المتابعون للمدونة

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2015

عمو 2


عمـــو
(2) 

أيقظه من ذكرياته صرير عجلات القطار وهو يتوقف في إحدى المحطات.

سبع سنوات مرت على ذلك اللقاء، و(هالة) الآن في الحادية والعشرين من عمرها.. لا ريب أنها في ذروة جمالها وتألق أنوثتها الآن.

ولكن هل حافظت على تألق شخصيتها وصقلت ذكاءها؟

تنهد وهو يرمق لافتة المحطة.. نفس المحطة التي صعدت إلى القطار منها منذ سبع سنوات.

سبع سنوات وهو يمر عليها يوميا في رحلته من وإلى كليته، ثم من وإلى عمله.. دون أن يلمحها ولو مرة واحدة!

لماذا لم يعرف اسمها بالكامل، أو يأخذ رقم هاتفها أو بريدها الالكتروني؟

لماذا لم يعرف أين تسكن؟

لماذا استغرقته لذة الحوار معها حتّى فوجئ بها تودعه في إحدى المحطات وتختفي للأبد؟!

كانت هذه الأسئلة تراوده كلما عاودته ذكراها.. والحقيقة أنها كانت تعاوده كثيرا، كلما نفر عقله من الإقتناع بأي فتاة يقابلها في الحياة.. لكنه كان يقول لنفسه دائما إنها كانت مجرد فتاة تعبر الخط الفاصل بين الطفولة والمراهقة، ولم يكن يومها ليفكر فيها بأكثر من هذا.

تنهد محبطا وتمتم لنفسه:

-  فلماذا إذن لم أصادفها بعدها ولو مرة واحدة في القطار أو ألمحها على رصيف المحطة بعد أن تكون نضجت ثلاثة أعوام أو أربعة واتضحت معالم أنوثتها وخطوط فكرها؟!

تنهد مرة أخرى في حسرة.

لعلها استخدمت القطار يومها كتجربة ولم يَصِر ركوبها له عادة.

أو لعلها سافرت مع أسرتها إلى الخارج.

أو لعلها.. ماتت!

آلمه هذا الخاطر، فسارع ينفضه عن ذهنه.. الحياة قاسية حقا، لكن لا يظنها تصل في قسوتها إلى هذه الدرجة!

أستغفر الله العظيم.. ما الموت إلا قدر، وهو لا يفرق بين شخص وآخر، ولا يأبه بذكاء هذه وتفاهة تلك!

زفر وتمتم في نفسه:

-  ما الذي فعلته بي هذه الصبية بالضبط؟.. وهل كانت موجودة حقيقة، أم أني صنعتها في خيالي في أحد أحلام يقظتي؟

أيام تمر وراء أيام، وهي لا تبرح ذهنه، بملامحها البريئة وشجن عينيها.

ليالي وراء ليال وهو يحاورها في ذهنه ويناقش معها في خياله ما يعجز عن مناقشته مع أترابه وزميلاته في الدراسة والعمل، حتّى صارت نموذج فتاة أحلامه التي ظل يبحث عن شبيه لها بلا جدوى، بعد أن تبخرت هي كالسراب!

حتّى إنه واظب على ركوب نفس عربة القطار التي التقيا بها كل يوم، على أمل أن تعود إليها يوما!

وحتى بعد أن أنهى دراسته وانتفت الحاجة لركوب القطار.. ظل يستقل القطار من بلدته إلى المدينة التي يعمل بها، رغم أن ركوب سيارات الأجرة أسرع وأسهل.

لكنه ذلك الأمل المراوغ، لم يترك نفسه يوما، فظل يحلم بلقائها.

آه يا هالة.. أين أنت؟.. أين أنت؟

***

أزعجه عن خواطره رنين هاتفه المحمول، فنظر في شاشته.

كانت خطيبته (سلوى)!

شعر بانقباض وتثاقل عن الرد لحظات، ثم حسم أمره وفتح الخط ليجيب:

-  مرحبا يا سلوى.. أنا في الطريق.. نعم أستقل القطار كالعادة.. لا لن أغير هذه العادة، وكفّي قليلا عن تأنيبي.. حسن حسن.. لن أتأخر.

وأغلق الخط وهو يزفر في حدة.

سلوى فتاة طيبة وتحبه.. وهي جميلة فعلا ويحسده أصدقاؤه عليها.

لكنه ليس سعيدا معها.. لقد ارتبط بها منذ أربعة أشهر، لأنه كان يجب أن يرتبط بفتاة مناسبة، بعد أن تقدم به العمر ويئس من الانتظار.

وهي كانت الفتاة المناسبة في محيطه.. مدرّسة اللغة الإنجليزية في المدرسة الخاصة التي يعمل بها مدرسا للتاريخ منذ عامين، بعد أن حصل على دبلومة تربوية بعد تخرجه من كلية الآداب.

كانت (سلوى) مولعة به بجلاء لم يَخْفَ إلا عنه، فقد كان قلبه وعقله مع صبية مجهولة في مكان مجهول!

صبية ذكية تذكّره بكنز مخبوء بداخله، تراكم عليه تراب السنين ورتابة المناهج الدراسية السقيمة، وغباء التلاميذ الذين لا يفهمون لماذا يتعلمون أصلا ولا يريدون، وملل الدروس الخصوصية التي اضطر إلى اللجوء إليها ليوفر لسلوى ثمن حلقة من معدن تسمى إسورة ذهبية، كانت تمثل لها أمنية عزيززة لم يشأ أن يحرمها منها، رغم أنها لا تمثل له أي قيمة على الإطلاق!

وهكذا وجد نفسه في النهاية عاجزا عن إيجاد وقت حتى لقراءة التاريخ الذي يهواه ويستخرج منه وقود أفكاره وتأملاته، إلا في الساعة التي يستقل فيها القطار في ذهابه وعودته يوميا!

لم تكن سلوى تافهة.. لكنها لم تكن بنفس ثقافته، ولا تشغلها تأملاته كثيرا، خاصة أنها كانت مثله مستهلكة في المدرسة والدروس الخصوصية.. أي أن أيّ محاولة للنقاش معها في أي شيء غير توفير نفقات زفافهما كانت مجرد صداع إضافي!

فهل يلومها؟!

***

ارتجّ القطار وأطلق صافرته، آخذا في التحرك..

وتنهد (ماهر) في حرارة وتمتم:

-      لم تظهر أيضا!

كانت (سلوى) تنتظره على أحرّ من الجمر، فقد اتفقا على الخروج لانتقاء الأثاث، تمهيدا لزفافهما الوشيك.

إنها مزدانة بالمزايا، لكنها رغم كلّ شيء لا تفهمه!

لا يعني هذا أنهما دائما الشجار أو الخلاف.. على العكس: هي مطيعة ومريحة في معظم الأمور.

لكنه يظل عاجزا عن أن يبوح لها بكل أفكاره وآرائه وشحطاته وخبايا نفسه.. فمحاولاته الأولى لفعل هذا أظهرت ردود فعل محبطة منها.. إمّا السخرية أو اللا مبالاة!

لم يجرؤ حتّى أن يخبرها برأيه في كل تقاليد وتقاليع الزواج، التي وجد نفسه غارقا فيها.. مئات الأشياء التي لا يرى لها جدوى، يجب أن يشترياها ليكدساها في (عش) الزوجية الضيق، لمجرد أن الناس تفعل هذا!

أشياء كثيرة تبهجها لم يكن يفهمها، فهو لا يفهم الدنيا بحواسه المجردة، لتنحصر بهجته في زجاجة عطر أو باقة ورد أو ذكرى ميلاد!.. وهي الأشياء التي كان نسيانه لها يغضبها أو على الأقل يحزنها!

وفي كلّ مرة كان يتنهد ويغمغم لنفسه بأسى:

-      أين أنت يا هالة.. أين؟

***

-      هل يمكنني الجلوس هنا؟

انتزعه هذا الصوت الرقيق من شروده، فأجاب صاحبته دون أن يرفع عينيه إليها:

-      تفضلي.

وواصل شروده، دون أن يأبه بتلك التي جلست في المقعد المواجه له.. فالوحيدة التي ينتظرها منذ سنوات لم تأت كعادتها!

حتّى حينما سقط بصره على وجهها، كانت مجرد حركة آلية شاردة.

ولكنّ عينيها انتزعتاه من شروده، كما ينتزع الإعصار البحر من هدوئه!

وقفزت ضربات قلب ماهر لذروتها، وهو يتمتم بخفوت:

-      (هالة).. مستحيل!

ابتسمت ففاحت من عينيها فرحة معبقة بنفس الشجن القديم، وهي تسأله:

-      هل ما زلت تذكرني يا عمو؟

***

لدقائق ظلّ ينظر لها مشدوها وعيناه تلتهمانها التهاما، حتّى إن خديها احمرا في خجل!

لقد اكتملت أنوثتها لا شك في هذا..

ربما ليست أجمل من سلوى، لكنها جذابة بشكل آسر، وخمارها يمنحها هالة إضافية من الجمال حول وجهها الخمري، لينافس وضاءة عينيها الصافيتين.

تلعثمت وقالت بدهشة تحاول أن تخفي بها خجلها:

-  ملامحك لم تتغير كثيرا.. لكني أظن أن ملامحي تغيرت.. فكيف عرفتني يا عمو؟

استمر يحدق فيها وقد ألجمه ذهوله عن النطق، وقلبه يعدو في صدره كجواد برّي انطلق أخيرا من محبسه.

آلاف الكلمات كانت تتواثب في ذهنه، فيعجز عن الإمساك بأي منها ليقوله!

ولما رآها تهرب منه ببصرها في ارتباك، تنحنح أخيرا وأجابها:

-      لم تختلف ملامحك كثيرا.. فقط صرت أكثر جمالا!

ابتسمت بسعادة مشوبة بالحياء، فتابع وهو ينظر في عينيها:

-  ثم إن العينين لا تتغيران أبدا، مهما تغيرت ملامح الإنسان!.. وأنا لا يمكن أن أنسى عينين بهذا الجمال، وهذا الذكاء وهذا الشجن.

التهب خداها أكثر وأكثر، وقالت بعتاب لا يخلو من الدلال:

-      كفى أرجوك.. أنت تخجلني بكلماتك هذه يا عمو!

سألها مبتسما لينقذها من حرجها:

-      ألا تبدو لك كلمة (عمو) كبيرة عليّ؟

ابتسمت وقد فهمت مقصده، فقالت بنفس أسلوبها يوم لقائهما:

-      بماذا تريدني أن أناديك؟!

صمت لحظة وهو يلتهمها بعيبنيه، قبل أن يقول باشتياق جارف:

-      قولي لي يا عمو!

***
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر