المتابعون للمدونة

الاثنين، 9 نوفمبر 2015

عمو 4


عمّـــــو
(4)

حكم القدر

 

أثار نقاش الزواج هاجسا في نفس (هالة)، فترددت لحظة قبل أن تسأله:

-      وأنت يا عمو.. هل..؟!

-      ماذا؟

-      هل لديك أولاد؟

أجابها (ماهر) بغصة مريرة:

-      كلّمتُكِ عن غريب يبحث عمن يفهمه.

-  هذا لا يجيب عن السؤال.. عدم عثورك عليه لا يعني أنك لم تتزوج، خاصة أنك تقترب من الثلاثين.

-      جميل أنك تتفهّمين هذا!

نظرت له بتوجس، وانتبهت لأول مرة أنه يخفي أصابع يديه في جيبي سترته منذ جلست قبالته، فسألته بقلق:

-      أتفهّم ماذا؟

زفر قائلا بمرارة:

-      اضطررتُ إلى القبول بشريكة حياة معقولة.

شحب وجهها، وهي تسأله مبهوتة:

-      تعني أنك تزوجت؟

أخرج يده اليمنى ورفعها أمامها ليريها الدُبلة مجيبا:

-      على وشك.

حاولت اصطناع ابتسامة وهي تقول بخفوت:

-      مبروك.

همهم بكلمات لا معنى لها، وساد صمت ثقيل لم يقطعه إلا رنين هاتفها المحمول، فأخرجته من حقيقبتها بشرود، وفتحت الخط لتنصت لمحدثها لحظة قبل أن تقول:

-      لا تقلقي يا أمي.. أوشكت على الوصول.

وأنهت الاتصال ليعود الصمت يهيمن عليهما.

كان يود سؤالها أكثر عن نفسها وأي شيء يضمن وصوله إليها بعد ذلك، أو يطلب منها رقم هاتفها أو أي شيء.. لكن حقيقة أنه مرتبط بامرأة أخرى ألجمت لسانه، وأشعرته أن سؤاله سيكون عبثيا بلا مغزى.

انتبه إلى أن القطار يخفّف من سرعته وهو يقترب من إحدى المحطات، وانخلع قلبه حينما تذكر أنها نفس المحطة التي نزلت فيها سابقا.

ورآها (ماهر) مذعورا تنهض من مقعدها، واكتشف أنها ستمضي مجددا دون أن يعرف حتى اسمها كاملا أو أي شيء يُعينه على الوصول إليها لاحقا.. فهمّ بسؤالها رغما عن كل شيء، لكنها تمتمت بشجن:

-      وداعا أيها الغريب.

وجد نفسه يسألها بلا وعي:

-      ألن نلتقي ثانية.. ولو بعد أعوام؟

قالت ودمعة تترقرق في عينيها:

-  لا أظن.. فحتى إن التقينا فلن أكون أنا أنا ولا أنت أنت.. حتى الغرباء يصلون يوما ما.. أليس كذلك؟

وتمتم وقبضة من جليد تعتصر قلبه:

-      صدقتِ.

توقف القطار في تلك اللحظة، فتحركت مبتعدة بخطوات ملتاثة، وهي تغمغم:

-      وداعا.. يا عمو.

وغادرت القطار وهو يتابعها عبر النافذة بعينين جريحتين.

لقد فقدها للمرة الثانية..

والأخيرة!

***

كانت (هالة) تسير على الرصيف بخُطًى متثاقلة، وهي تقاوم رغبة جامحة في أن تتوقف وتلتفت إلى القطار الذي ما زال في المحطة، لعلها ترى (ماهر) ولو لثواني لآخر مرة.

ولكن ما الجدوى؟.. ما الجدوى؟

-      (هالة).

خفق قلبها في دهشة حينما سمعت صوته يناديها، فالتفتت بلهفة لتجده يعدو نحوها مسرعا.

وتوقف ماهر أمامها لاهثا، فكاد قلبها يثب من ضلوعها من عنف ضرباته، وعيناها معلقتان بشفتيه، تستمطر أملا مستحيلا في صحراء يأسها.

لكنه مد إليها يده بهاتفها المحمول قائلا في خفوت وعيناه لا تفارقان عينيها:

-      لقد نسيتِ هذا.

تمتمت في إحبط وهي تتناوله منه:

-      آه.. شكرا.

صمت وهو يلتهما بعينيه في لوعة، وغرق في الشجن العذب الذي يفيض من عينيها.

وتمنى ماهر لو تجمد الزمن دهورا عند هذه اللحظة، ومحا ذهنه كل تفاصيل المشهد، الناس والقطار والرصيف والمقاعد، وكل شيء إلا ملامحها الجميلة وعينيها الحزينتين، وحوارهما الصامت مع عينيه.

وتجمد كلاهما لحظات، عاجزين عن أن يتحركا أو ينبسا ببنت شفة، حتّى دق جرس المحطة فجأة وأطلق القطار صفيره منذرا ببدء تحركه، فأعاد عقارب الساعة إلى الحياة، وأعاد رسْم الواقع الكئيب من حولهما.

وهمهم ماهر بقلب موجوع:

-      أزِف الرحيل.

وتركها عائدا إلى قطار غربته، وهي متجمدة في مكانها، وكفها تقبض على آخر قطرات الدفء الذي اكتسبه المحمول من قبضته.

***

صاحت فيها (أروى) باستنكار وهي تجلس بجوارها على طرف فراشها:

-      لم تسأليه حتّى عن اسمه الكامل؟!

سالت دمعة من عين (هالة) رغما عنها، وأطرقت، فقالت (أروى) بحدة:

-  منذ أن صادقتك يا هالة وأنا على يقين من أنك مجنونة.. لكنّي لم أتخيل قَطُّ أن يصل بك الجنون إلى هذا الحد!

انهمرت دموع هالة غزيرة، وقد فشلت كل محاولاتها لكبحها، لكن أروى لم تشفق عليها أنْ واصلت في حنق:

-  ثلاث سنوات لنا في الجامعة معا، تصدّعين فيها رأسي بكلامك عن ذلك المجهول الذي ترك بصمة لا تمحى على شخصيتك، وتتمنّين لو أنك قابلتِه مرة أخرى، حتّى أقنعتُكِ بعد لَـأْيٍ أن تجرّبي تكرار نفس الرحلة، علّ الصدفة تقودك إليه، وأنتِ ـ ويا لك من عاقلة ـ لا تحبين بناء حياتك على المصادفات وكأننا نحن من نكتب أقدارنا بأيدينا!

قالت هالة من بين دموعها:

-      كنت خائفة ألا أقابله، فأظل أمنّي نفسي بالأوهام وأكرر رحلة القطار كل يوم.

-  ولكنك قابلتِه.. ومن أول مرة.. وفي نفس عربة القطار، وبل في نفس المقعد تقريبا!.. مما يعني أنه كان ينتظرك، فالمصادفات لا يمكن أن تتكرر بهذه الدقة!

نظرت لها هالة بدهشة، وهمهمت:

-      ينتظرني؟!

-  ينتظرك ويذكرك وعرفك على الفور.. هل عجز عقلك الخارق عن اكتشاف هذه الحقيقة الناصعة أيتها العبقرية؟

-      ولكن.. ربما...

-  أيا يكن.. أيا يكن.. حدث ما حدث وقابلتِه.. فماذا فعلتِ؟.. لا شيء.. عدتِ إلى نقطة الصفر!

-  (بمرارة) لقد تأخرتُ يا أروى.. كان يجب أن أسمع نصيحتك مبكرا.. لكني خفت أن تكون مجرد مشاعر مراهقة، تجعلني أخجل من نفسي، وأنا التي تنتقد دائما تفاهة الفتيات وتصرفاتهنّ التي لا تليق بطالبات جامعة ناضجات.. وخفت أكثر من ألا يتذكرني، وإن تذكرني أن يراني طفلة مراهقة تبتذل نفسها أمامه!

