المتابعون للمدونة

الجمعة، 20 أغسطس 2010

إعلانات يا هوووووووه!

إعلانات يا هووووووووووووووووه!

نحن أسرة صغيرة: أنا وزوجتي وطفلانا حسام وهبة.
والحمد لله، نحن نتمتع بكل مقومات السعادة والهناءة وراحة البال، فزوجتي ماهيتاب مثالية وحنون ومطيعة وهادئة.. لكل ذلك تراني أحبها بكل جوارحي وأعماقي، ولا أستطيع أن أرفض لها طلبا.
***
ولحسن الحظ، ماهيتاب ليست طماعة ولا جشعة، بل قنوع هي وحكيمة، وماهرة في تدبير شئون المنزل إلى أقصى حد.
شيء واحد فقط هو الذي يحطم هذه الحكمة وهذا الاقتصاد.. اهئ اهئ.. شيء واحد فقط.
إن ماهيتاب فضولية.. فضولية لدرجة مرعبة.. لا تكاد تسمع عن منتج جديد حتى تثب لتشتريه وتجربه في الحال.
إهئ.. والمصيبة أنها من هواة مشاهدة الإعلانات التلفازية.
***
ولأن طفلينا على يديها تربيا، فقد رضعا عنها كل تلك الصفات.. لذلك فإن أسرتي الصغيرة تنتظر الفقرات الإعلانية كلّ يوم بفارغ الصبر، ليمارس أفرادها هوايتهم الخاصة.
ومن حسن الحظ أنّ وقت الإعلانات في التلفاز أكبر من وقت المسلسلات والأفلام والبرامج مجتمعة، ولهذا لم يكن هذا الجهاز يغلق عندنا إلا في أوقات المسلسلات والأفلام والبرامج.. هذا قبل أن تبدأ فكرة قطع المسلسلات والأفلام والبرامج لعرض الفقرات الإعلانية، وذلك ـ وهو ما لا يعلمه الكثيرون منكم ـ بعد أن أرسلت ماهيتاب الكثير من الشكاوى لحل هذه السلبية الخطيرة!
***
وماهيتاب عبقرية من طراز حديث وفريد، لذا فقد أغراها نجاحها في تغيير سياسة التلفاز بتكوين جمعية نسوية طفولية من محبي الإعلانات.. وكان من أجهزة الجمعية:
1-  أمانة الجمعية: وتتكون من المديرة العامة ومساعداتها، ويتم تعيينهن بمسابقة خاصة، تبرز مستوى الثقافة الإعلانية التي تتمتع بها العضوة.
2-  صندوق الجمعية: ويختص بجمع التبرعات لتدعيم دفع فواتير الكهرباء الباهظة الناجمة عن التلفاز، ودفع أقساط المنتجات الإعلانية التي تعجز العضوات عن أدائها.
3-  هاتف الطوارئ: وهو جهاز نشط، يتكون من عدد من ربات البيوت المرابطات أمام التلفاز، ومعهن أرقام هواتف العضوات، وفي أيّ وقت يتم عرض إعلانات جديدة، يقمن بتبليغ بقية المجموعة فورا.. وفي أوقات مخصصة من العام، يتم توسيع نطاق هذه الخدمة كنشاط خيري، فيتم الاتصال بأي رقم عشوائيا، حيث تصيح العضوة بسرعة وانفعال:
-       مرحبا.. سيدتي.. عليك اللعنة إن لم تفتحي التلفاز الآن على القناة (...)!
والعديد والعديد من أنشطة الجمعية، والتي فازت زوجتي بالاشتراك فيها كلها ، نظرا لأنها من العضوات المؤسسات، كما أنها نجحت في اختبار الثقافة بتفوق.. وأذكر أننّي اطلعت على الامتحان فشهدت لماهيتاب بالعبقرية.. وكان من ضمنه الأسئلة التالية:
س: اذكري بالثانية، الوقت الدقيق للقيمة العظمى والصغرى، لمعدل إذاعة الإعلانات يوميا على القناة الأولى.
س: كم عدد الإعلانات التي شاهدتِها اليوم؟.. ولماذا لم تشاهدي الباقي؟.. هل أعجبتك إعلانات اليوم؟
س: اذكري أشهر فتيات الإعلانات وفتيانها ومصمميها ومنتجيها ومخرجيها.
