المتابعون للمدونة

الخميس، 12 أغسطس 2010

الحبُّ بالبطاقات

الحبُّ بالبطاقات

كان وهو ينتظرُها في غرفةِ الاستقبالِ ببيتِ أسرتِها، يشعرُ بأنّه غريب.
وحينَما دخلَتِ الغرفةَ فجأة، عمّقتْ خُطواتُها الصارمة، وملامحُها المتجهّمة مِن شعورِه بالغربة.
حتى نظرتُها، رمتْها في عينيه قبلَ أن تُشيحَ ببصرِها، وهى تسألُه في جفاء:

-   ماذا تُريد؟

أرادَ أن يقولَ كلماتٍ كثيرة، لكنه اختارَ من بينِها كلمةً واحدة:

-   أحبُّك.

-   لم يَعُدْ يعنيني.

-   هل تكرهينَني؟

-   ليس بالضرورة.

-   إذن هل تحبّينني؟

-   ليس بالضرورةِ أيضا!

-   لا أفهمُك هذه المرة!

قالتْ في حزن:

-   ومنذُ متى فهمتَني قبلَ هذه المرّة؟.. كلُّ ما حدثَ أنّكَ دمّرتَ حُلمَ عُمري، وسلبتَني سعادتي، ولم تمنحْني سوى لقبِ "مُطلّقة"، ولم نكمِلْ عامين في زواجِنا.

-   ندِمْت.

-   هل تعتقدُ أنَّ هذا يكفى؟

-   تعذّبت، وعذابي يزيدُ يومًا عن يوم.

-   لستُ أنا المسئولةَ عن ذلك.

وطفرَتِ الدموعُ من عينيها:

-   أنتَ الذي طعنتَني في كرامتي ومشاعري.. لم أتخيّلْ أنّ المشاكلَ بينَنا ـ مهما بلغَتْ ـ يمكنُ أن تجعلَني أخسرَ مملكتي وحياتي وحبي، بمجردِ قراءتي لورقةٍ تحملُ بضعةَ سطور.

-     يمكنُكِ أن تستعيدي كلَّ ذلكِ وأكثر.

-     ضاعَتِ الفرصةُ وفاتَ الأوان.. إنّكَ حتّى لَم تحاولْ ردّي لعصمتِكَ قبلَ انتهاءِ العدّة.

-   أردْتُ أنْ أمنَحكِ حقَّ تعذيبي أو إسعادي.. خَشِيتُ إن أنا استعدتُكِ جبرًا عنْ رغبةِ قلبِك، ألا تعودي لي كما كنا.. لهذا انتظرْتُ انقضاءَ العدّة.

-   هل تحاولُ خداعي؟

-   انظري في عينيّ وستعرفين.. لقد كنتِ تُجيدينَ ذلكِ حينما كنتِ تمتلكينني.

ترددَتْ لحظة، ونظرَتْ في عينيه.. سادَهما الصمتُ قبلَ أن تُشيحَ بِوَجهِها:

-   ربّما تكونُ صادقًا، ولكنَّ هذا لا يحلُّ المشكلة.

-   إذن ما هي المشكلة؟.. لقد أقررْتِ على الأقلِّ أنَّكِ لا تكرهينني.

-   هذا لا يدلُّ إلا على أنّكَ لا تعنيني، فلا وقتَ لديَّ حتّى لكي أكرَهَك!

-   حاذري.. أنا أيضًا أجيدُ قراءةَ عينيك.

-   لن تجدَ فيهما ما يسرُّك.

-   أعرفُ أنَّ الحزنَ يسكنُهما، يَبسطُ ليلَه على أحلامِهما، ويملأُهما بالحَيْرةِ والألم.. وهو حتمًا لا يسّرُني.

انسابَتْ دموعُها في صمت، فقالَ بحزن:

-   دموعُكِ تصرخُ بأنّي شرّيرٌ قاسٍ قاتل.. إنّي أسمعُها بوضوح.

-   [في حدّة]: إذن لماذا تصرُّ على مواصلةِ حربٍ خاسرة؟

-   لأنّي لا أملِكُ غيرَ هذا.. ثمَّ مَن جَزَمَ بأنّها خاسرة؟.. إذا كانتْ دموعُكِ تصرخ، فإنّ عينيكِ تستنجدان.. قلبَكِ يهتفُ باسْمي.. كلَّ شَعرةٍ مِن شَعرِكِ المجدولِ حولَ مصيري، مكتوبٌ عليها أنّكِ تُحبّينني.. إنّ ملامحَكِ لا تعرفُ الكذب، كما لم يعرفْ قلبُكِ الكراهية.

-   إنّكَ تتوهّمُ ما تُريد.

-   إنّكِ كلُّ ما أريد.. أنتِ لا تدرينَ كيفَ مرَّتْ عليَّ كلُّ ثانيةٍ في بعادِك.. حزنٌ ثقيلٌ حمّلني عمرًا منَ الآلامِ والنَّدم.. الندم؟!.. وأيُّ ندم!.. لو كانَ للنّدمِ جمعٌ مِن لفظِه لاستخدمْتُه.. ندمٌ وندمٌ وندم، إلى آخرِ نبضةِ قلب.. أتدرينَ كيف كنتُ أُمضي وقتي؟.. كنتُ أتأمّلُ كلَّ ركْنٍ في عُشِّنا المهجور، وأستعيدُ ذكرياتِكِ معه.. كلُّ شيءٍ في عُشِّنا يسألُني عنكِ: متى تعود؟.. ألن تعود؟.. هنا كانتْ تضحك.. هنا كانتْ تغنّى.. هنا كانت تغفو كالفراشةِ الرقيقةِ الوديعةِ البديعة.. وهنا وهنا وهنا.

-    [في غضب مرير]: وهنا كنتُ أجرحُ مشاعرَها.. وهنا كنتُ أتركُها تبكى.. وهنا ذبحْتُ قلبَها.. وهنا وهنا وهنا.

-   هل هذه كلُّ ذكرياتي في وجدانِك؟.. ألا تحتفظينَ لي بذكرى واحدةٍ جميلة؟

-   للأسفِ أحتفظُ بكثيرٍ منها، وهى تملأُني حَسرةً وألما!

-   ألا تريدينَ لها أنْ تعود؟

-   [بإباء]: لا.

-   [أطرقَ في حُزن]: هل ستكونينَ لرجلٍ غيري؟

-   [عقدَتْ حاجبيها]: حينما أضمنُ ألا يكونَ تكرارًا لخطئي الأوّل.

-   [في خُفوتٍ حزين]: أمّا أنا فلن أكونَ لغيرِك أبدا.

ثم سألَها برجاء:

-   هل أسألُكِ سؤالا تجيبينَني عنه بصراحة؟

لم تردَّ فسألَها:

-   هل يودُّ قلبُكِ العودةَ إليّ، ولكنَّ عقلَكِ أو كبرياءَكِ أو عنادَك ـ أيَّها أو كلَّها ـ يعترض؟

تردَّدَتْ لحظة، وهمّتْ بأن تُطلقَ كلمةً مُندفعة، فأسرعَ يقول:

-   لا تُطلقي كلمةً عشوائية، لأنَّ مصيري مُعلّقٌ بها.

-   ككلمتِكَ التي تعلّقَ بها مصيري؟

-   هل اكتفيتِ من تعذيبي، أم مَا زلت تبغينِ المزيد؟.. حدّدي لي بالضبطِ ماذا تريدين؟

-   أريدُكَ أن تتركَني أعيشُ حياتي في سلام.. والحمدُ لله: ليسَ بينَنا طفلٌ يربطُني بكَ إلى آخرِ الدّهر.. فَلْيَنْسَ كلٌّ منّا الآخرَ ويواصلْ حياتَه.

-   [هزّ رأسَه متفهّمًا]: فَلْيَكُنْ.

ونهضَ منصرفًا، ولكنّه التفتَ إليها وقال:

-   انسَيْني أنتِ.. كما يحلو لكِ انسَيْني.. ولكنّي أبدًا لن أنساك.. أبدا.

*****
وتسلّمَ وظيفةً جديدة، في مدينةٍ بعيدة، وانقطعَتْ أخبارُه عنها.
ولكنّها معَ كلِّ صباح، كانت تتسلّمُ باقةَ ورد، ومعها بطاقةٌ صغيرةٌ بلا توقيع:

كانَ قلبي شاردًا حتّى وجدَ عينيكِ الصغيرتين، الكافيتين جدًا لاحتوائِه إلى أبدِ الدهر.. يا لحزنِه كيف ضِعْتِ منه!
***
أحبُّك.. لعلّكِ تعرفينَ عذابَ المحبِّ الوحيد.
 ***
ما زلتُ أشعر أنّكِ مِلكي حتّى بعدَ فِراقِك.. بَقِيَتْ لي مسئوليّتي نحوَك، وضاعتْ سعادتي بك.
  ***
أصبحَتْ كلماتي التي أكتبُها لك، هي نبضاتِ حياتي.. الوحيدة.
***
هل تعرفينَ الحزن؟.. إنّني تجرِبةٌ حيّةٌ له.
 ***
إنّني عنيدٌ معَ كلِّ البشر.. إلا أنتِ، لأنّكِ جزءٌ منّى.
 ***
لقد تعوّدْتُ على أشياءَ كثيرة: أن أكونَ حزينا.. أن أكونَ وحيدا.. أن أحبَّكِ دائما.. وأن ترفضي حبّي.
 ***
إنّكِ تُحاكمينَ عُمرًا كاملا، جَرّاءَ جريمةٍ ارتكبَتْها لحظةُ حماقةٍ واحدةٌ فيه، لن تتكرّرَ أبدا.
 ***
مِن شدّة حزني، قرّرتُ أن أنساك، فوجَدْتُ نفسي أكتبُ لكِ ذلكِ بسرعة، قبلَ أن أنساه!
 ***
لا تخلو الدنيا أبدا من الآلام.. فهل سيكونُ ألمُكِ معَ غيري، أجملَ من ألمِكِ معي؟
 ***
كلّما فكّرتُ في الانتحارِ أحجَمْتُ سريعًا، لأنَّ ذلكِ سيحرمُني مِن آخرِ أملٍ في أن نلتقي بالجنّة.
 ***
أتدرينَ لماذا لا أحدّثُكِ عن جمالِك وأنا الوحيدُ الذي امتلكَه في يومٍ ما؟.. سأقولُ لك غدا!
 ***
لا أحدّثُكِ عن جمالِك، لأنَّ ذلكِ من المهالك، التي إذا انزلقَ إليها المرءُ لم ينتهِ منها أبدا.
 ***
عودي لي وامتلكيني.. هأنذا أمنحُكِ الفرصةَ الملائمةَ للانتقامِ منّى!
 ***
سيكونُ القمرُ بدرًا الليلة.. انظري إليه وتذكّريني وسأعرف.. فقد اتّفقْتُ مع (ناسا) أن تلتقطَ أفكارَك، بأحدثِ أجهزةِ التّجسّسِ الفضائيِّ لديها!
 ***
تذكّرْتُ أنّكِ قُلتِ لي يوما: "أحبك"، فهُرِعْتُ للطبيبِ في قلق، خشيةَ الوقوعِ في الهلاوس، فإنَّ موقفَكِ الحاليّ لا يدل إلا على عداءٍ أزليّ!
 ***
أولُ ما سأتمنّاه لو عُدتِ لي، هو أن تُنجبي لي طفلا، يربطُ مصيري بمصيرِك إلى الأبد.. شئنا أم أبَيْنا.
 ***
هناكِ مَن يتمنَّوْنَ ألا تَعودي لي.. منهم على الأقلّ، بائعُ الزهورِ التي تسعدُ بكِ الآن!
 ***
لم أعُدْ أجدُ المزيدَ من الكلمات.. لهذا طبعْتُ بشفتيَّ قُبلةً رقيقةً على هذه البطاقة، يائسًا أن تصلَ إلى شفتيك.
 ***
عندما استلمَتْ بطاقتَه الأخيرة، مسّتها بشفتيها طويلا، وعيناها مُغْرَوْرَقَتانِ بالدموع.
*****
صارتْ مُعتادةً أن تتلقّى زهورَه وكلماتِه، كلَّ يومٍ في الثامنةِ صباحا.
بل إنّها صارتْ تُعانى الأرقَ ليلا، تَلهّفًا لمطلعِ الصبح، حيثُ تختطفُ الباقةَ من العاملِ الذي يُسلّمُها، وتقرأُ الكلماتِ في شوق، ثم تحتضنُ الزهورَ وتغفو في حِضنِها.
كلُّ هذا، دونَ أن تُصارحَ نفسَها برغبتِها الجامحةِ في العودةِ إليه!
*****
ثمّ في يومٍ ما، انقطعَتْ باقاتُه وبطاقاتُه فجأة.
ولمدةِ أسبوعٍ صارتْ حياتُها خاوية، والقلقُ يأكلُ نفسَها، وتساؤلاتٌ مجنونةٌ تَنخرُ عقلَها.
لماذا كَفَّ عن إرسالِ الورد؟.. هل يَئِسَ منّى؟.. هل تعلّقَ بأخرى وسيتزوّجُها؟.. هل قسوْتُ عليه أكثرَ مِنَ اللازم؟
يا إلهي!.. لو أعرفُ حتى أينَ هوَ الآن، أو ما هو رقمُ هاتفِه في عملِه الجديد.
*****
وكانِ أسبوعًا مريعا.
قلقٌ وأرق، وشرود، وتطلّع دائمٌ إلى حُلمٍ يبهتُ شيئًا فشيئا.
ندمٌ ضارٍ وحزنٌ مُستطير.
وكلّما رنّ جرسُ البابِ قفزَتْ إليه، علّها زهورُه وكلماتُه.. بلا جدوى.
*****
كانت آخرُ زهرةٍ أرسلَها تُحْتَضَر، وقد فشِلَتْ كلُّ المحاليلِ في منحِها النضارةَ أطولَ مِن ذلك.
وبينما هي تتأمّلُها دامعةً، رنَّ جرسُ الباب، فتثاقلَتْ أن تقومَ إليه من فرطِ يأسِها.
ألقَتْ عليها والدتُها نظرةً مُشفقة، قبلَ أن تتّجهَ لتفتحَ الباب.
وتهلّلتِ الوالدةُ حينما وجدَتْ مَن يُسلّمُها باقةَ وردٍ وصاحتْ في فرحة:

-   هل أرسلَ الزهورَ مرّةً أخرى؟

قفزَتْ من مقعدِها، وكالبرقِ كانتْ عندَ الباب، تختطفُ الباقةَ من يدِ حاملِها، وتنتزعُ البطاقةَ في شوقٍ هاتفةً:

-   هل هي منه؟

وقرأَتْ على البطاقة:

لعلكِ تتساء لينَ عن سرِّ انقطاعِ زهوري.. كان ذلكَ حتّى أتفرغَ للانتهاءِ من أعمالي وأقدمَ بنفسي.

خفقَتْ جوانحُها في سعادةٍ وتمتمتْ:

-   إنّه سيأتي.. سيأتي أخيرا.

والتفتَتْ للعاملِ قائلةً:

-   ثانيةً واحدة.. إنّكَ تستحقُّ مكافأةً سخيّة.

قال في هدوء:

-   إنّني متشوّقٌ لنيلِها.

تسمّرَتْ في مكانِها، ونَظرَتْ إليه بدهشة، فأزاحَ القبّعةَ التي أرخاها لتُخفِيَ ملامحَه، فاتضحَ أنّه هو.. ابتسمَ قائلا:

- مفاجأة.. أليسَ كذلك؟

احمرَّ وجهُها، وعقدَتِ الدهشةُ لسانَها لحظة، قبلَ أنْ تقولَ في دلالٍ مُتصنّعةً الغضب:

-   مَن منحَكَ الحقَّ لتدبّرَ لي هذه الخُدعة؟

-   حبّي لكَ يمنحُني كلَّ الحقوق.

والتفتَ إلى والدتِها قائلا:

-   حماتي: هل تُوافقينَ على أن تزوّجيني هذه الطفلةَ الشّقيّةَ الجميلة؟

قالتْ في دلالٍ جميل:

-   اسألْني أنا أوّلا.

-   لا.. لقد خرجِ الأمرُ مِن يدِك.. ثمَّ أتُنكرينَ أنّكِ كِدْتِ تُجنّينَ مِن شِدّةِ لهفتِكِ عليّ؟

-   [في دلال]: يا لكَ مِن مغرور!

-   شيءٌ طبيعيٌّ ما دُمتِ أنتِ ملكي.

-   إنّني لمْ أَعُدْ ملكَكَ.

-   لن يستمرَّ ذلكِ طويلا.

أطرقَتْ ووجهُها تصبغُه حمرةٌ وسعادة.
وأطلقَتْ والدتُها زغرودةً عالية.
*****
أرادَ أن يمنحَها العصمةَ فرفضَتْ، لأنَّ أجملَ ما كانت تتمنّاه، هو أن تضعَ مصيرَها كلَّه بين يديه.
وفى هذه المرةِ كانا أسعد.
لم تنتهِ الخلافاتُ بينَهما، ولكنّهما تعلّما، حتّى عندَما يختلفان، أن يختلفا في حب.
وهى تعلمّتْ شيئًا ظريفا: حينما يغضبُ منها لسببٍ ما، تسرعُ إلى العلبةِ المخمليّةِ التي تحتفظُ فيها ببطاقاتِه، فتختارُ واحدةً، وتذهبُ بها إليه، وتضعُها تحتَ عينيه في صمت.
ودائما لا يملِكُ إلا أن يبتسمَ ويحتوِيَها في ذراعيه في حنان.
أمّا هو، فحينما كانتْ تغضبُ منه، كان يكتبُ لها بطاقةَ اعتذارٍ جديدة، تُضيفُها لرصيدِ حبّهما.
*****
 محمد حمدي غانم
(11-14) / 5 / 2000



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر