كاتب الأمصال وكاتب الفيروسات!
(1)
من صدأ الدماغ، إلى عالم الإبداع
اثنا عشر عاما من عمري قضيتها أمام التلفاز، منها ستة كنت فيها في المرحلة الابتدائية من التعليم.
في التلفاز لم أكن أكتفي ببرامج الأطفال، بل كنت أتابع بشراهة كلّ شيء ـ عدا ما يفيد!.. إعلانات، أغاني، أفلام، مسلسلات.
وكان هذا يكفي لأن تتم برمجتي على مشاهد حبّ المراهقة وعورات العاريات والأحضان والقبلات وكلّ غث وقميء!
وتمّ تتويج ذلك بدخولي إلى المدرسة، حيث تولي زملائي الجهابذة تثقيفي غريزيا بما هو طبيعي وما دون ذلك!
ويوميا، لم يكن يشغل أطفالا في سننا، سوى قصص الحبّ والجسد، ومن تم ضبطه متلبسا يفعل ماذا....... إلخ!
وطبعا كان كلّ ذلك يجري في معزل عن البيت، فالآباء لا يتصورون أنهم يرسلون أبناءهم للمدارس ليتعلموا الصياعة!
وكنتيجة طبيعية بدأت أوّل قصة حبّ لي وأنا في الصفّ الثاني الابتدائي، مطبقا معايير الشكل بجدارة!
ولحسن حظي، ألحقني أهلي في تلك الفترة بكتّاب القرية لأحفظ القرآن الكريم، فكان طوق النجاة الذي أُلقي إليّ مبكرا في هذا المستنقع الآسن!
ودائما كان لديّ يقين لا يتزحزح بأنّ القرآن الكريم لم يحفظني فقط من فحش القول والفعل، بل إنّه أيضا أطلق قدراتي وملكاتي.. فقد بدأت أتفوق دراسيا وأعتد بنفسي كأحد الأوائل على الفصل وأحد من يحصلون على الجوائز في مسابقات القرآن الكريم.. وطبعا نمت سليقتي اللغوية، حتّى إنني أذكر أنّ مدّرسة اللغة العربية أطلعت أبي وأمي على أوّل موضوع تعبير أكتبه في حياتي، وكان عن الفلاح المصري كما أذكر، حيث خطر لي حينها أن أكتب الموضوع على لسان ذلك الفلاح بدلا من أسلوب السرد بضمير الغائب!
ولكن للأسف، كانت الفوضى التي بداخلي تمنعني عن الانتظام في حفظ القرآن، ففي الإجازات كنت أسهر أمام التلفاز مما يجعل الاستيقاظ مبكرا للذهاب إلى الكتاب مستحيلا، كما أنّ اللعب وقت العصر كان يجعل الذهاب في ذلك الموعد أشد استحالة.. لهذا لم أحفظ أكثر من 12 جزءا من القرآن الكريم على مدار أربعة أعوام.
وكان أبي يتساهل معي في ذلك، فقد كانت لديه نظرية عجيبة، تقول بأنّ الطالب يجب أن تصدأ دماغه في الإجازة الصيفية، ليدخل إلى الموسم الدراسيّ نشيطا ويحرز أفضل الدرجات.
وقد أدّت هذه النظرية إلى ارتباكي في حفظ القرآن، كما منعت أبي من محاولة تدريبي على العمل أو تعلم صنعة، وهو الأمر الذي أثّر سلبا في تطوّر شخصيتي مع تقدمي في العمر.
ولكن رغم ذلك، فقد أدّت هذه النظرية هدفها المنشود، فقد حافظت على تفوقي الدراسيّ، وكنت من فريق أوائل الطلبة في الصف السادس الابتدائيّ ـ وكان ضمن الفريق الصديق العبقري (مأمون عثمان) ـ وقد وفقنا الله سبحانه فحصلنا على الكأس والمركز الأوّل على مستوى المحافظة لأول مرّة في تاريخ قريتنا ـ وأظنها الأخيرة!
وقد تمّ تكريمنا في حفل كبير في المدرسة، وحصلنا على عدد من الجوائز، كان منها جائزة غيرت مسار حياتي فيما بعد.
فقد أهدى الأستاذ (داوود عتمان) كلا منا روايتين من روايات المغامرات، وكان من نصيبي روايتان من روايات (رجل المستحيل)، هما "أعماق الخطر" و"الضباب القاتل".. وبقراءة هاتين الروايتين انفتح أمامي عالم جديد رائع، لم أكن أتصوّر حتّى وجوده.
كانت لغة هذه الروايات صعبة بالنسبة لي في تلك السن، لكن رغم هذا لم أفتر عن قراءتها.
وهكذا أدّت نظرية أبي عن صدأ الدماغ إلى نتيجة غير متوقعة، فقد بدأت هذه الروايات تفعل العكس تماما: بدأت تجلو الصدأ!
وفي العام التالي تعرفت على الصديق (محمد عبد الواحد) الذي أخذ يلحّ عليّ لقراءة رواية من سلسلة (ملف المستقبل) اسمها "الشمس الزرقاء".. كنت أنا مغرما بروايات (رجل المستحيل)، فأخذ يعدد لي محاسن رواية "الشمس الزرقاء"، ويسرد لي معلومات وردت فيها عن فيتامين "د" وما إلى ذلك، مما نفّرني منها!
نعم.. كنت كأيّ طالب مصريّ أصيل، أمقت العلم وأكره الكتب وكلّ ما يذكرني بالمذاكرة والامتحانات، وأعشق نظرية صدأ الدماغ بعد إغلاق كتاب المدرسة!
حتّى إن صديقي (مأمون عثمان) كان يحبطني بسؤالي عن عواصم دول لم أسمع حتّى أسماءها من قبل، فأسأله في استخفاف عن جدوى معرفة ذلك!
كنت طالبا مثاليا، أحرز الدرجات وأكره العلم والمعرفة، كما ينبغي للطالب المصري أن يكون!
ولكن تحت إلحاح الصديق (محمد عبد الواحد)، أخذت منه رواية الشمس الزرقاء ـ على الأقلّ حتّى أرتاح من زنّه! ـ وشرعت في قراءتها في حديقة المدرسة في حصة الزراعة.. وحديقة المدرسة هذه لم تكن حديقة طبعا، ولم يكن بها إلا التراب، الذي جلسنا عليه نثرثر ونلهو!
وما إن شرعت في قراءة رواية الشمس الزرقاء، حتّى عرفت أنّ حياتي بعدها لن تعود كما كانت قبلها!
إنّه العالم الرائع الذي أعشقه.. عالم المستقبل.. عالم يمتزج فيه العلم بالخيال بالمغامرات بالإثارة.. عالم اندمجت فيه بكلّ كياني، حتّى مضى الوقت دون أن أشعر، وانتهت الحصة للأسف قبل أن أنهي الرواية، وكانت الحصة الأخيرة، فتوسلت للفتى بأن يترك لي الرواية، فوافق مبتسما ابتسامة العليم ببواطن الأمور!
ولم أطق صبرا لإتمام الرواية، فلم أذهب إلى بيتنا لبعد لمسافة، وذهبت إلى بيت جدي القريب من المدرسة، حيث ألقيت الحقيبة وعدت لأواصل القراءة بلهفة.
ولا يمكن لشيء أن يصف متعتي بهذه الرواية.
متعة لم تضاهِها عندي سوى البرمجة فيما بعد.
بعدها صرت مدمنا لروايات مصرية للجيب، وعلى رأسها (ملفّ المستقبل)، التي كنت ـ وما زلت ـ أقرؤها قبل غيرها.
وكان الصديق (محمد عبد الواحد) يُمدني بعشرات من هذه الروايات، وهو الجميل الذي لا أستطيع نسيانه له مهما طال الزمن.
وكان هذا بداية التحول في حياتي.
كانت هناك جملة دعائية على أغلفة هذه الروايات تهدف لترويجها، تقول إنها ألذ من التلفاز ومباريات كرة القدم.. بل ألذ من الطعام نفسه.
وكنت أسخر من هذه الجملة في البداية، قبل أن أكتشف أنها كانت حقيقية مئة بالمئة!
نعم.. كان يُعرض على التلفاز فيلم (عادل إمام) ـ وكان ذلك الممثل التافه أسطورة بالنسبة لنا في تلك السن ـ فأعجز عن أن أترك رواية (نبيل فاروق) لمشاهدته، رغم أنّه كان بالإمكان أن أرجئ قراءتها إلى ما بعد مشاهدة الفيلم.. لكنّ هذا كان مستحيلا من فرط تشويقها وجاذبيتها!
وهذا طبعا نفس ما كان يحدث مع مباريات كرة القدم، التي كان أبي وأخواي من عشاقها، فكنت أستغل كون فترة المباراة راحة رسمية معترفا بها من المذاكرة، لأقرأ رواية من هذه الروايات اللذيذة.
وهكذا عملت هذه الروايات بالتدريج كعازل بيني وبين التلفاز، حتّى صرت أحتقر مشاهدة الأفلام العربية الغبية والمسلسلات التي لا جديد فيها.. ولم أكن أحرص إلا على متابعة الأفلام الأجنبية، خصوصا الخيال العلمي.. وهذا ما سمح لي بتنظيف عقلي مع الزمن!
وتلا تلك المرحلة مرحلة محاولة الكتابة، التي استلزمت أن أذهب إلى المكتبات العامة لقراءة كتب الفضاء والذرّة والكتب العلمية المختلفة.
وبهذا بدأت رحلة المعرفة خطوة فخطوة.
وأثناء هذه الرحلة، كنت أحاول التعرف على أدبائنا "الكبار"، لكنني سرعان ما كنت أزهد في كتاباتهم وأزدريها، فلا دين فيها ولا علم فأيّ خير يرتجى منها؟
وكان لديّ مرشّح حاد، يجعلني ألقي أيّ كاتب يتطرق إلى النواحي الغريزية في سلة المهملات!
لقد هربت إلى عالم الكتب من الابتذال الغريزي الذي كنت غارقا فيه في المدرسة، ولا يعقل أن ألجأ إليه في الكتب!
كنت أقول لنفسي دائما: ما حاجتي لإرهاق نفسي لأقرأ كلاما متدنيا كهذا، وفي استطاعتي في أيّة لحظة أن أذهب إلى أتفه زميل لي ليقول لي ما هو أجمل وأمتع، وأحصل منه على صور عارية أو أذهب معه لمشاهدة ذلك على الفيديو في أماكن يعرفونها جيدا؟!
كنت قد قررت بكل صدق أن أقرأ لمن يخاطب عقلي لا فرجي، وأيّ حقير لا يتفق مع هذا التوجه فلا مكان له في عالمي.
وهذا طبعا وضع ثلة "عباقرتنا" معا في سلة المهملات، واكتفيت ـ بجوار قراءة الكتب وخصوصا العلمي منها ـ بقراءة د. مصطفى محمود ومسرحيات توفيق الحكيم وكتابات عبد الوهاب مطاوع وأحمد رجب...... وغيرهم ممن لم يبتذلوا أقلامهم وأنفسهم واحترموا عقول قرائهم.
وإن كنت في كلّ فترة أحاول إعادة قراءة عينات لأولئك الكتاب العباقرة لتصحيح فكرتي عنهم، ولكنهم كانوا يرسبون دائما في الاختبار!
وعموما كان د. (نبيل فاروق) ود. (أحمد خالد توفيق) ـ الذي انضم إلى المؤسسة وأنا في المرحلة الثانوية ـ غزيرَيْ ومتنوعَي الإنتاج بدرجة مذهلة وبهيجة، بحيث لا يحتاج المرء حين يبحث عن المتعة النظيفة لأكثر منهما!