س: اذكر مقربا إلى أقرب مئة، عدد مساحيق الغسيل التي يتم الإعلان عنها يوميا.
س: اكتبي فيما لا يقل عن أربعين سطرا في الموضوع الذي يروقك من الآتي:
-      المسخرة وقلة الأدب في الإعلانات وأثرها في زيادة المبيعات.
-      الإعلانات بين الفن الهابط والاقتصاد المنتعش.
-      أثر الثقافة الإعلانية في تربية النشء.
-      النظرية الحديثة في الإعلان العالمي وعلاقتها بالعولمة.
-      مقترحات حتّى يكون الإعلان هو الأجمل والأمتع والأربح والأفضل.
وكان من أهم الأسئلة، هذا السؤال الخاص بالمتفوقات فقط:
س: اذكري (999) استخداما لفتاة الإعلان غير الظهور في الإعلان وغير الدلع والميوعة وقلة الأدب. (إرشاد: الظهور على أغلفة المجلات التافهة بملابس فاضحة ، التحول إلى نجمات مجتمع ـ التمثيل فيما بعد...... وهكذا.)
***
أصبحت ماهيتاب مشغولة جدا ـ كان الله في عونها ـ فهي تذهب في الصباح المبكر إلى مقر الجمعية لممارسة نشاطاتها، حيث لا تعود إلا منهكة في الساعة الثانية بعد الظهيرة.. وفي الثالثة بالضبط تتولى النشاط الطارئ، فتجلس بجوار الهاتف وأمام التلفاز وفي يدها دفتر أسماء المشتركات.. ويستمر ذلك حتّى نهاية السهرة، حيث تخلد إلى نوم عميق، تأهبا ليوم شاق جديد!
ولا تحسبُنّ أنها خلال أيّة فترة من اليوم تنقطع عن الثقافة الإعلانية.. بتاتا.. ففي السيارة لديها تلفاز صغير يحقق الغرض، وفي مكتبها بإدارة الجمعية كذلك.. حتّى في المسافة من باب السيارة إلى باب البيت أو الجمعية يكون المذياع معها، حيث تكتسب إعلانا من هنا أو هناك.
مجتهدة هي هذه المرأة والله!
***
ولا تحسبُنّ ثقافة الإعلان تلكم غير مفيدة.. أبدا والله فهي رائعة جدا وعظيمة جدا.
فمع الفضول الشديد الذي يشكل أعماق زوجتي، أجدني مضطرا إلى شراء أيّ منتج وكلّ منتج يعلن عنه.
والحمد لله زوجتي لا تعاني أيّ نقص: فعندنا نماذج متنوعة من كلّ أنواع العطور والأزياء والأحذية والحقائب وأدوات الزينة ومساحيق التجميل والغسيل وقتل الصراصير، والصابون والشامبو، وعندنا مخازن تحتوي على جميع أنواع الشيكولاتة والحلوى والمعلبات والأطعمة والزيوت والشاي، وكلّ ما يخطر ببالك وما لا يخطر ببالك.
حتّى الإعلانات الضخمة كذلك: عندنا شقق كاملة كنماذج لأنواع الأثاث والثلاجات والغسالات، وعندنا جيش من السيارات من كلّ الأنواع.
كما أنّ عندنا تذاكر لكلّ الأفلام السينمائية الهابطة وغير الهابطة، وتذاكر لكل المسرحيات وعروض الأوبرا والباليه، من التي يعلن عنها، وإن كنا بالطبع لا نجد الوقت الكافي لنشاهدها.. إننا فعلا لا نحتاج إلى شيء!
***
ولأن ماهيتاب خبيرة وحكيمة وذكية، فقد قررت أن تستغل كل ما نملك معا في وقت واحد.
فمثلا: أحضرت كلّ أنواع الشاي وخلطتها معا مثنى وثلاث ورباع، لتنتج لنا أنواعا مبتكرة من هذه المنتجات.
والحال كذلك مع الشامبو وأدوات الزينة ومساحيق الغسيل والمعلبات و.... و.....
***
ومع تطور نشاطات الجمعية، افتتحت سلسلة من المدارس الخاصة من الحضانة وحتّى المعاهد العليا والكليات الخاصة.
ولأنها المديرة العامة، لذا فقد كان لزاما على حسام وهبة أن يكونا أوّل الملتحقين، مع ميزة خاصة هي المجانية.
وبصراحة كان ما يدرسه الطفلان قمة في الثقافة والعملية:
ففي اللغة العربية: كانا يدرسان نصوصا مما ورد في الإعلانات على أيدي مختصين.. وكانت دراسة شائقة، فلغة الإعلان هي تركيبة عجيبة من الفصحى والعامية والإنجليزية والفرنسية وخلافها.
وفي الرياضيات: كانا يدرسان كيفية حساب أرباح الإعلانات، وعدد هذه الإعلانات يوميا وعدد ما تكرر منها وعدد فتياتها، وهكذا...
وفي التربية الرياضية: كانا يتمرنان على تأدية بعض الرقصات الإعلانية الخليعة المميزة.
وفي التربية الإسلامية: كانا يدرسان (كيف يمكن الرد على محرمي الإعلان بالحجة والبرهان) وهو كتاب وضعه أحد كبار الشيوخ في التهام الخوخ!
وهكذا.. كلّه إعلانات وفي إعلانات!
***
كانت ماهيتاب في حالة قلق مستمرة، ففي الآونة الأخيرة بدأت تلاحظ أن شعرها آخذ في التساقط، وأن بشرتها آخذة في التشقق، وأن الملابس تختفي باستمرار رغم أنها تقسم إنها تضعها بيدها في الغسالة، ولكنها حين تحاول إخراجها لا تجد غير سائل كثيف القوام فحسب!
نصحت زوجتي أن تتوقف عن استعمال المنتجات العظيمة التي تخلطها، خاصة مع تكرار إصابتنا بالتسمم، فكادت أن تتهمني بالجنون!
***
رويدا رويدا بدأت أنسجم مع اللعبة وبدأت أنضم إلى هاوي الإعلانات، بل إنني أصبحت من المتعصبين لها، وبدأت أخصص من وقتي فترات طويلة لمتابعة الإعلانات، مما حاز قبول واستحسان ماهيتاب، وقررت ضمي كعضو شرف للجمعية.
***
وازدادت نشاطاتي الإعلانية كثيرا، فبدأت أقوم بمهامَّ خطيرة، إذ كوّنت أنا ومجموعة من أصدقائي رابطة من مشجعي الإعلانات، وأحيانا كان العمل يضطرنا إلى التغيب عن المنزل باليوم والاثنين.. وكانت ماهيتاب فخورا بي كثيرا.
***
كان هناك إعلان مثير يشدني..
فجأة تظلم الشاة إظلاما تاما كقبر كافر، وتبدأ موسيقى من موسيقى الرعب في العزف، ويستمر ذلك لنصف ساعة كاملة مع أصوات مفزعة، ثم يهبط الصمت بغتة، ويجيء صوت المذيع بلهجة تشويق غير عادية:
-       نداء الليل.. انتظر المفاجأة.
وتكرر عرض ذلك الإعلان كثيرا، وفي كلّ مرة كان تعليق مختلف يقال:
-       قريبا.. نداء الليل.. انتظر المفاجأة.
***
ومضى نصف عام كامل، وما زال نداء الليل يتكرر كلّ يوم أكثر من عشر مرات، وفي كلّ مرة كان تعليق مختلف يقال:
-       إذا أردت أن تعرف ما هو نداء الليل فانتظر المفاجأة.
***
لاحظت ماهيتاب أحمر شفاه في منديل لي، ووجدتُها هائجة تكاد تقتلني، ولكني ضحكت قائلا ببساطة:
-     يا روحي.. لقد كنا نجرب أحمر الشفاه الجديد (لولو) الذي يعلنون عنه حاليا.. لقد اكتشفنا أنّ كلّ مساحيق الغسيل عاجزة عن إزالته.. أتصدقين: لقد استخدمنا الصودا الكاوية لمعالجته فأزالت الشفاه نفسها ولكنها لم تُزِله!
ومددت يدي في جيبي وأخرجت لها أحمر شفاه (لولو) قائلا بنفس لهجة مذيع الإعلان:
-       أحمر شفاه (لولو).. الكل "بيبصولو".
***
كنت أتابع نداء الليل بمزيد من الشغف، وأترقب إذاعته في كلّ وقت حتّى أدمنته.
كان يشعرني بلذة عجيبة وبانفعال ولهفة محببين، خاصة أنني من النوع الذي يحب الغموض إلى أقصى درجة.
كان كلّ شيء يمر على ما يرام و....
ولكن الإعلان انقطع فجأة!
لقد اكتشفت في هلع أن ساعة كاملة مرت دون أن يقطعوا مباراة أو أن يعتذروا عن عرض مسلسل من أجل تقديم الإعلان.
ثم مضى الأمس كاملا، وها هو اليوم يمضي دون أن يعرض الإعلان مرة واحدة.
ولهذا انتابني التوتر كثيرا.
***
مضت الأيام سراعا، وأصبح مظهري مريعا.
إعلان نداء الليل لم يعد يتكرر، وهذا جعلني عصبيا جدا، أجلس أمام التلفاز أقضم أظافري وأبصق قُلامتها في عنف، ليلَ نهارٍ في انتظار الإعلان.
ونما شعر لحيتي مشعثا، وطال شعر رأسي مرعبا، وأصبحت أُفرط في التدخين حتّى كدت أصاب بذبحة صدرية، وكلّ الوقت أنتظر إعلان نداء الليل.
***
طالعتني الجرائد بأنّ ثلاثة رجال أصيبوا بالجنون ونوبات عصبية حادة مدمرة، وهم طوال الوقت يردّدون في هياج:
-       نداء الليل.. نريد مفاجأة نداء الليل.. انتظر نداء الليل.. هاهاهوه.
وانتحر شخصان آخران بطريقة بشعة، بحيث لم يتبقَّ من رأس الأوّل سوى فردة حذاء الثاني، وقد ترك الاثنان خلفهما رسالة جاء فيها ما نصه:
-       نداء الليل.. إذا أردت أن تعرف ما هو نداء الليل فانتظر المفاجأة.
***
مضت فترة طويلة دون أن يعاد بث نداء الليل.. لهذا قررت أخيرا أن أتجه إلى مبنى الإذاعة والتلفاز، وطالبت بمقابلة المسئولين.
كان منظري مخيفا بلحيتي المشعثة وشعري الغجري المنكوش، والجميع من فرط عصبيتي يظنونني مجنونا، لهذا رفضوا أن أقابل أحدا.
ثُرت وثرثرت، وهجت وهاجمت، وكدت أهدم المبنى على من فيه وأنا أصرخ:
-       نداء الليل.. أريد أن أعرف ما هو نداء الليل.
حتّى رضخوا أخيرا أمام إصراري، وأخبرني المسئولون أنهم لا يعرفون ما هو نداء الليل، ولكنّ شخصا مجهولا أرسل الإعلان وطلب بثّه وكان يرسل ثمن العرض بالبريد، قبل أن ينقطع ذلك الشخص عن ذلك فجأة.
***
حينما عدت إلى البيت واتتني فكرة رائعة: أرسلت إلى التلفاز المبلغ المحدد بالبريد وطلبت إعادة بث إعلان نداء الليل.
وواظبت على هذا باستمرار!
منحني ذلك شعورا جميلا، فكنت كلّ يوم أتابع إعلان نداء الليل، لأحصل على راحة نفسية هائلة وتعود لي السكيتة.
***
هذا دون أن أعلم ـ إلا مؤخرا ـ أن زوجتي ماهيتاب هي صاحبة إعلان نداء الليل.
كانت قد اكتشفت السبب الحقيقي لتغيبي عن المنزل، حينما رأتني إحدى صديقاتها يوما أتأبط ذراع فتاة الإعلان الشهيرة (نجلاء)، التي شغفت بها من فرط مشاهدتي لإعلاناتها المثيرة، لذا فقد لجأت ماهيتاب إلى خطّة نداء الليل تلكم حتّى تربطني بالمنزل!

محمد حمدي غانم
1996

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر