حتى يكون الخيال علميا!
هناك أخطاء علمية سخيفة للغاية
أجدها في بعض أعمال الخيال العلمي، حتى في أشهر أعمال هوليود.
طبعا الأشهر على الإطلاق، هي
خزعبلات التحور الداروينية، التي تصنع أبطالا خارقين أو وحوشا شريرة.. فهناك أعمال
لا تحصى تحدث فيها هذه التحولات اللحظية، لمجرد الإصابة بالبرق أو التعرض لمادة
كيميائية أو إشعاعية.. علميا هذا محال، لأن التغيير العشوائي في DNA لا يمكن أن يؤدي إلى تصميم جديد دقيق.. حتى بفرضيات خرافة داروين،
لا بد أن تحدث هذه التغييرات العشوائية لتريلونات المرات عبر مليارات السنين،
ويتخلص الانتقاء الطبيعي من كل تصميم معيب (وهو ما تثبت نظرية الاحتمالات استحالته
في عمر الكون المعروف أصلا)، فما بالنا بشعاع برق يصنع بطلا خارقا أو وحشا منيعا؟
لكن مثل هذه الفكرة صارت شائعة جدا
في الخيال العلمي، لدرجة أنها صارت من المسلمات التي لا تقبل الجدل، ويمكن أن تمر
على المتلقي العادي بدون أن تثير حفيظته.
لكن ماذا عن ذلك الشخص الشرير الذي
يريد أن يغير التركيب الجيني لكل سكان الأرض عن طريق مادة ما، ينشرها في الغلاف
الجوي العلوي بانفجار نووي؟
أولا: ما كم المادة التي تريدها أن
تؤثر على مساحة كوكب كامل؟.. دائما تكون عبوة صغيرة!!
ثانيا: أين بالضبط موضع الانفجار
النووي الذي يمكن أن يؤثر على كوكب كامل؟.. لا يوجد!
ثالثا: ما هي المادة التي ستنجو
أصلا من انفجار نووي تصل حرارته في قلب الانفجار إلى ملايين الدرجات المئوية؟.. لا
يوجد فيروس أو بكتريا أو حمض نووي وراثي سينجو من هذا.. بل لا توجد مادة كيميائية
أو سبيكة من أي نوع على وجه الأرض لن تتبخر في أول ثانية!.. كما أن الإشعاع النووي
وحده كاف بتدمير أي خلية حية، وتغيير تركيب أي حمض وراثي (بافتراض أنه نجا من
التبخر بالحرارة)!!
يا مؤلفي الخيال العلمي.. الحرارة
أقوى مطهر على وجه الأرض.. لا تجعلوا الأشرار يستخدمونها لنشر ملوثاتهم!!
فليكن.. سنفترض أن المتلقي العادي لن
ينتبه لهذه أيضا.. فماذا إذن عن الأشرار الذين يستولون على برامج التحكم في
الأسلحة النووية، ويقررون إبادة العالم ببرنامج سوفتوير؟
أولا: لا يمكن التحكم في كل النظم
النووية في كل الدول النووية ببرنامج واحد، لأن لكل دولة نظام تأمين مختلف.
ثانيا: الشبكات العسكرية
(الاستراتيجية) هي شبكات خاصة معزولة عن الإنترنت بل وعن خطوط الهاتف العادية!..
وإن كان هناك بالفعل شبكات تربط المفاعلات النووية، وشبكات تربط الأسلحة النووية،
فأبسط قواعد الحماية تقول إنها ستكون شبكات خاصة معزولة حتى عن الشبكات العسكرية
الأخرى!
ثالثا: إن تجاوزنا ما سبق، واكتشفت
أي حكومة أن أسلحتها النووية خرجت عن سيطرتها، فأبسط ما ستفعله هو شد الفيشة!!..
المؤسسات النووية تدار بواسطة عسكريين ومهندسين، ومن السهل فصل الهاردوير عن شبكات
السوفت وير، وتعطيل كل هذه المنشآت في دقائق.. أو على الأقل: إفراغ الصواريخ
البالستية الحاملة للرؤوس الحربية من وقودها!
رابعا: إذا كانت الحكومات والجيوش
من الغباء لدرجة تجاوز كل ما سبق، فأبسط ما يمكن فعله هو إيقاف خوادم الإنترنت
ومنع التواصل الرقمي لتجنب نهاية العالم.. أو حتى قطع الكهرباء عن العالم كله إلى
أن يتم القبض على الأشرار!!
لكن المؤلف طبعا يتجاهل كل هذه
الحقائق، ليجعل أبطاله ينقذون العالم، الذي فشل في إنقاذه كل العلماء والمهندسون
والعسكريون في كل أرجاء العالم!!
أما أسخف الأخطاء العلمية على
الإطلاق، فتنفرد بها فكرة إعادة شخص إلى الحياة من رفاته.. إذا تجاهلنا الاستحالة
الدينية هنا، فستظل تواجهنا الاستحالة العلمية في أن يعود الشخص بكامل ذكرياته
ونفس شخصيته.. لأنه حتى إن كانت هناك تقنية تعيد ترميم الجسد بالاعتماد على الشفرة
الوراثية، فمن أين يمكن استعادة الذكريات بعد موت الخلايا العصبية وتحلل
الذاكرة؟.. هذه قدرة إلهية، تقع خارج نطاق العلم.
نفس المشكلة تحدث مع فكرة استنساخ
عدة نسخ من شخص حي، فتبدأ كلها بنفس ذكرياته.. دائما تركز هذه الأفكار على ترجمة
الشفرة الوراثية، لكن لا أحد يتطرق إلى آلية خاصة لنسخ الذاكرة من الشخص الأصلي
إلى النسخ الخاصة به، فهذه عملية مستقلة تحتاج إلى أجهزة الكترونية، بعيدا عن
استنساخ DNA.
من وجهة نظري، هناك تدهور عام للمستوى
العلمي في أعمال الخيال العلمي، يتم إخفاؤه بالدراما المثيرة والإبهار والخدع
والمؤثرات.. وما أظنه هو أن الأجيال الجديدة من الكتّاب تتعلم التأليف بالمشاهدة
لا بالقراءة، وبالتالي هم يكتسبون مهارات عالية في الدراما، لكنهم يفتقرون إلى
الكثير من الفكر والمنطق والثقافة التي يكتسبها الكاتب من قراءاته وتأملاته.. كما
أن كاتب الخيال العلمي يحتاج إلى أن يقف على أرضية علمية صلبة قبل أن يشطح بخياله
بلا ضوابط.. فالعلم قائم على السببية (ما عدا خرافة داروين، فهي الوحيدة القائمة
على سلاسل غير مبررة من الصدف!!) ويجب أن يكون الحال نفسه بالنسبة للخيال العلمي،
وعلى المؤلف أن يراعي الأسباب ونتائجها، ليكون المتلقي أكثر اندماجا واقتناعا.. فالحبكة
الجيدة هي التي تكاد تخلو من الثغرات (كل دراما تتطلب بعض الثغرات)، بحيث يمتلك العمل
الفني قابلية أعلى للتصديق، مهما كانت خياليا.
لكن، في كثير من الأحيان لا يهتم منتجو
هذه الأعمال بهذا، ما دامت مبهرة ورائجة وتحقق الربح المنشود.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.