(2/5)
عزيزتي (رباب):
كنتُ قد ظننتُ أنَّي قد ذقتُ من الآلامِ ما حصّنني ضدَّ أيِّ ألم.
ولكنّي كنتُ واهمة.. كان هناكِ المزيد!
لقد صارحني (إيهاب) بإعجابِه بي.
كانَ من المفروضِ أن يُسعدَني هذا.
كان من المفروضِ أن تمتزجَ سعادتي بالخجلِ، ويتلوّنَ وجهي بأزهـارِ الربيعِ، وأنا أهربُ منه بعينيّ.
و لكنَّ العكسَ هو ما حدث:
ملأتِ المرارةُ قلبي، وفردَ خفاشُ الحزنِ جناحيه على روحي، وسالتِ الدموعُ من عينيّ.
ولكنّه لم يندهش.
كانَ يعرفُ حقيقةَ مرضي.
(هبةُ) سامحها اللهُ أخبرتْه بكلِّ شيء.
قالَ كلامًا كثيرًا عن تمسّكِه بي أكثر، وأنَّ الأعمـارَ بيدِ اللهِ، وأن كثيـرًا من العرائسِ يقضينَ في ليلةِ العُرسِ وهنَّ في أتمِّ العافية، وأنَّ اقتناصَ لحظةِ سعادةٍ واحدةٍ في حياةٍ تمورُ بالآلامِ، لهو هدفٌ كافٍ في حدِّ ذاتِه يستحقُّ المغامرةَ، و.. و.. و....
إنّه لا يعرفُ شيئًا اسمُه اليأسُ حقًا!
وهذا هو أكبرُ عيوبِه!
كلُّ ما سيجلبُه لنفسِه هو المزيدُ من الأمل.. والألم.
سيراهنُ على الحصانِ الخاسر.
وماذا ستكونُ النتيجة؟
سيجعلنُي أتعلّقُ بالحياةِ من جديدٍ لأنّه فيها، وسيضاعفُ آلامي ـ إن لم يكُن قد فعل ـ أضعافًا مهولة.
وأقصى ما سيحصلُ عليه ـ إن حصلَ عليه ـ بعدَ سنواتٍ من الدراسةِ وعراكِ الحياةِ، هو زوجةٌ مريضةٌ، تتركُ له طفلا هزيلا، وتركةً من الذكرياتِ المؤلمةِ التي لا تنتهي.
إنّ هذا ظلمٌ بيّن، إن ارتضاه هو لنفسِه، لم أكنْ أنا لأرتضيَه له.
لهذا طلبتُُ منه أن يبتعدَ عنّي وهربتُ منه وأنا أتعثّرُ في دموعي.
ومن يومِها لم أذهبْ إلى الجامعة، ولن أذهبَ إليها إلا في فترةِ الامتحان.
هذا الموضوعُ منتهٍ بالنسبةِ لي.
خيرٌ له أن يتألّمَ لفقدي الآنَ وما زلتُ طيفًا يداعبُ خيالَه، عن أن يقتطعَني الموتُ وقد صرتُ جزءًا منه.
وهذا هو قراري الأخير، فأرجوكِ لا تراجعيني فيه.
صديقتُكِ المعذّبة (عزّة)
***
عزيزتي (رباب):
شارفَ عامٌ على الانقضاءِ وما زلتِ تُلحفينَ في السؤالِ عن (إيهاب).
لماذا لا تصدقينَ أنَّ هذا الأمرَ قد حُسمَ منذُ زمن؟
وأنتِ في غنىً عن أن أذكرَ لكِ كم هو مؤلمٌ، أن أراه ما زالَ يُطاردُني بنظراتِه الحزينةِ حتّى الآن، ولا كم هو مُجَهدٌ قلبي الذي يهفو إليه بلا أمل.
أشعـرُ كأنّني ظمأى على ضفّةِ غديرٍ صافٍ، جائعةٌ على مائدةٍ حافـلةٍ بأطايبِ الطعام، خائفةٌ في ليلِ الذئابِ، لا أستطيعُ الاستنجادَ وفـارسي عن كثب.. مفردةٌ ضدَّ الحزنِ، وحيدةٌ وسْطَ من أهوى، عاشقةٌ بلا أمل.
أرجوكِ نحّي عنا هذا الأمرَ فهو مثارُ شجونٍ، وهي لا تنقصُني.
لعلّكِ تعرفينَ أنَّ (شريفَ) الآنَ في الثانويّةِ العامّة، وأنّي أحاولُ جاهدةً أن أوفّرَ له الجوَّ المثاليَّ الذي يُساعدُه على التركيزِ والاستذكار.
فدعيني أرجوكِ أؤدّي هذه المهّمةَ بنفسٍ مستقرّة.
اعتني بنفسِكِ جيدًا.
(عزة)
***
عزيزتي (رباب):
تحرّرتُ أخيرًا من الألم.
إنَّ سكينةً عميقةً تسكنُني، وراحةً لذيذةً تغمرُ روحي، كأنَّ أجنحةَ الملائكةِ تحفُّها.
كلُّ الأطبّاءِ حمقى.. كانَ العلاجُ أمامي منذُ البدايةِ وتغافـلتُ عنه.
توجّهتُ إلى اللهِ بقلبٍ صافٍ وأخلصتُ له العبادة.
وكلّما سجدتُ اقتربت.
ماذا يفعلُ الألمُ إذن أمامَ مثلِ هذه الروعة؟
ما انفككتِ تسألينني عن (إيهاب).
الآنَ أنا أحبُّ اللهَ فقط، ولا أفكّرُ في (إيهابَ) أو في سواه.
بل لا أفكّرُ في الزواجِ كلّيّةً.
فبخلافِ أنّي لا أصلحُ له، أفكّرُ أن أعيشَ ما تبقّى من حياتي كالراهبات، أنتظرُ اللحظةَ التي ألتقي فيها باللهِ سبحانَه.
دعكِ منّي الآنَ وأخبريني كيفَ حالُ مذاكرتِك؟
انتبهي جيّدًا، فمقدارُ الجهدِ الذي ستبذلينه هذا العامَ، سيُحدّدُ الكلّيّةَ التي ستلتحقينَ بها.
مع تمنياتي بالتوفيق.
(عزّة)
***
عزيزتي (رباب):
تساءلتِ بسعادةٍ بالغةٍ، عن سببِ ازديادِ معدّلِ خطاباتي لكِ في الشهورِ الماضية، وعن نبرةِ الأملِ التي تفوحُ من ثناياها.
لا أكتمُكِ سرًّا أنّي أكتبُ لكِ يوميًّا تقريبًا، وإن لم أكن أرسلُ إليكِ كلَّ الذي أكتبُه!
أمّا عن نبرةِ الأملِ التي تتحدّثينَ عنها، فقد علّلتُها لك من قبل:
لقد عرفتُ طريقي أيتها العزيزة.. منذُ فترةٍ وأنا أعيـشُ في معيّةِ الله، وكلما أوغلتُ في العبادةِ تمكّنَتِ الراحةُ من قلبي.
هكذا أردُّ على فقراتِ خطابِكِ تباعًا، ووددتُ لو ابتدرتُكِ بالتهنئة، إلا أنّكِ أخّرتِ نبأَ نجاحِكِ بذلكِ المجموعِ الرائعِ، فآثرتُ أن أعاقبَكِ بالمثل!
تتساءلينَ أيضًا لماذا لم أعدْ أذكرُ لكِ من أخبارِ أخي (شريف) كما هي عادتي، بل وتدّعينَ أنّي لم أذكرْ لكِ حتّى بأيِّ كلّيّةٍ التحق!
لا أدري!.. ظننتُ أنّني قد أخبرتُك!
إنَّ (شريف) لا يغـيبُ عن بالي قط، وأنتِ نعمَ من يعرفُ، أنّي وهو كِيانٌ واحد، لا يفرّقُنا حتّى الموتُ ذاتُه!
عمومًا، إنّه يدرسُ الآنَ في كليّةِ (دارِ العلوم).
ثمَّ يبدو أنَّ النسيانَ ليسَ من شيمي وحدي، فأنتِ إلى الآنِ لم تذكري لي على أيِّ كلّيّةٍ انتويت!
وختامًا أرجو أن تقبلي منّى هذه الهديّةَ المتواضعة.
(عزة)
***
عزيزتي (رباب):
أشعـرُ بتهيّبٍ غيرِ يسير، ربّما تلمَسـينه في رعشةِ خطّي وأنا أكتبُ لكِ هذه الكلمات.
هل ستزورينَ (مصرَ) بصحبةِ والدِكِ حقًّا، أم أنّها دعابةٌ من دعاباتِكِ الظريفة؟
لكم تمنينا أن نتلاقى، وقد ربطتنا صداقةُ الورقِ لأكثرَ من خمسِ سنوات.
يا إلهي!.. أشعرُ بالكثيرِ من الإثارة!
لكم أتوقُ إلى هذا اللقاء!
في انتظارِكِ على أحرِّ من الجمر.
(عزة)
***