أشياء لا يبددها الزمن
(5/5)
ألقتْ عليه السلامَ فأجابَه والتفت.
التقتْ عيناه بعينيْ (رباب)، التي تمتمت:
- أستاذ (إيهاب)؟
- هل تعرفينني؟
- رأيتُكَ بالأمسِ في نفسِ هذا المكان.
- [التفتَ إلى القبرِ في حزن]: أحضرُ أنّى استطعت.
والتقطَ الزهرةَ التي وضعَها على القبرِ بالأمسِ، وقد نالَ الذبولُ من نضارتِها، فمسَّ وريقاتِها برقّة، وهمس:
- زهرةٌ تذبلُ تلوَ أخرى.
- [التقطت بدورِها الزهرةَ التي وضعتْها بالأمسِ]: هناكَ دومًا المزيدُ من الأزهار.
- والمزيدُ من الحزن.
- هل تحزنُكَ زهرةٌ تذبُل؟
- حينما لا يقبلُها من أهوى.
- و من أدراكَ أنّه لم يقبلْها؟
- لقد ذبلَت.
- حتّى لو قبِلها فستذبُل.
- لقد رفضَ واحدةً لا تذبلُ أبدًا.
- هل قالَ لا؟
- أبى أساسًا أن يسمعَني.
- و من أدراكَ أنّه أبى؟
- إنّه لا يجيب.
- لا ينفي هذا أنّه استمع.
- ولا ينفي أنّه أعرضْ.
- أوَ فعل؟
- ألا ترينَ حزني؟
- أوكّدُ لكَ أنّكَ واهم.
- لا أحدَ يتوهّمُ الحزن!
- يتوهّمُ ما يجلبُه.
- لا بدَّ أنَّ هناكِ ما دعَّه إلى ذلكِ دعّا.
- أو هناكَ ما لم يرَه.
- لم يرَ أفقَه في ضبابِ عينيها.
- الضبابُ سببتْه الدموع.
- و ما سَبَّبَ الدموع؟
- أنت؟
- أنا؟
- نعم.
- كانت تكرهُني إلى هذه الدرجة؟
- كانت يبرّحُها حبُّكَ إلى هذه الدرجة.
- و من أدراكِ؟
أخرجتْ من حقيبتِها مجموعةً من الخطاباتِ، قلّبتْ فيها لحظةً، قبلَ أن تنتزعَ ثلاثةً منها وتقدّمَها إليه في صمت.
نظرَ لها بتساؤلٍ، فدفعتِ الخطاباتِ إلى يدِه تستحثُّه ليأخذَها.
أخذَ الخطاباتِ وشرعَ يَجري فوقَ سطورِها بعينيه.
وراقبتْ (رباب) وجهَه بينما يقرأ.
بدا لها وجهُه مرآةً، قرأتْ عليها انعكاسَ الكلماتِ التي يقرؤها.
وببطءٍ نبتتْ في عينيه دمعاتٌ.. وببطءٍ أخذتْ في النموّ.
وما إن انتهى، حتّى رفعَ إليها عينيه يسألُها بصوتٍ مختنق:
- من أينَ حصلتِ على هذه الخطابات؟
- هي أرسلتْها إليّ.
- كنتما صديقتين؟
- لأكثرَ من خمسِ سنوات.
- [بمرارة]: إذا كانت قد شعرَتْ تجاهي بمثلِ هذه المشاعرِ، فلماذا أبدتْ لي نقيضَها؟
- [بإشفاق]: خافتْ أن يُعذّبَكَ فِراقُها؟
- [بتهكّم حزين]: أو لم يفعل؟
- هكذا كانت تحبُّك.
- فليسامحْها الله.. لقد آلمتني ألمينِ أيّهما أبلغُ من آخَـرِه: ألمَ الصـدِّ وألمَ الفِراق.
هاجَ عذابُه حزنَها، فسالَ المزيدُ من دموعِها، دونَ أن تجدَ ما تقول.
وابتسمَ (إيهاب) ابتسامةً باهتةً وتمتم:
- على كلِّ حالٍ أشكرُك.. لكم أراحني كثيرًا أن أعرفَ، أنّها كانت تحملُ لي، بعضَ ما أحملُه لها من المشاعرِ النبيلة.
غمغمتْ بأحرفٍ بلا معنى، وصمت لحظة.. سألها برجاء:
- هل.. يُمكنُني الاحتفاظُ بهذه الخطابات؟
- آ.. بالتأكيد.. إنَّ معي أصولَها.
- [بامتنان]: أشكرُك.. أشكرُكِ كثيرًا.
- لا مُوجبَ لهذا.
التفتَ إلى المقبرةِ، وسكنَ لحظةً، ثمّ غمغمَ بصوتٍ اختلطَ فيه الحزنُ بالحنان:
- أما أنتِ يا جُرحي الحبيب، فلي معكِ عتابٌ طويل.
ووضعَ زهرةً ناضرةً على القبر، وغرقَ في شرودِه، حتّى إنَّ (رباب) التي اغرورقتْ عيناها بالدموع، انسحبتْ دونَ أن يشعرَ بها.
***
قبلَ أن تميلَ الشمسُ إلى الغروب، هبطَ عصفورٌ من عصافيرِ الجنّةِ، وحملَ في منقارِه زهرةً ناضرةً موضوعةً بعنايةٍ على شاهدِ قبرٍ، وحلقَ بها عاليا، حتى اختفى في الأفق.
***
قالت لـ (شريف)، وهما يجلسانِ في أوّلِ مكانٍٍ التقيا به:
- لقد أنهى أبي أعمالَه، وسنسافرُ غدًا.
- لقد قلتِ إنّكِ ستمكثينَ أسبوعًا!
- لكم أودّ!.. على الأقلِّ حتّى أبقى بقربِها.
- هي أيضًا تودُّ أن تبقَيْ بقربِها.
- كأنّكَ تتحدّثُ بلسانِها!
- إنّها تسكنُني.
- [ترددتْ لحظة]: هل أتجاسرُ وأطلبُ منكَ خدمة؟
- مريني.
- أريدُ أن أرسلَ لها خطاباتي كما اعتدنا دومًا.. هل ستوصلُها إليها؟
- [سرى على ملامحِه شبحُ ابتسامة]: لطلبتُه لو لم تفعلي.
- [بارتياح]: أشكرُك.
- هناكِ طريقةٌ لهذا.
- مُرني.
- هي أيضًا ما زالَ لديها ما تقولُه لك.
- [مبتسمةً]: لطلبتُه لو لم تفعل!
ثمَّ أخرجت مظروفَ الخطاباتِ الذي سلّمه لها من قبلُ، وقدّمتْه إليه متمتمةً:
- أعتقدُ أنَّ هذه الخطاباتِ تخصُّ (عزة).
التقطَ (شريف) المظروفَ منها، وهو يشعرُ حيالَها بامتنانٍ عميق.. تمتم:
- أشكرُك.. لا تعرفينَ كم هي عزيزةٌ هذه الخطابات.
- بل أعرف.
وتبادلا نظرةً باسمةً مبلّلةً بالدمع.
***
بينما وقفَ (شريف) يُراقـبُ طائـرتَها تبتعد، خيّلَ إلى (رباب) وهي ترمقُ السحبَ عبرَ النافذة، أنَّ عصفورًا بعيدًا يلوحُ على الأفق، وكأنّه يحملُ في منقارِه زهرةً ناضرة.
***
عزيزتي (رباب):
ما زالَ نسيمُ زيارتِك يُعبّقُ روحي.
الآنَ تأكّدنا ممّا قلناه دومًا.
نعم يا عزيزتي: إنَّ شيئًا ـ حتّى الموتَ ـ ما كانَ له أن يُفرّقَنا.
سمعتُ كلَّ كلماتِكِ، وآنستني صحبتُك، وارتاحتْ روحي لقربِك.
صحيحٌ أنَّها كانت زيارةً قصيرة، وليتها طالت، وليتها تتكرّر.
و لكنَّكِ تركتِ فيها من لمساتِكِ الرقيقةِ ما سيبقى على الدهر.
أشكـرُكِ لموقفِكِ من (إيهاب).
لكم آلمني حزنُه، وما كنتُ أظنُّه بمثلِ هذا الوفاء.. ليته لا يكون!
أمّا موقفي أنا فما زالَ كما هو: أتمنّى أن تسلبَني الحياةُ منه، ويرتاحَ الحزنُ في قلبِه، في ركنٍ هادئٍ من أركانِ الذكرياتِ الشجيّة.
أخي (شريف) يُقرؤكِ السلام.
لكم آنسَه في وحدتِه الطويلةِ، وجودُكِ العابرُ الماثل.
ما انفكّ يحدّثُني عنكِ كثيرًا، ولهجتُه تحملُ الكثيرَ من الإعزاز.
لا أوصيكِ به خيرًا.
طمئنينا عليكِ باستمرار.
وإليكِ منا أجملُ السلام.
صديقتُك إلى الأبد: (عزة)
***
محمد حمدي غانم
(24/2 ـ 1/3)/2002
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.