المتابعون للمدونة

الخميس، 14 أبريل 2011

أنا أتمـــــرد

أنا أتمـــــرد

لم أستطع يوما أن أتأقلم مع أي مؤسسة، فقد كنت دائما عصيا على الترويض!
أذكر أن والدي ألحقني بكتّاب لتحفيظ القرآن الكريم قبل دخولي المدرسة (ربما كنت في الرابعة أو الخامسة.. لا أذكر تحديدا).. لكني كنت دائما أخدع الشيخ عطية رحمه الله بأي حجة (كالذهاب إلى دورة المياه) وأترك المكان بلا عودة!
ومن الطرائف التي أذكرها في هذا الشأن، أنني أعجبت بمبراة كانت مبتكرة الشكل حينها، فطلبت من والدي أن يشتريها لي، مع وعد بأنني في المقابل سأواظب على حضور دروس القرآن الكريم.. وقد حصلت على المبراة فعلا، لكني طبعا لم أبر بوعدي J
ويبدو أن والدي قد استسلم في النهاية، فلم يضغط عليّ لمواصلة هذه الدروس.
ثم جاءت أسوأ أيام حياتي، بدخولي المدرسة.. حينها كانت المدرسة تستأجر البيت المجاور لنا كمبنى مؤقت إلى حين انتهاء بناء المبنى الدائم، وكنت أطل على فنائها من شباك شقتنا، ورغم هذا كنت أبكي كل يوم وأرفض الذهاب دون جدوى L
وقد ظل يلازمني نفس الضيق في بداية كل عام دراسي حتى نهاية المرحلة الثانوية، بل ما زلت إلى اليوم أشعر بنفس الضيق مع بداية فصل الخريف، لأنه يعيد إلى تلك الذكريات الخانقة.
ولم يكن هذا لأني تلميذ فاشل أو أخاف المدرسين أو يضربونني.. فعلى العكس تماما، كنت طالبا متميزا، وكنت ضمن فريق المدرسة في مسابقة أوائل الطلبة في الصف السادس الابتدائي وحصلنا حينها على كأس المحافظة، وفي الصف الثالث الإعدادي كنت الثاني على مستوى محافظة دمياط.
وفوق كل هذا، كان أبي أخصائيا اجتماعيا محبوبا، وكل المديرين والمدرسين كانوا أساتذته أو أصدقاءه أو طلبته السابقين، وبالتالي كنت أمتلك مزايا نسبية، وما يشبه الحصانة، ولو تجرأ أي مدرس على إيذائي ولو بكلمة، كنت أستطيع أخذ حقي منه كاملا!
إذن، فنفوري من المدرسة لم يكن بسبب فشلي أو اضطهادي أو ما شابه.. لكنه كان نفس نفوري الطبيعي من وضعي في سجن يُفرض عليّ فيه الزمان والمكان والمنهج والمدرس وكل شيء دون أن يكون لي أي حق للاختيار.
باختصار: كان نفس تمردي على القيود.. والمؤسسات.
لعل هذا يوضح كيف أمضيت المرحلة الابتدائية كلها تقريبا دون أن أحفظ إلا 13 جزءا من القرآن الكريم، فعندما كرر أبي التجربة وأنا في الصف الثاني الابتدائي، وألحقني بدروس تحفيظ القرآن في المسجد، لم أستطع المواظبة، وكان حضوري متقطعا خاصة في الإجازة الصيفية، لأن الموعد الصباح يتعارض مع رغبتي في النوم، وموعد العصر يتعارض مع رغبتي في اللعب.
وأنا أعترف أن أكثر شيء ندمت عليه في حياتي هو عدم حفظي للقرآن كاملا، لأني حينما أعود بذاكرتي إلى طفولتي، أجد أن القرآن الكريم هو الشيء الإيجابي الوحيد فيها، والذي منحني سليقة اللغة العربية، وحفظ جزءا كبيرا من فطرتي من التشوه مع كل القمامة التي كان يصبها في نفسي وعقلي التلفاز والمدرسة والشارع.
لكن للأسف.. لم يستطع شيء كبح جماحي في تلك المرحلة.. ولا في أي مرحلة تالية.
فقد كانت علاقتي بالكلية علاقة زائر، يحضر ما يروق له من المحاضرات، ويمضي باقي اليوم في المنتديات الأدبية والقراءة والكتابة ولعب الشطرنج، ثم البرمجة، ثم الترجمة، ثم النقاش في منتديات الإنترنت.. وكانت النتيجة تدهور مستواي في الكلية ـ التي لا قيمة لها سوى حل بعض المسائل على الورق، ولا علاقة لها بالهندسة فعليا!
وحتى بعد الكلية.. لم أحتمل طويلا العمل كمبرمج في شركة بدوام يوم كامل، لهذا تركتها وغامرت بالاعتماد على نشر كتب البرمجة فحسب، لأحصل على حريتي في ممارسة هواياتي، وأداء ما أريده من الأعمال التي أحبها، حتى إن كانت بلا مقابل.. صحيح أن لهذه المغامرة نتائج باهظة، لكني أتقبل دائما نتائج اختياراتي، ما دامت اختياراتي حقا، ولم يفرضها أحد علي.. يبدو هذا جنونا لكل من حولي، لكنني شخص أشتري الحرية بالمال، ووقتي أثمن عندي من كل كنوز الأرض، ولا أنسى دائما أن المال وسيلة للاستمتاع بالحياة، فما فائدته إذن إن ضيعت معظم اليوم ـ كل يوم وطوال العمر ـ من أجل الحصول عليه، ولم أفعل أي شيء آخر أحبه؟
ومما يجعل هذه الاختيارات سهلة بالنسبة لي، ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أنني لم أشعر بالحرمان يوما بفضل الله ثم بفضل أهلي، فقد كنت دائما أحصل على ما أريده، خاصة أنني لست ماديا بطبعي، ومتطلباتي معقولة ويمكن تحقيقها.. وكانت نتيجة هذا أن ارتفع سقف طموحاتي بعيدا عن المتطلبات المادية، فكل إنسان يبحث في الحياة عما ينقصه، لا عما في يده.. بطريقة أخرى: لقد صرت من نوعية من البشر تبحث عما تضيفه إلى الحياة، لا عما تأخذه منها!
لهذا استثمرت وقتي في القراءة والكتابة، ولدي الآن سيول من الأعمال الأدبية والفكرية، منها 48 رواية وثلاث مسرحيات، و100 قصة و 800 قصيدة وخاطرة و 1000 مقال، إضافة إلى أنني في ثلاثة أعوام فقط من بداية تصفحي للإنترنت قرأت أكثر من 100 ألف مقال، وخضت أكثر من 3000 نقاش!!.. وقد توج هذا حصولي على 20 جائزة أدبية في فترة الجامعة، كما كتبت عدة برامج أهمها برنامج يحلل أوزان الشعر، وترجمت مرجع Mastering VB.NET في مجال البرمجة، بجوار عدة كتب الكترونية أخرى منشورة حاليا على الإنترنت، إضافة إلى 12 كتابا مطبوعا في المكتبات في مجال البرمجة، وديوان شعري واحد.

والأمر الثاني: أنني شخص أحب كل ما أفعله وأستمتع به.. فبِكَم في نظركم تقدرون المتعة التي حصلت عليها وأنا أقرأ وأكتب كل عمل من تلك الأعمال التي حدثكم عنها؟.. هذه متعة تركت في سبيلها مصاحبة الفتيات، والخروج مع الأصدقاء في النزهات، بل إني ظللت سبع سنوات متوالية لا أذهب إلى المصيف رغم قربي الجغرافي من رأس البر، بسبب انشغالي في كل هذه الأعمال، التي منحتني متعة تفوق كل متعة مادية أخرى عرفتها في حياتي.. فللأسف: لا يعرف أغلبية البشر أن الإنسان الذي يكرس نفسه لشيء بعينه، يفعل هذا أولا بدافع عشقه له واستمتاعه به، فهو ليس مجنونا كما يتوهمون، وإنما هكذا يسره الله لعمله.. ولولا وجود هذه الفئة من البشر لما وجد الناس العاديون أشعارا وأغاني وأفلاما ومسلسلات يستمتعون بها وتخفف عنهم قبح الحياة ورتابتها، ولما وجدوا أي اختراع يسهل عليهم حياتهم مما تحول بالنسبة لهم إلى سلع استهلاكية، نسوا في سباق الحصول عليها، حيوات العلماء التي فنيت في اختراعها، ولما وجدوا الدواء الذي يعالجهم من أمراضهم، والذي بسببه أمضى آلاف الأطباء والعلماء حيواتهم بين الدم والصديد والقيح والبول والبراز والديدان، ومات منهم الكثيرون بالعدوى في ريعان شبابهم.
نعم.. هناك في هذا العالم من ينظر إلى جناح البعوضة تحت المجهر بشغف يفوق نظر عاشق في عين محبوبته، وهناك من يلقون بأنفسهم في مجاهل الغابات وأعماق البحار وأجواز الفضاء لإرواء فضولهم، فمتعة المعرفة ولذة المغامرة بالنسبة لهم، تفوق كل متعة ولذة يعرفها باقي البشر.

والأمر الثالث: أنني حتى الآن أدفع ثمن اختياراتي وحدي، وهو ما كان سيستحيل لو كنت مسئولا عن أبي أو أمي أو إخوة صغار، أو لو كان في حياتي زوجة وأبناء، وهو ما أظن أنه لن يحدث أبدا!
وهذا ليس رغبة عن شرع الله، فعلي العكس تماما، أنا من أشد أنصار الزواج المبكر ومن المناصرين لتعدد الزوجات أيضا J.. لكنّ شخصا متمردا مثلي لم تنجح في ترويضه أي مؤسسة، لن يتغير شيء معه في مؤسسة الزواج، ويمكن توقع النتيجة بسهولة، ما لم أحصل على الفتاة التي تكون النصف المتوافق معي تمام التوافق بالضبط، في الفكر والذوق والأهداف وطريقة الاستمتاع بالحياة، بشرط أن تتمرد معي لا ضدي.. أمر معقد جدا، ومعادلة لم أجد لها حلا حتى الآن.
والأسوأ من هذا، هو أني لن أستطيع تربية أبناء يتأقلمون مع المجتمع ومؤسساته، لأني ببساطة لم أنجح في هذا أنا نفسي!
وبالتالي: ما الحكمة في إنجاب أبناء في مجتمع لا يعجبني؟.. وهل أستطيع تربيتهم بمعزل عن المجتمع؟.. أم أن هذه ستكون حربا خاسرة كالمتوقع؟
وهل يمكن أن أقنن التمرد؟.. أن أربي أبنائي ليكونوا متمردين مثلي؟.. وماذا لو تمردوا على تمردي؟.. هذا وارد لأن لكل طفل شخصيته المستقلة، وبعضهم يميل إلى المسالمة والانضواء.
ثم: هل يمكن أصلا أن أعبر من نقطة التفتيش الإجبارية التي تقف على عتبة كل زواج، والمسماة بالأهل، الذين هم الحراس التقليديون لأعراف المجتمع وتقاليده وتقاليعه وتعقيداته واستهلاكياته المادية، وكل ما يضر ولا ينفع، وكل ما لا علاقة له بالدين والعقل والعلم والمنطق؟
إنني لم أستطع التأقلم مع أهلي أنفسهم، ولم يستطيعوا تقبل تمردي ولا فهم اختياراتي وهم أهلي وأكثر من جادلتهم في حياتي، فلا هم غيروني ولا أنا غيرتهم، فمن من جيلهم يمكن أن يفهمني؟
هذا جيل سحبوه من الحقول وألقوه في المدرسة والقطاع العام وطوابير الخبز والجمعية الاستهلاكية، وعلموه أن كل شيء يأتي بانتظار الدور في الطابور بلا كلل أو ملل أو تفكير أو عمل.. فكيف يمكن أن يتفاهم مثل هذا الجيل مع شخص من هواة القفزات الانتحارية مثلي؟!
كلها أسئلة عسيرة، تجعلني أفضل أن أواصل تمردي وحدي، وأتحمل نتائجه وحدي، إلى أن يمن الله سبحانه علينا بحدوث تغيير جذري في هذا المجتمع وعاداته وتقاليده ومؤسساته، ليكون أكثر حرية وأقل فوضى وعشوائية.. أكثر إبداعا وأقل تقليدا.. أكثر أخلاقا وأقل فسادا.. أكثر عملا وأقل طوابير!
آه.. نسيت أن أضيف: أو أن أتغير أنا ويتم ترويضي.. للأسف هذا احتمال شبه مستبعد، ويبدو أصعب وأعقد من تغيير الدنيا كلها، لأنه يحمل في طياته الصراع بين نصف الدنيا المادي، ونصفها الروحي والفكري، وهو الصراع الذي بسببه يكتب التاريخ، وتتحرك الدنيا إلى الأمام ولا تتوقف أبدا، مهما كان عدد الضحايا من الجانبين!

محمد حمدي
17/12/2010


ملحوظة:
كتبت هذا قبل حوالي شهر من الثورة، لكن إلى الآن لا أرى أن شيئا جذريا تغير في المجتمع.. صحيح أن هناك جيلا جديدا ثائرا على الساسة والمفسدين، لكن الثورة على المجتمع لم تبدأ بعد، وأظنها قد تتأخر جيلا آخر.. ما زلت غير مستعد لأن أتحمل جريمة أن أنجب أطفالا في مجتمع كهذا!

هناك تعليق واحد:

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر