الخروج من النفق المظلم الطويل
كتبت هذا الكلام منذ عام، كجزء من تعليقي على أحد مقالات د. أحمد خالد توفيق:
الشعب المصري انسحب من الحياة بالتدريج منذ حكمه المماليك العبيد وحرموه من الجندية والمناصب العامة، فتحول الشعب المصري إلى متفرج، يشاهد من يذهبون ومن يأتون: المماليك والأتراك والفرنسيون ومحمد علي وأبناؤه والإنجليز والثورة... فقط يظل الشعب المصري على يقين من أن كل هؤلاء سيذهبون يوما، بينما نحن ها هنا قاعدون وباقون.. لهذا هناك تمرد خفي دائم من الشعب على أي حكومة وأي قانون وأي نظام، وكل مؤسسة تفشل في النهاية لأن كلا منا يحاول أن يأخذ منها أكثر ما يستطيع قبل أن تذهب الحكومة وتنهار (ولهذا أصلا تنهار)!!.. وانظروا ماذا حدث للقطاع العام، والجمعيات الاستهلاكية والبنوك، وهي مؤسسات يفترض أنها كانت للشعب!!
الشعب المصري أشبه بمتمردين يعيشون في نفق، ينتظرون اللحظة المناسبة للظهور منذ 760 عاما.. يواجهون كل شيء بسخرية، ويؤمنون أنه لن ينفع شيء (وفعلا لا ينفع شيء).
هذا الرفض الطويل، المغلف بالصبر الطويل، والصمت الطويل، والسلبية الساخرة، والنهب كلما سنحت الفرصة (باعتبارها حقوقنا المسلوبة منا)، هو ما يدمر أي تجربة في مصر، لأنها في النهاية ليست تجارب الشعب، ولأنه لم يختر حكامه قط منذ قرون (حتى الثورة على الملكية كانت ثورة جيش ولا علاقة للشعب بها).
وربما يكون هذا أحد الأسباب التي نضيفها إلى أسباب ظاهرة العنف في المجتمع المصري (ومثله باقي المجتمعات العربية).
علينا أن نعيد تخطيط مصر: جغرافيا، وإعلاميا وتعليميا وثقافيا، مع إعادة تربيتها دينيا، لنحاول أن نخرج الشعب المصري من النفق المظلم الطويل، ونجعله شريكا في بناء مصر، ونقنعه أن هذا بلده فعلا، وأنه ليس متفرجا فيه، وأن من يعملون يعملون من أجله، وأن ما يشارك في إنشائه على أرض مصر، هو من أجله ومن أجل أبنائه حقا، وأن من يحكمونه ليسوا مجرد موجة أخرى من القادمين الذاهبين الذين لا يعنيهم سوى جمع الضرائب وتكوين الثروات وجلد الظهور قبل أن يلحقوا بمن سبقهم. (بالمناسبة: ألا تشعرون أن هذا هو ما يحدث الآن؟.. قوانين مستوردة، وتغريب، وضرائب، وطبقية، وإقطاع وجنسيات مزدوجة وأرصدة في الخارج.. ما الذي تغير عن أي عصر سابق، سوى جنسية الحكومة؟؟!!)
إذا عرفنا كيف نفعل هذا، فربما تكون أمامنا فرصة للحاق بأمم كانت موجودة وفاعلة طوال التاريخ، وتصنع اليوم دولا متقدمة!
***
طبعا لم يخطر ببالي أن الشعب المصري بعد عام واحد سيجد المخرج من النفق أخيرا ويقوم بثورة 25 يناير، بدون زعيم أو قائد أو نظريات أو أيدلوجيات، وبدون مجاعة أو احتلال خارجي.
من وجهة نظري: هذه الثورة أعادت الشعب المصري إلى مصر، وأخرجته من الأنفاق السفلية إلى سطح الأرض، ليستمتع بشمس الإرادة ونسيم الحرية.
لهذا وقف العالم مبهورا أمام الشباب الذين يكنسون الميادين ويعيدون طلاء أعمدة الإنارة في مختلف أرجاء القاهرة.. فما لم يفهموه هو أن هؤلاء الشباب لأول مرة منذ قرون يشعرون أنهم يعيشون في بلدهم، دون أن يكونوا عبيدا مسخرين لخدمة مصالح وأطماع حفنة من اللصوص.. وهذا هو نفس السبب الذي جعلهم ينشئون اللجان الشعبية للدفاع عن أحيائهم ومنازلهم بدلا من رجال الشرطة، وجعلهم يقفون في الشوارع لتنظيم المرور بدلا من رجال المرور.
كل ما أرجوه الآن، هو ألا ينسحب المصريون مرة أخرى إلى النفق المظلم لأي سبب من الأسباب، وأن يتمسكوا بحقهم في بلدهم ويعملوا لنهضتها، وألا يسمحوا مجددا لأي وغد زنيم بجلد ظهورهم لتعبئة جيوبه وتكديس أرصدته، وألا يسمحوا لأي مصري من الأجيال القديمة ما زال يعيش في النفق المظلم، بأن يستخدم "الفهلوة" للتحايل على القوانين وإفشال المؤسسات ونهبها، فمصر الآن بلدنا، ولم نعد فيها غرباء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.