حبــر أســود
قال لي جون وهو مستلقٍ أمامي على أريكة الفحص في العيادة النفسية في القاعدة العسكرية:
- لقد أطلقت النار.. لم يأمرني أحد، ولكني فعلت.. كنت أقف على قاطع الطريق شمال غرب بغداد.. الشمس حارقة، والعرق يعميني، والذباب يحوم حول وجهي ويئز في أذني بطريقة تثير الجنون، لكني لم أفكر حتى في رفع كفي لطرده، فعقلي كان في إصبعي المتحفز على زناد رشاشي غير المؤمّن.. في كل ثانية كنت أتوقع الموت، وفي كل عراقي كنت أرى انتحاريا.. لهذا مع أول شبح لاح لي قادما من الرمال المحيطة بالطريق، لم يفكر إصبعي كثيرا.. أطلقت النار من على بعد 300 متر، لأرى ـ وعيناي لا تفهمان ـ شيخا وصبيا يمسك يده، يسقطان مضرجين في دمائهما.
***
إليزا ما زالت لا ترد على اتصالاتي الهاتفية..
لقد هجرتني بعد أن صرختُ في وجهها وصفعتها الأسبوع الماضي، حين ضبطتها في أحضان صديقي مايكل، وخرجت غاضبا من شقتها.
حين عدت مساء اليوم التالي وجدتها غيرت رتاج الشقة، ولم تفلح كل طرقاتي إلا في جعلها تهددنني بالاتصال بالشرطة، وهي تصرخ بأنني همجي متخلف، فرحلت في صمت.
***
قال لي رالف وعيناه تتوهجان:
- كان لا بد من أن أنتقم.. لقد رأيت أشلاء أصدقائي تتطاير أمام عيني حينما عبرت سيارتهم "الهامر" بجوار عبوة ناسفة على جانب الطريق.. كان يمكن أن تكون سيارتنا نحن، لولا أن ذلك الإرهابي الحقير الذي فجر العبوة عن بعد قرر أن سيارتهم هي المنشودة!.. وحينما كنت ملقى على الأسفلت والرصاص يصفر فوق رأسي، وأنا أطلق رشاشي في كل اتجاه وغبار الانفجار لا يجعلني أرى شيئا، أقسمت أن أنتقم.
لهذا حينما دهمت دوريتي أول قرية أفغانية في الأسبوع التالي، لم أتردد أنا وفيرد في التناوب على اغتصاب أول فتاة صادفتنا في أول منزل فتشناه.. كانت مجرد طفلة في الحادية عشرة، لكن هذا هو المطلوب بالضبط.. لا شيء يكسر هؤلاء الإرهابيين سوى هتك عرضهم.. الموت لا يخيفهم، والألم لا يعنيهم.. لكن الشرف يطعنهم في مقتل.
***
ليلة وحيدة أخرى في شقتي..
أرهقني الأرق، خاصة أن مزاجي كان متعكرا، منذ أن صرخ ذلك الزنجي المدمن وهو يلوح بمدية في وجهي بأنني إرهابي، وطالبني بأن أرحل من هنا.
لم يعنِه زيي العكسري، ولا أنني لم أعرف لي بلدا غير هذا البلد، ولا أنني لا أختلف عنه كثيرا، فكلانا ـ مثل كل سكان هذا البلد ـ جئنا من أصول مختلفة من بلاد العالم المختلفة، ببساطة لأن السكان الأصليين لهذا البلد أبيدوا منذ أمد!
لم يعنِه كل هذا، وتذكر فقط أن اسمي أحمد، وهذا يعني حتما أنني عضو في تنظيم إرهابي ما، وأن ابن لادن يختبئ في صوان ملابسي بلا ريب!
أطلق سبة بذيئة وهمّ بمهاجمتي، لولا أن رأى تحفزي ونفور عضلاتي، فذكره زيي العسكري أنني لست صيدا سهلا، فتراجع وهو يرغي ويزبد.
***
قال لي هاورد في بلادة:
- لم أكن أفكر فيهم كبشر وأنا أعذبهم في جوانتانمو.. آلامهم لم تؤثر بي، وصرخاتهم لم تَبْدُ لي أكثر من نعيق غربان مذعورة.. كل ما كان يعنيني هو أن أحصل على الإجابات المطلوبة.. لقد حطمت ضلوعهم، وصعقتهم، وكسرت آدميتهم وكرامتهم بإلقائهم عرايا في محابسهم.. لكن كل هذا لم يكسر إرادتهم.. كانوا يقابلونه بصبر غريب ويقين مريب، وكأن كلا منهم يظن نفسه المسيح المخلص الذي يجب أن يتحمل الصَلب والعذاب من أجل قضية أكبر.. لكنهم حتى لم يكونوا يؤمنون بأن يسوع صُلب، وقال لي أحدهم إنه رُفِع إلى السماء.. لقد فشلت في فهم هؤلاء البشر.. هل تستطيع أن تخبرني أنت كيف يفكرون؟.. ألستَ واحدا منهم؟
***
كنت أقلب الملعقة في كوب الشاي بفراغ، والخبز كالعلقم في حلقي، ولا أكاد أسمع مرح الجنود وصخبهم من حولي في قاعة الطعام.
كل شيء يصير أقبح يوما عن يوم..
كنت أمتص السواد من نفوس هؤلاء الجنود المكتئبين، لكنه كان يتراكم بداخلي.. كأنني قطعة من الإسفنج تُغمس كل يوم في زجاجة حبر شديد القتامة!.. هل تدرك ما شكلها بعد أن مر عليها ستة أعوام متتالية وهي على هذا الحال؟
يبدو أن باب النجار مخلوع كما يقولون من حيث أتى جدي!
أظنني أحتاج إلى زيارة طبيب نفسي بدوري، لأعصر إسفنجتي عنده، وأسكب بداخله بعضا من هذا الحبر الأسود، الممزوج بالقبح والوحشية وانعدام الإنسانية وضياع العدالة!
***
لا أذكر آخر مرة صليت فيها.
سأجرب أن أصلي هذا المساء وأناجي الله، لعل هذا ينفس عني بعضا من هذا الضغط الداخلي الهائل.
***
بكل الحزن والأسى، تنعي الولايات المتحدة الأمريكية عَشرة من خيرة جنودها الأبطال، الذين قتلهم السفاح الإرهابي (أحمد عبد الله)، الذي لا يستحق الانتماء إلى هذا البلد ولا الخدمة تحت علمه لحماية القيم الأمريكية.. فليذكر التاريخ بالفخار أسماء هؤلاء الأبطال:
جون وودز
رالف سبنسر
هاورد ستيفنسون
..........
..........
..........
***
محمد حمدي غانم
13/12/2009
أعتقد أنك وضعتها على أحد المنتديات منذ فترة ليست بالقصيرة هى جيدة ولقد أعجبتنى
ردحذفهاسندا
هاسندا:
ردحذفنعم.. لكني أجريت عليها بعض التغييرات، وحذفت مشهدين.
تحياتي