الفيمينزم: التمركز حول الأنثى
من مقال للراحل العظيم د. (عبد الوهاب المسيري) بتصرف،
نقلا عن أحد كتاب المنتديات
عندما ظهر مصطلح فيمينزم (Feminism) وتمت ترجمته إلى "النسوية" أو "النسوانية" أو "الأنثوية"، وهي ترجمة حرفيّة لا تُسمن ولا تغني من جوع، ولا تُفصح عن أي مفهوم كامن وراء المصطلح.
وقد يكون من المفيد أن نحاول أن نحدد البعد الكلي والنهائي لهذا المصطلح، حتى ندرك معناه المركّب والحقيقي.. ولإنجاز هذا لا بد أن نضع المصطلح في سياق أوسع، ألا وهو ما نسميه "نظرية الحقوق الجديدة".
فكثير من الحركات التحررية في الغرب، تختلف عن الحركات التحررية القديمة التي تصدر عن الرؤية Humanist المتمركزة حول الإنسان، في مراحل العلمنة الأولى التي انتقلت فيها القداسة واللمحة الغيبية من الله للإنسان، وكانت لا تزال تحمل آثار الولاء المسيحي الديني.
أما الحركات الجديدة فتؤكد فكرة الصراع بشكل متطرف، فكل شيء ما هو إلا تعبير عن موازين القوى وثمرة الصراع المستمر، والإنسان هو مجرد كائن طبيعي/مادي يمكن رده إلى الطبيعة المادية، ويمكن مساواته بالكائنات الطبيعية.. وبالفعل يتم مساواة الإنسان بالحيوان والنباتات والأشياء، ومن ثَمّ تظهر حالة من عدم التحديد والسيولة والتعددية المفرطة.
وفي هذا الإطار يمكن أن يخضع كلّ شيء للتجريب المستمر خارج أي حدود أو مفاهيم مسبّقة (حتى لو كانت إنسانيتنا المشتركة التي تحققت تاريخيًّا)، ويبدأ البحث عن أشكال جديدة للعلاقات بين البشر لا تهتدي بتجارب الإنسان التاريخية، وكأن عقل الإنسان بالفعل صفحة مادية بيضاء، وكأنه لا يحمل عبء وعيه الإنساني التاريخي، وكأنه آدم قبل لحظة الخلق، قبل أن ينفخ الله فيه من روحه، فهو قطعة من الطين يمكن أن تصاغ بأي شكل، لا فارق بينها وبين أي عنصر طبيعيّ ماديّ آخر.
والحديث المتواتر والمتوتر عن "حقوق الإنسان" مثال على ذلك، فالإنسان الذي يتحدثون عن حقوقه هو وحدة مستقلة بسيطة كمّيّة، أحادية البُعد، غير اجتماعية وغير حضارية، لا علاقة لها بأسرة أو مجتمع أو دولة أو مرجعية تاريخية أو أخلاقية.. هو مجموعة من الحاجات (المادية) البسيطة المجرّدة.
فالفرد إن هو إلا إنسان طبيعي/مادي، وإفراز مباشر لمفهوم العقد الاجتماعي البورجوازي، الذي يرى أسبقية الفرد الطبيعي على المجتمع غير الطبيعي، وهو العقد الذي تحول في منتصف القرن التاسع عشر إلى العقد غير الاجتماعي الدارويني، الذي يفترض حرب الجميع ضد الجميع.. (كما تنبأ فيلسوف البورجوازية الأكبر (توماس هوبز) في عصر النهضة).
هذه الأفكار تشكل الإطار الحقيقي لحركة الفيمينزم التي ظهرت مؤخرًا في المغرب.
من تحرير المرأة.. للنسوية:
لقد ظن البعض أن مصطلح "فيمينزم" هذا مجرد تنويع على مصطلح "Women's Liberation Movement" الذي يُترجم عادةً إلى "حركة تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها".. ولذا حل المصطلح الجديد تدريجيًّا محل المصطلح القديم، وكأنهما مترادفان أو متقاربان في المعنى، وكأن المصطلح الجديد لا يختلف عن القديم إلا في أنه أكثر شمولا أو أكثر راديكالية.
ولكننا لو دققنا النظر لوجدنا أن المصطلح الجديد مختلف تمام الاختلاف عن مدلولات حركة تحرير المرأة.
كان الإنسان من منظور "حركة تحرير المرأة" كيانًا حضاريًّا مستقلا عن عالم المادة، لا يمكنه أن يوجد إلا داخل المجتمع، ولذا لا يمكن مساواته بالظواهر المادية.. ولذا فهي حركة تهدف إلى تحقيق قدر من العدالة داخل المجتمع (لا تحقيق مساواة مستحيلة خارجه) بحيث تنال المرأة ما يطمح إليه أي إنسان (رجلا كان أم امرأة) من تحقيق لذاته والحصول على مكافآت عادلة (مادية أو معنوية) لما يقدم من عمل.
وعادة ما تطالب حركات تحرير المرأة بأن تحصل على حقوقها كاملة:
سياسية: حق المرأة في الانتخابات والمشاركة في السلطة. ((كأنّ هذا حقّا من حقوقها!!!!))
اجتماعية: حق المرأة في الطلاق وفي حضانة الأطفال.
اقتصادية: مساواة المرأة في الأجور مع الرجل. ((إذا سلمنا بحقّ المرأة في العمل المؤسسيّ بعيدا عن بيتها ودورها الأساسيّ أصلا!!!)
ولذا تأخذ حركة تحرير المرأة بكثير من المفاهيم الإنسانية المستقرة الخاصة بأدوار المرأة في المجتمع، وأهمها بطبيعة الحال، دورها كأم.. ولذا يتحرك برنامج حركة تحرير المرأة داخل إطار من المفاهيم الإنسانية المشتركة، التي صاحبت الإنسان عبر تاريخه الإنساني، مثل: مفهوم الأسرة التي يحتمي بها الإنسان ويحقق من خلالها جوهره الإنسانيّ، ويكتسب داخل إطارها هويته الحضارية والأخلاقية.. ومثل: مفهوم المرأة باعتبارها العمود الفقري للأسرة.. ولا تطرح أفكارًا مستحيلة ولا تنزلق في التجريب اللانهائي المستمر الذي لا يستند إلى نقطة بدء ولا تحده أية حدود أو قيود إنسانية أو تاريخية أو أخلاقية.
هذا هو الإطار الحضاري والمعرفيّ "لحركة تحرير المرأة"، وهذه هي بعض ثوابتها.. وقد كان هذا هو أيضًا الإطار الأساسي لحركات التحرّر في الغرب حتى منتصف الستينيات.
ولكنّ الحضارة الغربية دخلت عليها تطورات غيّرت من توجهها وبنيتها، إذ تصاعدت معدلات الترشيد والعلمنة المادية للمجتمع، أي إعادة صياغته وصياغة الإنسان ذاته في ضوء معايير المنفعة المادية والجدوى الاقتصادية، الأمر الذي أدى إلى تزايد هيمنة القيم البرّانيّة المادية مثل:
* الكفاءة في العمل وفي الحياة العامة مع إهمال الحياة الخاصة.
* والاهتمام بدور المرأة العاملة (البرّانية) مع إهمال دور المرأة الأم (الجوّانية).
* والاهتمام بالإنتاجية على حساب القيم الأخلاقية والاجتماعية الأساسية (مثل تماسك الأسرة وضرورة توفير الطمأنينة للأطفال).
* واقتحام الدولة ووسائل الإعلام وقطاع اللذة لمجال الحياة الخاصة.
* وإسقاط أهمية الإحساس بالأمن النفسي الداخلي.
* وإسقاط أهمية فكرة المعنى باعتبارها فكرة ليست كمّية أو مادية.
وقد بلغ الترشيد (في الإطار الماديّ) درجة عالية من الشمول وتغلغل في كل جوانب الحياة العامة والخاصة، حتى أصبح العمل الإنساني labour هو العمل الذي يقوم به المرء نظير أجر نقديّ محسوب (كم محدد) خاضع لقوانين العرض والطلب، على أن يؤديه في رقعة الحياة العامة أو يصب فيه في نهاية الأمر.
وهذا التعريف يستبعد بطبيعة الحال الأمومة وتنشئة الأطفال وغيرها من الأعمال المنزلية.. فمثل هذه الأعمال لا يمكن حسابها بدقة، ولا يمكن أن تنال عليها الأنثى أجرًا نقديًّا ولا يمكن لأحد مراقبتها أثناء أدائها، فهي تؤديها في رقعة الحياة الخاصة، رغم أنها تستوعب جُل أو كلّ حياتها واهتمامها إن أرادت أن تؤديها بأمانة.
وكان من تطرّف المادية محاولة تقويم هذا العمل والمطالبة له بأجر مادي بدلا من سحب قيم العطاء والأمومة والرعاية على العام وجعله أكثر إنسانية.
وهكذا تغلغلت المرجعية المادية (بتركيزها على الكمي والبراني)
وتراجعت المرجعية الإنسانية (بتركيزها على الكيفي والجواني)، وتراجع البُعد الإنساني الاجتماعيّ.. أي أنه تم تفكيك الإنسان تمامًا وتحويله من الإنسان المنفصل عن الطبيعة إلى الإنسان الطبيعي المادي، الذي يتّحد بها ويذوب فيها ويستمد معياريته منها، فيفقد الدالّ ـ الإنسان ـ مدلوله الحقيقي، ويحل الكم محل الكيف والثمن محل القيمة.
ونحن نذهب إلى أن حركة الفيمينزم ـ التي نترجمها بـ "حركة التمركز حول الأنثى" ـ هي تعبير عن هذا التحول ذاته.
"التمركز حول الأنثى":
تؤكد حركة التمركز حول الأنثى في أحد جوانبها، الفوارق العميقة بين الرجل والمرأة، وتصدر عن رؤية واحدية إمبريالية وثنائية الأنا والآخر الصلبة، كأنه لا توجد مرجعية مشتركة بينهما، وكأنه لا توجد إنسانية جوهرية مشتركة تجمع بينهما.. ولذا فدور المرأة كأمّ ليس أمرًا مهمًّا، ومؤسسة الأسرة عبء لا يُطاق!!
فالمرأة متمركزة حول ذاتها، تشير إلى ذاتها، مكتفية بذاتها، تود "اكتشاف" ذاتها و"تحقيقها" خارج أي إطار اجتماعي، في حالة صراع كوني أزلي مع الرجل، وكأنها الشعب المختار في مواجهة الأغيار.. أي أنه بدأت عملية تفكيك تدريجية لمقولة المرأة كما تم تعريفها عبر التاريخ الإنساني وفي إطار المرجعية الإنسانية، لتحل محلها مقولة جديدة تمامًا تسمى "المرأة" أيضًا، ولكنها مختلفة في جوهرها عن سابقتها، ومن ثم تتحول حركة "التمركز حول الأنثى" من حركة تدور حول فكرة الحقوق الاجتماعية والإنسانية للمرأة إلى حركة تدور حول "فكرة الهُويّة"، ومن رؤية خاصة بحقوق المرأة في المجتمع الإنساني إلى رؤية معرفية شاملة تختصّ بقضايا مثل دور المرأة في التاريخ والدلالة الأنثوية للرموز التي يستخدمها الإنسان.
وإذا كانت حركة تحرير المرأة قد دارت حول قضية تحقيق العدالة للمرأة داخل المجتمع، فإن حركة "التمركز حول الأنثى" تقف على النقيض من ذلك، فهي تصدر عن مفهوم صراعيّ للعالم، حيث تتمركز الأنثى على ذاتها، ويصبح تاريخ الحضارة البشرية هو تاريخ الصراع بين الرجل والمرأة وهيمنة الذكر على الأنثى ومحاولتها التحرر من هذه الهيمنة!!
ينادي دعاة (التمركز حول الأنثى) بالتجريب الدائم والمستمر، ويطرحون برنامجًا ثوريًّا يدعو إلى إعادة صياغة كل شيء: التاريخ واللغة والرموز، بل الطبيعة البشرية ذاتها كما تحققت عبر التاريخ، وكما تبدت في مؤسسات تاريخية، وكما تجلت في أعمال فنية.. فهذا التحقق والتجلي إن هو إلا انحراف عن مسار التاريخ الحقيقي!!
بل أعيد تسمية التاريخ.. فهو بالإنجليزية History التي وجد بعض الأذكياء أنها تعني "قصته" his-story فتقرر تغيير اسم التاريخ ليصبح قصتها Her-story!
فلا حب ولا تراحم ولا إنسانية مشتركة، بل صراع شرس لا يختلف ـ إلا من ناحية التفاصيل ـ عن الصراع بين الطبقات عند ماركس، أو الصراع بين الأنواع والأجناس عند داروين، أو الصراع بين الجنس الأبيض والأجناس "المتخلفة" الأخرى حسب التصور العنصري الإمبريالي الغربي.
وتصل هذه الرؤية قمتها (أو هُويّتها) حينما تقرر الأنثى أن تدير ظهرها للآخر ـ الذكر ـ تمامًا، فهي مرجعية ذاتها وموضع الحلول ولا تشير إلا إلى ذاتها، فهي سوبرومان superwoman، ولذا تعلن استقلالها الكامل عنه، وحينئذ يصبح "السحاق" التعبير النهائي عن الواحدية الصلبة، وتسود الواحدية السائلة التي لا تعرف الفرق بين الرجل والمرأة أو بين الإنسان والأشياء!!
ويتم الإشارة إلى الإله في مرحلة الواحدية السائلة هذه لا باعتباره "هو أو هي" إذ يصل الحياد قمته والسيولة منتهاها، فيشار إليه، كما ورد في إحدى ترجمات الإنجيل الأخيرة، باعتباره ذكرًا أو أنثى أو شيئًا. فالإله هو He/She/It!
ومن الصعب على المرء أن يقرّر عما إذا كانت هذه هي نهاية السيولة، أم أن هناك المزيد؟.. فالتجريب المنفتح في اللغة والتاريخ والعلاقات بين البشر مسألة لا سقف ولا حدود ولا نهاية لها.
وليس الهدف من كل هذا هو "توسيع آفاقنا وتحطيم القوالب الذهنية التقليدية أو الدينية التي يتعامل كل جنس مع الآخر من خلالها" كما يقال.. وإنما الهدف هو:
ضرب فكرة الإنسانية في الصميم حتى يتم تسوية الجميع.. وليس مساواتهم!
الهدف النهائي: تدمير الأسرة:
وإذا كانت الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع، فإن الأم هي اللبنة الأساسية في الأسرة (بما لا ينفي دور الرجل الأسري بالطبع).. ومن هنا كان تركيز النظام العالمي الجديد على قضايا الأنثى.. فالخطاب المتمركز حول الأنثى هو خطاب تفكيكي يعلن حتمية الصراع بين الذكر والأنثى، وضرورة وضع نهاية للتاريخ الذكوري الأبوي، وبداية التجريب بلا ذاكرة تاريخية، وهو خطاب يهدف إلى توليد القلق والضيق والملل وعدم الطمأنينة في نفس المرأة عن طريق إعادة تعريفها، بحيث لا يمكن أن تتحقق هويتها إلا خارج إطار الأسرة.
وإذا انسحبت المرأة من الأسرة تآكلت الأسرة وتهاوت، وتهاوى معها أهم الحصون ضد التغلغل الاستعماري والهيمنة الغربية، وأهم المؤسسات التي يحتفظ الإنسان من خلالها بذاكرته التاريخية وهُويته القومية ومنظومته القيمية.. وبذلك يكون قد نجح النظام العالمي الجديد من خلال التفكيك في تحقيق الأهداف التي أخفق في تحقيقها النظام الاستعماريّ القديم من خلال المواجهة المباشرة، وتتحول المجتمعات إلى أفراد مستهلكين.
***
ما الحل.. خصوصا أن الجمعيات العربية المختصة بحقوق المراة تولى وجهها شطر الغرب؟ ليسوا أكثر من مقلدين!!!
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا{1}) النساء.
(وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{21}) الروم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.