ويفوز باللذات كل مغامر.. إن عاش!
عندما كنت طفلا صغيرا، كنت أفعل أشياء، مجرد تذكرها الآن يكاد يخلع قلبي من الهلع!
على سبيل المثال، كنت في المرحلة الابتدائية أسير فوق الأسوار الحجرية المرتفعة، وكنت أعدو فوق ماسورة متوسطة السُمك تمتد فوق الترعة وهي ممتلئة بالمياه.. وفي مراهقتي كنت أقطع بالدراجة أحيانا أكثر من 25 كيلومترا لأصل إلى مدينة رأس البر نهارا أو ليلا، على طرق أسفلتية خطرة تضج بالسيارات!
حينما أتذكر مثل تلك التصرفات أحمد الله أنه سلّم، وأعرف يقينا أنني لا يمكن أن أكرر أي شيء منها بعدها أبدا.
لكن هذا يجعلني أتساءل: هل يزداد المرء عقلا كلما تقدم في العمر، أم أن هذا هو التعبير المهذب للجبن؟
وهل كنت سأصير إنسانا أفضل بدون هذه التجارب؟
أعرف أن مثل هذه المخاطرات غير الضرورية قد تهلك الإنسان أو تصيبه بعاهة، لكنها أيضا تربي فيه نوعا من الجرأة والخبرة المكتسبة بالتجربة.. ولو حذفنا هذا الجزء من شخصية كل طفل ومراهق، فلن نحصل إلا على إمعة متبلد جبان غير قادر على اتخاذ أي قرار!
لكن.. هل تستطيع فعلا أن تسمح لابنك بفعل هذه الأشياء؟.. طبعا لم أكن أخبر أبي وأمي بكل هذه المغامرات المجنونة، لأنهما لم يكونا ليسمحا بها قط.. والآن صرت أقدّر تماما الرعب الدائم الذي يعيش فيه الأهل كلما غادر ابنهم المنزل، فلا ريب أن لديهم فكرة عما يمكن أن يفعله بعيدا عن نواظرهم!
***
في الحقيقة، ورغم كل (الحكمة) التي اكتسبتها مع تقدم العمر، ما زالت بقايا ذلك الجزء المغامر مترسبة في شخصيتي.
ربما لم تعد المغامرة تتعلق بالمخاطرة بالنفس، لكن غريزة المخاطرة ما زالت موجودة.. ولعل أكبر مغامرة خضتها وأخوضها الآن، هي القرار الذي اتخذته منذ ثلاث سنوات بالتفرغ للكتابة في مجال البرمجة، وترك مهنة البرمجة نفسها.. فحينما فعلت هذا، لم أكن أعرف إلام ستفضي التجربة.. وإلى الآن، ما زال واضحا أن العمل في البرمجة يحقق دخلا أعلى، ونسبة المخاطرة فيه أقل، لكني مصرّ على مواصلة التجربة بإذن الله.. ولو فشلت هذه المغامرة في النهاية واضطررت إلى التوقف والعودة إلى المسار التقليدي، فعلى الأقل سأكون قد فعلت شيئا كنت أريده، وتركت للناس علما ينتفع به.. هذا أفضل من أن أظل أسأل نفسي إلى أن أموت: ماذا كان سيحدث لو كنت خاطرت وتفرغت للكتابة؟
***
ولعله صدق من قال: "ويفوز باللذات كل مغامر".
فعلى المستوى الفردي، بدون المغامرة، سيظل في داخل كل إنسان شيء عاش يتمنى تجربته، ولم يجرؤ على هذا.
بالنسبة لي، تشعرني تلك المخاطرات الطفولية بأنني عشت طفولتي كاملة واستمتعت بكل تفاصيلها.. لعل هذا ما جعل من السهل علي بعد ذلك أن أعتكف في صومعة القراءة والكتابة في أخصب فترات شبابي، لأن حاجتي إلى المعرفة والإبداع، كانت أكثر من حاجتي إلى انطلاق الشباب وجموحه ومغامراته، فكان جموحي أدبا وفكرا لا تصرفات طائشة!
وعلى المستوى الإنساني، بدون المخاطرة لم تكن الدنيا لتتغير، ولم تكن الحضارات لتتطور، ولم تكن الاختراعات والاكتشافات لتظهر، ولا خرائط البحار والمحيطات والأنهار لترسم، ولم يكن الإنسان ليهبط على القمر!
لكنه سيكون من الأذكى أن تكون مغامراتنا محسوبة، وأن نخطط كيف سنتصرف إن أدت إلى أسوأ النتائج، ولا داعي بالطبع للمخاطرة الطفولية والمراهقة بالنفس بلا هدف، فمن الأفضل دائما أن تمنح نفسك فرصة أخرى لمغامرة تالية.
***
ذكروني أن أحدثكم يوما عن المغامرة الوحيدة التي لم أجرؤ بعد على خوضها: الزواج J .. فأحيانا أشعر أن الذين يتزوجون هم فرسان من عالم الأساطير يستحق كل منهم وضع تمثال له في ميدان عام.. أو أن إقدامهم على الزواج كان من نفس عينة المخاطرات غير المحسوبة التي تحدثنا عنها في بداية هذا المقال، والتي لا يعرفون الآن كيف ولماذا تورطوا فيها J .
ربما لهذا أنا من أشد أنصار الزواج المبكر للجنسين.. فكلما تقدم المرء في السن، اكتسب (الحكمة) التي تجعل الزواج بالنسبة له مخاطرة تحتاج إلى حسابات معقدة للغاية، خاصة مع كل المشاكل التي يرصدها في حياة المتزوجين أو المطلقين من حوله!
ما أدركه الآن يقينا، أن التفكير في أي أمر أكثر من اللازم يعقده، وأن من الجميل حقا فعل كل شيء في حينه، مصحوبا بحماسه وبهجته، بدلا من تأجيله ليصير مجرد معادلة تزداد تعقيدا كل يوم، إلى أن تصل إلى درجة يستحيل معها حلها!
ألم لكم إنه قد صدق من قال:
ويفوز باللذات كل مغامر؟!
المهم ألا يندم كل مغامر على نتيجة مغامرته أيا كانت.. فمن يملك شجاعة القرار، يجب ألا يندم على نتائج الاختيار.
***
محمد حمدي غانم
24/11/2010