المتابعون للمدونة

الخميس، 26 نوفمبر 2015

اثنان في واحد 1


اثنان في واحد (ليس برت بلاس)
(1)

 



الحياة في مدينة الطلبة بجامعة القاهرة، تسير بي على هذا النحو:
كلية الهندسة.. مطعم المدينة.. الفراش!
لا، ليست رتيبة تماما، فهناك ثلة من الزملاء والأصدقاء ممن يسعدك بالطبع التعرف عليهم.. ولنبدأ بالصديق اللدود أحمد عزيز:
إذا لم ترَ من قبل قاطرة بخارية عتيقة فلسوف يسعدك بالتأكيد أن تراه وهو يدخن بشراهة.
وهو سوداوي بشدة، ليس لأنه من الصعيد حيث تلوّح الشمس الوجوه وتصبغها بالسمار، فهو بالمناسبة أبيض البشرة كالمهلبية الفاسدة التي تتخللها بقع سوداء هي بالطبع شعر لحيته النابت!
وليس لأن النيكوتين الذي جثم على رئتيه يكسبهما لونا قاتما قاتلا، يجعله يمقت الرياضة بشدة، لا سيما وهو حينما يسعل يغار منه كل صندوق خشبي مليء بالبلي يحترم نفسه!
وليس أيضا لأنه كثيرا ما يخرج عن اللائق في الحوار، فقلبه بعدُ ما زال أبيض.
إذن من أين أتت هذه السوداوية؟
غريب أمرك يا أخي؟.. ولماذا تسألني أنا؟.. هل تراني محللا نفسيا سبرت أغواره، أو نومته مغناطيسيا ليحكي لي تاريخ حياته؟
هو سوداوي وكفي ودعك من هذا الفضول السخيف!
للأسف قراء هذه الأيام مدللون ويريدون من الكاتب أن يخبرهم بكل شيء دون أن يتعبوا أنفسهم.. ولكن لا.. ليس معي.. لماذا لا تبحثون أنتم عنه وتسألونه عن سبب سوداويته؟.. قراء آخر زمن!
ربما ساعتها يقول مثلا إن سببها قلة حركته، وكثرة قراءته التي ظللت عقله بغمامة كثيفة من المعلومات، حجبت عنه اللون الأبيض تماما (وأين اللون الأبيض في واقعنا هذا؟).
أو ربما هي طبيعة شخصية، أو مشاكل مر بها جعلته هكذا.
المهم أنه سوداوي لا يثق بجدوى شيء، عدا الشيء الذي لا بد منه، وهو شيء غامض بطبيعته، ما زلت أحاججُه فيه لأستكنهه، لنوغل في تلافيف المعاني المطموسة في استنباطات ذاته الـ...
آه.. معذرة.. نسيت أننا لسنا في إحدى مناقشاتنا!
أرأيتم كيف أن الحياة ليست رتيبة؟
وستتأكدون أكثر وأكثر حينما أكلمكم عن النماس.
محمد النماس، الضفدع المسلوخ، صاحب أطول قامة، وأبرى جسد وأنحفه، بمنظاره الذي لا أدري كيف يستقر على أذنيه، فأنا يخيل إليّ أحيانا أنه يرفرف بهما، لأنهما كبيرتان عموديتان على وجهه.
وهو حينما يتكلم يخيل إليك أنه في معركة حربية، يطلق الحروف كالقذائف بسرعة مخيفة، فلا تدري لها مخرجا.
كلهم طيبو القلب، ولكن كيف يمكنك ألا ترتجف أمام غطاطي؟
أنا أحذرك: لو كنت تسير في ممر داخل أحد مباني المدينة، وشعرت أن أحد الأبواب قد انفصل عن مفاصله قادما نحوك فلا يرتجفنّ قلبك هلعا.. إنه فحسب أحمد الغطاطي، الذي يتكون من آدميين دمجا معا طولا وعرضا، ولكن لحسن الحظ أنه ليس بعصبيّ، فأنا لا أتخيل موقفي لو غضب مني هذا الديناصور!
إنه مرح كثيرا، وملتزم أخلاقيا، ولكن لديه (مُقطّما) فكريا يحتاج لتكسير في بعض المسائل.. الدنيا يا صديق كفيلة بتعليمنا *.
****

.... تتبع بإذن الله.

* تعقيب على الجملة الأخيرة:
نظرا لأن مساري تقاطع مع م. أحمد الغطاطي مرة ثانية في إحدى شركات البرمجة ما بين عامي 2002 و 2005، وكان مفاجئا لي أن أحمد اختار أن يحترف البرمجة أيضا، واتضح أننا اقتربنا فكريا بأكثر مما كان أينا يظن، وأن الحياة علمته وعلمتني الكثير، وأن كلا منا تراجع بعض الشيء، وإن كنت أنا اقتربت منه أكثر، وقلت له صراحة إن كثيرا مما تجادلنا فيه كان هو فيه على حق.
بالمناسبة: يظن كثيرون ممن يعرفوني أنني متعصب لآرائي ولا أتراجع عنها أبدا.. وردي الوحيد عليهم أنني لا أتمسك بأي رأي لا أثق أنه صواب، وأني إنسان أقرأ باستمرار وأعرف باستمرار وأناقش باستمرار، وهذا يعني أن فرصة تغيير أفكاري عالية جدا لأنها تخضع للمراجعة بشكل شبه يومي (وهو أمر مزعج جدا للمحيطين بي، لأني أصدمهم في مسلّماتهم وقناعاتهم وأصدع رؤوسهم باستمرار!!).. فالمشكلة إذن ليست أنني متعصب أو منغلق (وليراجع الطرف الآخر نفسه ليتأكد أنه هو ليس كذلك!).. المشكلة أن البعض يظن أن نقاشا عابرا مليئا بالجمل التقريرية والحقائق الإنشائية التي تم تلقينها لهم في مواضيع التعبير وتاريخ المدارس وبرامج التلفاز، يمكنه أن يغير قناعات إنسان يستخدم عقله ويقدس العلم والمنطق مثلي، وفوق هذا يكتب أصلا ليحاول أن يغير أفكار من يقرأ له!
كما أن تغيير رأي إنسان مثقف يستدعي أن يكون محاوره أكثر ثقافة منه وأقوى حجة، وهذا لا يتوفر كثيرا فيمن يجادلونني، لكنه يتوفر كثيرا فيمن أقرأ لهم.. لهذا أقول دائما إنني أتغير بالقراءة أكثر مما أتغير بالنقاش.. ولهذا من المؤكد والطبيعي أنني غيرت الكثير من أفكاري مع الزمن.. إن لم يكن بسبب أفكار قرأتها، فبسبب تجارب مررت بها أو رأيتها، ونتائج استخلصتها عمليا، فالتجربة خير برهان.. وأظن أن كل شخص في مصر غير قناعاته عدة مرات منذ ثورة يناير حتى الآن، وسقط من نظره أشخاص وانتماءات وأفكار، وحل محلها غيرها. (ما زال هذا سيتكرر، لأن الرواية لم تتم فصولا.. هذه هي طبيعة الثورات، وهي لا تنجح في تغيير الواقع قبل أن تعصف بالأفكار وتغير أهداف المجتمع وسلوكياته، وهو أمر لا يتم في ضربة واحدة).

أخيرا: أحب أن أنوه إلى أن سرعة تغيير الإنسان لرأيه بعد كل نقاش يخوضه، هو أمر غير منطقي، ولا حتى صحيح، فالذين يغيرون أفكارهم بهذه البساطة متذبذبون لا يثقون بشيء، وعرضة للتلاعب والتضليل، والتأرجح بين المتناقضات.. لهذا منح الله البشر نوعا من التشكك والممانعة الفكرية التي توازن جموح سن الشباب والرغبة في تجربة كل شيء مختلف.. لهذا يكون الصراع في أي مجتمع هو بين أولئك المتمردين المنفلتين من قيود الواقع، الذين يدفعون بقوة تجاه التغيير، وأولئك المتعصبين المتجمدين الذين يجذبون نحو الاستقرار والتمسك بالجذور، وكلاهما مطلوب، بشرط ألا يسقط المجتمع تماما في قبضة أحدهما بمفرده، وإلا حكم على نفسه بالانفجار أو الانسحاق.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر