المتابعون للمدونة

الأحد، 23 يناير 2011

العلم نور.. والتعليم نار!!!

تونس.. دروس وعبر
(3)
العلم نور.. والتعليم نار!!!

من أوضح المفارقات في ثورة تونس، هي أنها جاءت في بلد نسبة المتعلمين فيه تتجاوز 94%.. وبينما يحاول العلمانيون إظهار هذه النقطة كمفخرة لنظام الطاغية السابق، إلا أنه على العكس، أحد أبرز مظاهر الجهل والغباء وسوء التخطيط السائدة في الوطن العربي كله!
فهذه النسب المرتفعة من المتعلمين خاصة الجامعيين، لا توازيها نسب مرتفعة في النمو الاقتصادي، ولا يصاحبها تخطيط منهجي لنظام التعليم ليلبي احتياجات السوق، وهذا كله هو السبب الرئيسي في الارتفاع المتسارع في نسبة البطالة في كل بلادنا العربية، خاصة مع الإصرار المريض على زج النساء في كل الوظائف القليلة المتاحة، مما ضاعف من بطالة الشباب وعنوسة النساء، وأوجد الوضع المثالي للإحباط واليأس من الحياة الذي يدفع إلى الانتحار أو الثورة!
وربما بدوت مجنونا حينما كنت أجادل في السنوات السابقة مطالبا بتغيير رؤية الدولة لنظام التعليم، ولكني آمل أن يعيد الجميع حساباتهم في ضوء ما حدث، فيسأل كل أب نفسه:
-  هل أريد أن أكرس كل جهدي ومالي وهمي لتعليم ابني، ليصير عاطلا ويشعل النار في جسده مثل محمد بوعزيزي وغيره ممن سبقوه أو تبعوه في كل مكان في بلادنا؟.. هل يعقل أن يكون حصاد كل هذا الجهد والمال وسنوات العمر المهدرة، بطالة وانتحار وخسران الدنيا والآخرة؟.. هل تستحق شهادة الجامعة كل هذه الخسائر؟
كما أن على كل حكومة عربية أن تسأل نفسها:
-  هل يعقل أن نقتطع من أقوات الناس وميزانيات الصحة والطرق والمواصلات وكل مرافق الدولة، لننفق المليارات على تعليم بلا عائد، يخرج لنا الشباب العاطل الذي يطيح بنا؟
فإن بدا هذان السؤالان عاطفيين بأكثر من كونهما عقلانيين، فلا بأس إذن من أن نؤصل المشكلة تاريخا:
فقد نشأ نظام التعليم المؤسسي في الغرب بعد ثورة البخار، لتخريج عمال وفنيين ومهندسين وإداريين مهرة، لتشغيل المصانع والمنظومة الاقتصادية المبنية عليها.. وهذا معناه أن المصنع والمؤسسات التابعة له، هي ما يحدد عدد المتعلمين المطلوبين في المدارس.. ولو أن هذه القاعدة البسيطة والواضحة قد طبقت في أي مكان في العالم، لما كان ظهر مصلح البطالة قَط، ولما صار شباب صحيحو البدن في أوج عافيتهم وتوهجهم الذهني وحماسهم للعمل، وفوق كل هذا مؤهَّلون علميا ومتخصصون وظيفيا ـ عاطلين عن العمل بالملايين في كل مكان في العالم!
لكن لسبب ما (يدخل فيه بصورة كبيرة الصراع بين الشيوعية والرأسمالية)، تحول التعليم من احتياج اقتصادي يتحكم فيه المصنع وآليات السوق، إلى حق اجتماعي مكتسب لكل طفل في العالم، فصار بهذا غاية بدلا من أن يكون وسيلة.. وهذا عبء غير مبرر على اقتصاد العالم، وأحد أسباب خرابه المحتوم، بسبب تصاعد نسب البطالة في كل مكان.. إن هناك علاقة تغذية مرتدة بين التعليم والبطالة:
فكلما تعلم أطفال أكثر، استنزف هذا نقود الدولة أكثر، مما يقلل من مشاريع التنمية المنتظر منها إقامتها لتوسيع الاقتصاد، وبالتالي تزيد البطالة، مما يعني أن شبابا أكثر لن يتزوج، وقدرته على الإنفاق ستقل، مما يحد من نمو الاقتصاد ومن قدرة المصانع على التوسع، كما يثقل الدولة بمعونات بطالة أكثر، فيؤدي كل هذا إلى بطالة أكثر... وهكذا في حلقات متداخلة من التأثير السلبي المتراكم.
ومما يجعل هذه التغذية المرتدة السلبية أكثر شراسة، طول مسار التعليم، واعتماد نظم التعليم على تلقين المتعلمين ثقافة عامة أكثر من المواد التخصصية، انتظارا إلى وصول الطفل إلى السن المناسبة ليستطيع اختيار التخصص.. وهذا الوضع جعل أنظمة التعليم في العالم تهدر أموالا طائلة في تعليم كل الناس كل شيء، وهذا يؤدي إلى ما يلي:


-  عبء مالي على الدولة لا مبرر له لتوفير كتب ومدرسين ووسائل تعليمية ومعامل ولجان امتحان لمئات المناهج لكل المتعلمين، مع أن المؤكد أنه لا يمكن أن يجيد كل الناس كل هذه المناهج، ولا أن يستفيد كل الناس بكل هذه المناهج.
-  عبء نفسي على المتعلم الذي يجد نفسه مجبرا على تلقي معلومات كثيرة لا يريدها ولا يدرك فائدتها، ولا يمكن أن يحبها كلها.
-  تضييع وقت الجميع في مسار طويل، معظم المعلومات التي يدرسونها فيه تتحول في النهاية إلى ثقافة عامة لا تفيد في التخصص، مع أن هناك وسائل تثقيف عامة أكثر انتشارا وأرخص تكلفة وأكثر متعة مثل التلفاز والفضائيات والإنترنت والمكتبات العامة.
باختصار: هذا وضع عبثي غير اقتصادي، لأن النظرة الاقتصادية للتعليم تقتضي على الأقل أن تستعيد الدولة النقود التي أنفقتها على المتعلمين (إن لم تكن ستجني ربحا)، وذلك حتى تستمر دورة الاقتصاد والتعليم دائرة.. لكن ما يحدث في الواقع هو أن النقود التي تنفقها كل دولة على عملية التأهيل الطويلة لكل الناس من أجل الحصول على بعض المتخصصين، تضيع بلا عائد، وبهذا يكون التعليم عملية مهدرة غير اقتصادية تهبط باقتصاد كل دول العالم على المدى الطويل.
ولكي تفهموا ما أقوله، تخيلوا معي المفارقة حينما تتعاملون مع سائق تاكسي حاصل على الإعدادية فقط، أهدرت الدولة نقودها عليه لتعليمه الهندسة وتحليل الكسور!!.. فلا هي أفادته في عمله، ولا هي أثرت في رؤيته للحياة، أو تعامله مع المجتمع، ولا هو تذكر شيئا منها أصلا!
وكلنا درسنا الهندسة الفراغية في المرحلة الثانوية.. فهل يذكر أحدكم شيئا منها؟.. ماذا استفاد بها الأطباء ومدرسو اللغة العربية؟.. بل حتى ماذا استفدت بها أنا كمهندس؟.. أفادتني في مادة الهندسة الوصفية التي فرضت عليّ في إعدادي هندسة؟.. وماذا استفدت بالوصفية بعد أن دخلت قسم الاتصالات؟!!!.. أنا لا أذكر من الهندسة الفراغية والوصفية الآن إلا اسميهما!!
السؤال هو: بأي شرع، وأي علم، وأي مبدأ اقتصادي، وأي منطق، وأي عقل، تم تصميم هذه المسارات التعليمية، لتعليم ملايين الناس أشياء لا يستفيد بها إلا بضع مئات في النهاية، إن استفادوا بها أصلا؟
هل تفهمون الآن لماذا أعرّف نظام التعليم بأنه: "نقود تُنسى"!
هنا يبرز سؤال منطقي آخر: لماذا نضاعف هذا الإهدار بزج المرأة في هذه المنظومة، ونحن نعرف أن أكثر من ثلاثة أرباع النساء لن تعمل شيئا بما تعلمته أصلا لأنها ستتزوج وتصير ربة منزل، وإن عملت تواجهنا مشاكلها النفسية في فترة الحيض، ومشاكلها الجسدية في فترة الحمل، ومشاكل إجازاتها عند الوضع وأثناء الرضاعة، ومشاكلها الأخلاقية بسبب الانجذاب الفطري بين الرجل والمرأة وتأثيره على كفاءة العمل، ومشاكل ضعف تركيزها الدائم بسبب تشتتها بين التزامها كربة بيت وموظفة، واستعجالها الانصراف لإدارة حياتها الأخرى؟.. فإن تجاهلنا كل هذا، بقيت لدينا المشكلة القاتلة: لقد أخذت وظيفة رجل فعطلته عن العمل والزواج بفتاة، فخلقت بذلك كارثتين على المجتمع وأخلاقه واستقراره!
فأين هو الاقتصاد في أي من هذا؟
والكارثة الأكبر، هي أن ميثاق حقوق الإنسان يعتبر التعليم حقا أساسيا من حقوق الإنسان، وهي فكرة صار متفقا عليها في العالم بالإجماع حكوميا وشعبيا، وبهذا صارت كل دول العالم تهدر ميزانياتها وأعمار أجيالها الجديدة في نظم تعليم مدمرة مهما كانت كفاءتها كما أوضحت سابقا.. وقد كانت هذه الفكرة هي السبب في دمار مصر بعد أن أعلن طه حسين أن التعليم حق لكل إنسان كالماء والهواء، وطبق مجانية التعليم ما قبل الجامعي حينما تولى وزارة المعارف في مطلع الخمسينات قبيل قيام ثورة يوليو مباشرة.. وبعدها طبق عبد الناصر مجانية التعليم الجامعي في الستينات، وقد رأينا إلام أوصلنا هذا الآن.
لكن هذا ليس وقفا على دولنا المتخلفة فحسب، وليس فيه السبب قلة ميزانيات التعليم عندنا أو تدني كفاءته فحسب.. فالولايات المتحدة ـ مثلا ـ تنفق مبالغ طائلة على التعليم، لكن الحقيقة المفزعة أن حكومة أمريكا مدينة بـ 13 ترليون دولار فقط لا غير، وهذا معناه أنها تستدين لتنفق على التعليم (ضمن أشياء أخرى)، رغم أنها أكثر دول العالم تقدما ورفاهية وقوة عسكرية!
وفي النهاية نكتشف أن لديها 15 مليون عاطل عن العمل، وهم يشكلون دولة بحجم السعودية تقريبا، ويساوون عدد كل من نعلمهم في التعليم الأساسي في مصر!!
وفي روسيا التي تنهار سكانيا بسبب تناقص عدد المواليد، ومساحتها تتجاوز 17 مليون كم2 زاخرة بثروات هائلة من غابات وأراض زراعية ومناجم وبترول وغيرها، يوجد 5 مليون عاطل متوسط أعمارهم 33 عاما!!
وفي ألمانيا التي تقود اقتصاد أوروبا يوجد أكثر من 4 مليون عاطل، وهي بدورها تنهار سكانيا ومهددة بالانقراض!!
أفلا يدفع هذا العقلاء إلى التفكير جديا في هذا السؤال:
-       هل تعليم كل الناس هو أمر عملي أو علمي أو حتى ضروري؟
في الحقيقة أنا أطالب بتعديل ميثاق حقوق الإنسان، لجعل المعرفة حقا من حقوق كل إنسان، وليس التعليم.. فالتعليم المؤسسي كما أوضحت سابقا هو جزء من منظومة اقتصادية، وليس لأحد فيه حقوق، بل يجب أن يخضع للعرض والطلب وآليات السوق.. أما المعرفة فهي حق للجميع، وعلى الدولة توفير وسائل بثها وإيصالها إلى مواطنيها بأرخص السبل.. وعلى هذا يجب أن تحوّل كل الدول سياستها إلى محو الأمية بأرخص وأسرع السبل واعتماد التعليم المنزلي لتثوير التعليم، ولأنه سيدخل إلى العملية التعليمية، كل الأجهزة الرقمية التي أهدر فيها الناس مليارات الدولارات، وبهذا يصير التلفاز والفضائيات والمحمول والحاسوب والإنترنت جزءا من منظومة التعليم والتثقيف والمعرفة دون أن تدفع فيها الدولة قرشا واحدا.. وفي المقابل يجب أن يتم إفراغ التعليم المؤسسي المتخصص من كل هذه القطعان الهائلة المساقة بلا هدف، وقصره على المبدعين والعباقرة، ليعود التوازن المفقود، وتستقر هذه المجتمعات التي تحرقها نيران التعليم، بينما يظنها ضعاف البصر أنوار العلم!!
أما إن استمر هذا العبث، فلن تكون ثورة تونس آخر ثورة للعاطلين في الشرق والغرب.
وصدق الله سبحانه:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ {37}) ق.

محمد حمدي غانم
22/1/2011

---------------------
اقرأ أيضا:
- موجة حضارية جديدة، وامرأة جديدة أيضا (وهو يطرح منظومة بديلة للتعليم)


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر