المتابعون للمدونة

الخميس، 3 ديسمبر 2015

أجيال


أجيال

 


أسجل هنا بعض ذكرياتي، وفاءً وتقديرا للأستاذ جمال عبد الواحد، لكن ليس وحده، وإنما أتمثل فيه فضل كل أساتذتي الراحلين وعلى رأسهم:

-      أستاذ الأجيال: أ. أحمد الجمل.

-      أ. أحمد الشناوي

-      أ. فاروق هديهد.

-      أ. عبد الجليل حسان.

-      أ. وحيد حمودة.

-      أ. نجاة محيسن.

-      الشيخ مسعد شريشر.

رحمهم الله أجمعين وغفر لهم وأسكنهم فسيح جناته.

***

كان أبي رحمه الله أخصائيا اجتماعيا، وكان محبوبا من كل الطلبة رغم أنه لم يشرح لهم علما مدرسيا، لكنه كان يحل مشاكلهم، ويصحبهم في الرحلات والأنشطة الثقافية، وكان مرحا اجتماعيا يستطيع استيعابهم وتوجيههم.

استثناء:

كان أبي وهو طالب في المعهد العالي للخدمة الاجتماعية يتطوع بإعطاء مجموعات تقوية مجانية للطلبة في قرية الروضة (لم تكن قد صارت مدينة بعد).. في تلك الفترة كان المجتمع فقيرا والتعليم قويا، ومجرد دخول طالب الجامعة أو حتى معهدا كان يجعله أسطورة في مجتمعه الريفي، ويضع على كاهله أدوارا اجتماعية (بعد هذا صار العدد في الليمون، وانحدر مستوى التعليم، وصارت الشهادات بلا معنى).. بل إن أبي بعد تخرجه ظل لفترة يعطي دروسا في اللغة الإنجليزية!!.. تخيلوا أن خريج معهد عالي للخدمة الاجتماعية يعطي دروسا للغة الإنجليزية؟!.. قارنوا هذا بمستوى خريجي الجامعات اليوم في الإنجليزية بل العربية!.. ولكي تدركوا الفارق، أقول لكم إن أمي حفظها الله التي لم تحصل على أكثر من الشهادة الإعدادية (وتوظفت بها في الحكومة في الجمعية الاستهلاكية لعدة سنوات قبل أن تستقيل طوعا وتتفرغ لمهمتها الأساسية كربة بيت) كانت تذاكر معي اللغة الأنجليزية في المرحلة الإعدادية والثانوية، وتساعدني في حفظ هجاء الكلمات الأجنبية، وأكتبها أمامها على سبورة في البيت وتراجعها معي!.. ولا أنسى أفضالها في تعليمي القراءة والحساب وحفظ القرآن منذ المرحلة الابتدائية.. هكذا كانت الشهادة الإعدادية، حينما كان هناك تعليم!

والسؤال الذي حير جهابذة الاقتصاد: لماذا تضيع الدولة سبع سنوات إضافية (3 ثانوية + 4 جامعية) من أعمار مواطنيها ونقودها ونقودهم لتعينهم (إن عينتهم أصلا) في نفس الوظيفة التي عينت فيها أمي بالشهادة الإعدادية وكانت تقوم بها على أكمل وجه؟

***

كان الأستاذ جمال عبد الواحد رحمه الله تلميذا لأبي ثم زميلا له في مدرسة الروضة الثانوية، وكان يحب أبي رحمه الله ويذكره بالخير ويحمّلني السلام له كلما رآني بعد أن ترك أبي المدرسة للتوجيه ثم الإدارة ثم خرج على المعاش.

لم يكن الأستاذ جمال مُدّرسي في الفصل في أي سنة دراسية، لكني كنت آخذ عنده درسا خصوصيا منذ الصف الثاني الإعدادي وحتى نهاية المرحلة الثانوية، فتحولت على يديه من تلميذ يكره نصوص الشعر ويحفظ شرحها دون فهمها، إلى برعم شاعر نبت في الصف الثاني الثانوي.

وأتذكر أنه كان يركز في معظم الحصص على النحو والبلاغة ويُقلّ من شرح دروس القراءة، وهو ما يوحي بأنه كان يحمل روح شاعر، وأنه كان يتخيّر ما يستمتع به ليشرحه في الدروس الخصوصية، ويحيل الطلاب إلى ما يعطيه لهم من مذكرات وملخصات لباقي أجزاء المنهج.

ولا أذيع سرا أنه رحمه الله كان يرفض أن يأخذ مني أي نقود طوال خمس سنوات من الدروس الخصوصية، تكريما لوالدي.. (الحقيقة أن جميع مدرسيّ تقريبا فعلوا هذا إجلالا لوالدي، وأغلى ميراث تركه لي أبي رحمه الله هو محبوه، فهم يسهلون لي أمورا ويقدمون لي المساعدة والخدمات حبا وكرامة لوالدي).

وكان هذا فضلا إضافيا للأستاذ جمال، يجعلني لا أرفض له طلبا كلما احتاجني لإصلاح أي مشكلة في حاسوبه، وهذا أحد أسباب تواصل علاقتنا بعد المرحلة الثانوية، إضافة إلى أنه صار جارا لخالتي في بيته الجديد، وكنت أمر للسلام عليه في حجرة الدروس كلما ذهبت لزيارة خالتي، وكان يحتفي بي ويسعد للقائي.

وأذكر مرة أنه طلب مني الجلوس إلى أن ينهي حصة يشرحها لطالبات في الثانوية.. وكعادتي لم أرفع عيني تجاه طالبة منهن، فقال لي في مرة تالية وهو يضحك بأسلوبه المرح، إن إحدى الطالبات سألته مستاءة عن هذا الشخص الذي لم ينظر إليها ولو مرة واحدة (يبدو أنها كانت تظن نفسها جميلة!!).. فابتسمت وأوضحت له أنني لا أحب النظر إلى فتاة لا أريد منها شيئا!.. والحقيقة أنني أفقد شهيتي إذا جلست في محل حلويات.. ولا يلفت نظري إلى جمال فتاة إلا احتشامها وعقلها.. مؤكد أنني لو كنت سمعت من إحداهن ما يدل على نبوغها في اللغة العربية، لكانت قد لفتت انتباهي في الحال.. لكنّ هذا لم يحدث!

***

ورغم أن خبرة أ. جمال العروضية لم تكن كبيرة (فالتدريس لسنوات طويلة في المرحلتين الإعدادية والثانوية لا يتطرق إلى علم العروض)، فما زلت أذكر أنه أول من أعطاني فكرة عن أوزان الشعر وأنا في المرحلة الإعدادية.. كان يشرح قصيدة عن الربيع أذكر منها:

بَكَرْتُ إلى الرُّبَى أبغي شذا جناتها الخُضرِِ

على درّاجةٍ والشَّمسُ لم تَبرُزْ من الخِدْرِ

 وفي ثنايا الشرح وبصورة عابرة ذكر أ. جمال شيئا ما عن أن هذه القصيدة على وزن مفاعيلين، ودندنها مقطعة:

(بكرت إلرْ) (ربا أبغي) (شذا جنّا) (تِهَلْ خُضرِ)

(على درّا) (جَتِنْ وَشَّمْ) (س لم تبرز) (مِنَلْ خدرِ)

ورغم أني لم أفهم حينها ما هي مفاعيلن، فقد جذبتني النغمة، وسكنت داخلي.. وحينما شرعت في كتابة الشعر بعد هذا بسنوات صرت أدندن بهذا الوزن وأنغّم هذه القصيدة مقطّعة عليه محاولا محاكاتها حينما أكتب قصائدي، وكنت أنقر بأصابعي أو بقلم وأنا أكتب لأصنع إيقاعا أحاول محاكاته.. ورغم أن هذا لم يكن يفلح دائما بسبب تعثر البدايات ونقص الخبرة والمعلومات الأساسية عن موسيقى الشعر العربي، فقد كان تدريبا جيدا وجزءا من تراكم الخبرات.. لكنّ لي بالفعل بعض القصائد الموزونة كليا أو جزئيا في المرحلة الثانوية.

وذات مرة وأنا في المرحلة الجامعية اتصل بي الأستاذ جمال لأساعده في تقرير عروضي.. كانت طالبة من طالباته السابقات قد صارت في الجامعة وتريد منه أن يساعدها في تحليل قصيدة عروضيا، ولم تكن تفقه في الأمر شيئا.. وكان أ. جمال يعرف أنني كتبت مع م. محمد جلال برنامجا اسمه الشاعر لتحليل أوزان الشعر، وفيه خاصية كتابة تقرير عروضي عن القصيدة، فذهبت إليه وجلسنا ندخل القصيدة للبرنامج مع الحد الأدنى المطلوب من تشكيل أحرفها، وأخرجت له التقرير المطلوب.

طبعا لم أكن لأرفض له طلبا، مع أني حتى اليوم أرفض كل طلب يأتيني من طالب يدرس اللغة العربية أو البرمجة يريد مني أن أقوم بدوره في تحليل قصيدة أو كتابة برنامج، وأرفض وبغضب شديد كل طلب يأتيني للمساعدة في مشروع تخرج أو دراسات عليا يتضمن كتابة البرامج مقابل نقود.. أستطيع أن أساعد بإجابة بعض الأسئلة وتوجيه الطالب أو الباحث إلى مصادر التعلم، لكن أن أكون وسيلته في الغش والكسل والنجاح بلا استحقاق، فهذا أرفضه تماما.

***

ومن طرائف الأستاذ جمال الحاسوبية، أنه كان يتصل بي مستغيثا من أن الجهاز "يُهَدِّج" بتعطيش الجيم.. وهي عبارة كانت تصيب كل من يسمعها بالهلع، وهو لا يدري ماهية هذا التهديج بالضبط!

كنا نحن نستخدم مصطلح "يُهنِّج" المأخوذ من كلمة Hang التي تعني أن الجهاز عالق، وذلك حينما يتوقف نظام الويندوز فجأة عن الاستجابة.. لكن حس الأستاذ جمال اللغوي كان يجعله ينطقها يُهدِّج.. والهَدْج في لغة العرب هو مشية الشيخ الضعيف، وتهدّجَ الصوتُ أي تَقطّع.. فكأن الحاسوب تتقطع أنفاسه وخطواته كالعجوز، ويستجيب للمستخدم ببطء وبشكل متقطع.. أرى أنه تعريب رائع ومناسب ويستحق مكانه في المعاجم الحديثة، نحته أستاذي عفو الخاطر!

***

وحينما طبعت ديوان "انتهاك حدود اللحظة" عام 2010 كان أول من أهديته نسخة منه، فكان يفخر بأن تلميذه صار شاعرا، ويذكر لي تلميذة أخرى له صارت صحفية، وأنها رغم أنها تعيش في الإسكندرية ما زالت تراسله وتقر بفضله (للأسف نسيت اسمها).. وكان مما قاله عن الديوان إنه مليء بتجارب شعرية مختلفة ومتميزة، خاصة الغزلية، فقلت له إنها منتقاة من أشعاري عبر 15 عاما، وقد حرصت على اختيارها منوعة.. وأضفت ضاحكا إن أجمل الشعر أكذبه، وإنني بارع في الغزل فقط على الورق دون أي خبرات عملية.

***

وكان أ. جمال عفيفا محترما، يعامل الطابات كأنهن بناته.. ولا أعرف عنه أنه كان يقبل الدروس الخصوصية في المنازل، لكنه حكي له مرة باستياء أنه كان يشرح لطالبة من فارسكور في بيتها، وأظهرت أمامه بعض الميوعة، فلقنها درسا لن تنساه.. وكان ساخطا جدا من تدهور المستوى الأخلاقي للأجيال بتأثير الأفلام الكورية والمكسيكية وما إلى ذلك.

***

ومن الغرائب في حياة أستاذ جمال أنه ظل مدرسا للغة العربية في نفس المدرسة حتى وفاته، ولم ينتقل للتوجيه.. لكن رغم هذا، فقد عمل لفترة أستاذا في كلية التربية بدمياط منذ عدة سنوات، بسبب عجز في أساتذة الجامعة حينها، فطلبوا مدرسين أوائل من المرحلة الثانوية، وكان جديرا بها وبما هو أرفع.. وكان يحكي لي عن إعجاب الطلبة به، ومناداتهم له بلقب "دكتور".

***

الحقيقة أن ذكرياتي مع أ. جمال تجلّ عن الحصر، وطرائفها لا تنتهي، فقد كان رحمه الله خفيف الظل متبسطا مع طلابه.

وقد تعلّمت منه الكثير، واختلفت معه في الآراء أحيانا، حتى إنه لامني مرة منذ ثلاث سنوات على رأي لي، فقلت له:

- صحيح أنك أستاذي وأنني أقدرك كل التقدير، لكن لا يعني هذا أن تكون دائما على حق، أو أن تحجر على آرائي.. من حقي أن أختلف معك أستاذي.

***

رحل الاستاذ جمال بسرعة، وبصورة مفاجئة..

رحل ولكنه ترك لي من تلك المرحلة زميلي الدراسة والصديقين العزيزين م. محمد جلال أبو الرجال (أخو زوجته) و أ. محمد محمد عبد الواحد (ابن أخته)، وكذلك أ. إبراهيم محمد عبد الواحد (ابن أخته وأخو محمد)، وهو يكبرنا بثلاث سنوات، لكني استمتعت بصحبته في المدينة الجامعية في آخر عام له بكلية دار العلوم، وكنت أسمعه أشعاري الساذجة حينها فيشجعني، وهو الآن يواصل مشوار أ. جمال في تعليم اللغة العربية للأجيال الجديدة.. حفظهم الله ورعاهم، وأدام ما بيننا من ود.

كما أدعو الله لمحمد جمال عبد الواحد أن يكون خير خلف لوالده، وأن يوفقه في حياته.. وله أُهدي هذا الإطار تعبيرا رمزيا عن وفائي لأبيه وعرفاني بأفضاله وتقديري لكل ما علّمنيه.

إن الوفاء قيمة غير سبورية، نكتسبه بالمعايشة وليس من محفوظات مواضيع التعبير.. وهذه مجرد لمحة من الوفاء الذي تعلمته من أستاذي الراحل أ. جمال عبد الواحد رحمه الله وغفر له.

 

ملحوظة:

لمن لم يقرأ القصيدة الموجودة في الصورة، الأفضل قراءتها صيغتها النصية:


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر