تونس.. دروس وعبر
(4)
إنك لا تجني من الشوك العنب
من وجهة نظري، أن أكبر وأهم درس يجب أن تتعلمه الحكومات مما حدث في تونس، وما يحدث حاليا في الجزائر والأردن ومصر من مظاهرات غضب عارمة، هو أن الإعلام العربي يزرع الشوك، ولا يمكن أن تحصد الحكومات منه العنب، بل ستحصد شوكا وسخطا وعنفا ودما.
فإعلامنا كله، ببرامجه وأغانيه ومسلسلاته وأفلامه، يروج ثقافة استهلاكية شرهة، تعتمد على إثارة الغرائز والتحاسد والرغبة المحمومة في التملك.. وحتى لو حدث خطأ وقدم الإعلام برنامجا هادفا، فإن الفواصل تتخلله لعرض الدعايات، بما في ذلك البرامج الدينية، بل والقنوات الإسلامية نفسها!
والنتيجة أنه لا أحد يشعر بالرضا.. وكما قال أحد الفلاسفة: "الشعور بالظلم، وليس الظلم نفسه، هو ما يحرك ثورات الشعوب".
فكل إنسان فينا اليوم يعيش في رفاهية تجعله أفضل من ملوك ألف ليلة وليلة، وأفقر شاب عاطل يحمل جوالا بإمكانيات أفضل من الحواسيب الشخصية التي كنا نستعملها منذ 15 سنة، وتوفر له أسرته تلفازا وطبقا فضائيا وحاسوبا شخصيا وإنترنت، وربما أيضا ينفق مئات الجنيهات شهريا لقتل نفسه بالسجائر!
ورغم كل هذا، يظل هذا الشاب بمقاييس الثقافة الاستهلاكية محروما ومظلوما وعاجزا عن تحقيق طموحاته، التي في الغالب تدور حول سيارة فارهة، وشقة فخمة، وزوجة تشبه فتيات الإعلانات، ووظيفة لا يفعل فيها شيئا سوى الجلوس على مكتب ببذلة أنيقة والرد على الهواتف!
ومن أبسط نتائج هذا، أن صارت شركات الاتصالات في بلادنا تجني المليارات شهريا، بسبب ثرثرة ملايين المواطنين في الهواتف بالغيبة والنميمة والفحش والغزل، وكل ما لا قيمة له ولا يعود بنفع، بينما الجميع يبكون ويصرخون من التضخم ونقص السيولة، وضيق ذات اليد!!
وأنا بكلامي هذا لا ألقي باللائمة على الشباب وأهاليهم وثقافة المجتمع فحسب، فالمسئول الأول والأكثر جرما، هو الإعلام الحكومي الذي يُعتبر فوضى تدميرية حقيقية لكل القيم والأخلاق، ولا هم له سوى خدمة التجار وأصحاب المصالح ومحاربة الإسلام والعقل.. إعلام تجاهل تماما كل خبراء التربية وعلم النفس والاجتماع، بينما كان من المفروض أن يتولى هؤلاء مسئولية تخطيط الرسالة الإعلامية.
ربما يقول البعض في شماتة: وما المشكلة.. لقد زرعوا الشوك فليحصدوه.. دعه يمزقهم آرابا.
لكني أرى أن ما يحدث في بلادنا حاليا لا يبشر بخير، فطاقة الغضب تصلح للهدم، لكنها لا تصلح للبناء، ودور المثقفين الحقيقي هو تحليل المشكلة وإيضاح منبع الخلل واقتراح العلاج.. أما أن نبتهج بعواصف التغيير، ونغتر بغضب الشباب دون أن نسأل أنفسنا "وماذا بعد؟"، فهذا قد يقودنا إلى أوضاع كارثية أسوأ مما نعيشه بكثير.
ولنسأل أنفسنا: وماذا بعد أن أطاح الشباب التونسي بابن علي؟.. وماذا بعد أن ينظفوا تونس من كل أتباعه؟.. هل سيزيل هذا أسباب الثورة؟
دعونا نفترض أن ملائكة منزّلة من السماء حكمتهم في الفترة المقبلة، فهل ستستطيع إيجاد فرص عمل لكل العاطلين في لمح البصر؟
ربما ستسترد الدولة الأموال المنهوبة، ولكنّ نقل ملكية الشركات من اللصوص إلى الشعب لن يزيد فرص العمل، كما أن تحويل النقود إلى فرص عمل ليس بالأمر الهين، في ظل أوضاع عالمية معقدة، أصعبها منافسة الصين وشرق آسيا، في ظل اتفاقيات تحرير التجارة ومنع القيود الحمائية وفرض الغرب الحصار التقني علينا لضمان تفوق إسرائيل، ناهيكم أصلا عن أن إنشاء المصانع وتخطيط المشاريع يحتاج إلى سنوات ليست بالقصيرة، ستزيد فيها أعداد العاطلين.. فهل سيصبر الشباب الغاضب على الحكومة التالية إلى أن تضع الخطط المحكمة طويلة الأمد وتنفذها؟.. أم أنه سيستمرئ الغضب والثورة والهدم؟
وهل هناك أصلا دولة في العالم نجحت في إنهاء مشكلة البطالة؟