإصرارُ يبدو على ملامحِه.. وكانَ العنادُ هو عينَ ملامحِها.
***
له نصفُ عامٍ ولا همَّ له سوى إثارةِ حنقِها!
لا تدري لماذا قَبِلتْ تعيينَه في القسمِ الذي ترأسُه في شركةِ البرمجة، مع أنَّ هاتفًا مُحذّرًا حادثَها أنَّ شخصًا بمثلِ تلكَ النظرةِ المتوقّدةِ، خطرٌ داهمٌ من نوعٍ ما.
إنّه يتفجّرُ بالحيويّة، ويمنحُه ذكاؤه ثقةً تَزيدُه لباقةً وإقناعا.
وهو عنيدٌ: لا يَسْلِسُ قِيادُه، إلا إذا وافقَ كلُّ أمرٍ هوى منطقِه!
مشكلةٌ هو!.. لا.. بل تلٌّ كاملٌ من المشاكلِ انهارَ على رأسِها من حيثُ لا تحتسب!
أخذُ يُناقشُها في كلِّ كبيرةٍ وصغيرة، ويتدخّلُ في صميمِ عملِها، ويتطوّعُ دونَ دعوةٍ منها ليُزجيَ لها النصحَ والمشورة.
ضاقتْ به ذَرْعًا.. اختنقت!
وأكثرُ ما أثارَ حفيظتَها، هو أنّه لم يُجافِ الصوابَ في أيٍّ مما قال.
آراؤه ثاقبةً، لا تملِكُ معها سوى أن تعملَ بها.. مُكرَهةً!
وبهذا، أنجزتْ إدارتُها في وجودِه، كثيرًا من العملِ قبلَ جداولِه المحدّدة!
لهذا كانَ من الطبيعيِّ أن تعلوَ أسهمُه لدى مديرِ الشركةِ، فتزدادَ صلاحيّاتُه، ويقتربَ خطرُه الداهمُ من موقِعها حثيثا!
***
لم تأتِ مكانتُها في هذه الشركةِ من فراغ.
لقد بدأتْ معها من الصفر: مُذْ كانَ عددُ موظفيها لا يتجاوزُ الأشخاصَ الأربعة.. مجرّدَ مكتبٍ صغيرٍ يحبو، يحاولُ أن يَشرئبَّ بعُنقِه وسْطَ عماليقِ السوق!
كانت تعملُ بحماسٍ لا مثيلَ له، فلا تغادرُ العملَ إلا منهكةً، لا لتُريحَ جسدَها المكدودَ ـ حاشاها، ولكن لكي تُكملَ عملَها على حاسبِها الشخصيّ، فلا تكادُ تحصلُ على نَزْرٍ من الراحة!
***
تألّقتْ ما في ذلكَ شكّ.
لقّبَها زملاؤها ومديرُها بالأسطورة.. ليسَ فقط لجمالِها الأخّاذ، ولا لأنّها تعملُ بطاقةٍ تفوقُ الاحتمالَ البشريّ، ولكنْ أيضًا لأنّها حادّةُ الذكاء، تستعملُ خيالَها مع ما جُبلَِتْ عليه من حبٍّ للاطّلاعِ العلميِّ المنظّم، لابتكارِ حلولٍ برمجيّةٍ متفرّدة.
وصعدَتِ الشركةُ بسرعةِ الصاروخ.. وصعدتْ هي بسرعةِ البرق.
في أربعةِ أعوامٍ فحسب، تضخم رأسُ مالِ الشركةِ، وصارَ يعملُ لديها أكثرُ من عشرينَ مبرمجًا محترفًا، وصارتْ هي رئيسةً لقسمٍ بأكملِه من قسميِ الشركة، ولم تتجاوزِ السادسةَ والعشرينَ من عمرِها!
كانَ كلُّ شيءٍ على ما يُرامُ وأفضلَ ممّا يرام!
حتّى ظهرَ هو!
***
بدا لها كأنّه يكسِفُ شمسَها.
حتّى لقد بدأَ يُقاسمُها أسطورتَها: لقّبوه بنفسِ لقبِها ـ ويحَهم!
انبهارُهم بها فَتَر، وتألّقتْ له عيونُهم به.
انفرادُها بالقرارِ تراجع، وأخذَ يُزاحمُها فيه.
سانده مديرُ الشركةِ، ووجدَ سبيلَه إلى اجتماعاتِِِِ مجلسِ الإدارة.
كانَ يلتهمُ مكانتَها بسرعةٍ مخيفة!
***
وآهِ ما أكثرَ ما أحنقَها غرورُه!
إنّه واثقٌ هادئٌ مبتسمٌ، لا يَروعُه شيءٌ كأنّما يملِكُ لكلِّ شيءٍ حلا!
وسيمٌ متأنّقٌ كأنّه يظنُّ أنّه مقطّعٌ قلوبَ العذاري!
وهو من بينِِِِِ كلِّ من عَرَفوها، الوحيدُ الذي لم يمدحْ ذكاءَها بكلمة.
حتّى حينما تسبقُه إلى فكرةٍ فتعرضُها عليه لتُثبتَ له تميّزَها، تجدُه يكتفي بكلمةٍ وحيدةٍ تُحنقُها، ينطقُها من طرَفِ أنفِه: "جيد"!
من يظنُّ نفسَه؟.. هل يظنُّ أنّه أذكى منها؟
لماذا لم يَقُلْ كلمةً واحدةً يمتدحُها بها؟
أيراها أقلَّ من فتياتِ الشركةِ، يُضاحكُهنُّ ويمتدحُهنَّ بما فيهنَّ وبما ليسَ فيهنّ؟
لا.. بل مدحها مرّة:
كانت تصطنعُ العبوسَ وهي تطلبُ منه أحدَ الملفّاتِ إذ فوجئتْ به يقول:
- لو كانتْ أساريرُكِ في سماحةِ نفسِكِ لازددْتِ جمالا على جمال.
باغتَها ذلك، حتّى لكأنّما هربَتِ الدماءُ من عروقِِها، قبلَ أن تسألَه في تَحِدٍّ اصطنعتْه ليُواريَ ارتباكَها:
- أطّلعتَ على دخيلةِ نفسي؟
- بل يبدو العبوسُ متصنّعًا على وجهِك.
- وما يُدريك؟
- ليسَ هذا العبوسُ ممّا يُناسبُ هذا الجمال.
تسربتْ بسمةٌ لملامحِها، لمحَها قبلَ أن تنجحَ في كظمِها، فابتسم.
أحنقَها ذلك، فعقدتْ حاجبيها متسائلةً:
- مدحٌ هذا أم ذمّ؟
- مدحُ ذمٍّ أو ذمُّ مدح!
- تخبرُني أنّكَ مشوّشُ الرؤية؟
- أخبرُكِ أنّكِ متناقضةُ الذات.
- بل أنا أُظهرُ عينَ ما أُبطن.
- تُظهرينَ كُرهي!
- [باندفاع محتدّ] إذن فقد علِمتَ ما بداخلي!
رفعتْ طرْفَها لترى وقعَ عبارتِها عليه.
كانَ شيءٌ من العتابِ يبدو عليه، مع شيءٍ من الإشفاقِ لم تَدْرِ له سببًا!
توقّعتْ أن يُجادلَها.. أن يسألَها لِمَ تكرهُه.. أن يتحدّاها بقولٍ من أقوالِه التي تُحنقُها..
ولكنّه اكتفى بالصمت، وهو يمدُّ لها يدَه بوسيط التخزين الذي يحوي الملف، معلنًا أنَّ الحوارَ قد انتهى.
ساءها ذلك، فتركتْ يدَه ممدودةً، وسألته مُقطّبةً جبينَها:
- تطردُني؟
- لا.
- بدا لي هذا.
- هذا لأنّكِ تكرهينني!
- [هربت منه ببصرِها]: لم أقلْ ذلك.
- قلتِه.
- لم أكنْ أعنيه.
- إذن فأنتِ لا تكرهينني؟
تردّدت، فعاد يسألُها:
- تكرهينني أم لا؟
كانَ يحاصرُها بنظراتِه الثاقبة، فيَزيدُها ارتباكًا على ارتباك.
وحتّى تتخلّصَ من ارتباكِها، انتزعَتِ وسيط التخزين من يدِه بحدّة، واستدارتْ على عقبيها مغادرةً الحجرةَ بخطواتٍ ملتاثة، وبدونِ كلمةٍ واحدة!
***
لَشدَّ ما أحنقَها بعد أن خلتْ إلى نفسِها أنّها بدت متردّدةً متخاذلةً أمامَه.