-  المهم أنك تغلبتِ على هواجسك وأخذت خطوة، وحدثت المعجزة وقابلتِه وتذكّرك.. فكيف تتركين الفرصة تضيع من بين يديكِ هكذا ببساطة؟

-      (بألم) إنه مِلك لفتاة أخرى يا أروى، وسيتزوجها قريبا!

عقدت أروى حاجبيها وهمهمت:

-  يا إلهي.. يا لك من منحوسة!.. بل يا لك من مترددة!.. لو كنت سمعتِ كلامي منذ عام!

وربّـتت على كتفها بتعاطف، وهي تردف:

-      قدّر الله وما شاء فعل.. دعينا مما مضى ولنفكر كيف سنتصرف فيما هو آت؟

-      (نظرت لها بدهشة) أيّ آت؟

-      (بحدة) إننا لن نستسلم بالتأكيد.. ما زال هناك أمل.

-      (بتهكم) أمل؟.. أي أمل؟!

-      إنه ليس متزوجا بعد.. ليس ملكا لأخرى كما تدّعين.

نظرت لها هالة بغضب وهتفت:

-      تريدين أن أحطم قلب امرأة لا ذنب لها، بسبب أنانيتي؟

-  دعك من مثالياتك الخرقاء هذه.. فليتحطم قلبها أفضل من أن يتحطم قلبك وقلبه.. وثقي أنه لو كان يحبك كما تحبينه فلن تتم هذه الزيجة أبدا!

توقفت دموع هالة وكررت في اندهاش:

-      أحبه؟

-      أجل.. ألم تعترفي لنفسك بهذا قَطُّ بعد كل هذا الوقت؟!

-      (بتلعثم) أنا.. أنا فقط أردت رؤيته و....

-  (بإشفاق) وماذا يا خائبة؟.. وهل يسمى هذا إلا "شوقا".. وهل تسمى دموعك هذه إلا "غيرة"؟.. وهل يسمى حزنك هذا إلا "عشقا مبرّحا"؟

-  (بتخاذل) ولكني لا أعرف عنه شيئا ولم أره إلا مرتين في حياتي.. لست مراهقة ساذجة لأسمّي هذا حبا!

-  بل أنتِ عرفتِ عنه الكثير، وعشتِ مع فكره سنوات من عمرك، وفتح لك ممالك عقله وأراكِ ما بناه فيها عبر سنوات عمره، وجعلك ملكتها المتوّجة.. لم يكن حبا بالعين والخيال من أول نظرة، بل حبا بالقلب والعقل من أول لآخرة فكرة.

نظرت لها هالة مذهولة، وعجزت عن النطق أمام هذه الحقائق التي وضعتها أمامها أروى بهذا الوضوح الذي لم تره من قبل، ربما مخافة أن تصارح نفسها بحقيقة مشاعرها نحو ذلك الغريب.

وهمهمت هالة وهي تنظر لأروى بدهشة:

-      ماذا حدث لك؟.. من أين أتيت بهذه القدرة على الجدل بغتة؟

لكزتها بيدها برفق قائلة:

-      مَن عاشر القوم ثلاث سنوات صار منهم!.. الجنون يُعدي لو تعلمين!

ابتسمت هالة رغما عنها، لكنها لم تلبث أن تجهمت وقالت بشك:

-      ولو.. هذه مجرد علاقة عابرة في قطار.. طفلة وشاب تحدثا وانتهى الأمر.

-  انتهى الأمر؟.. مَن تحاولين الخداع يا فتاة: أنا أم أنت؟.. انظري إلى المرآة وأريني كيف تقنعين نفسك.

-  لا تستفزيني يا أروى.. قلت لك إنني لا أعرف عنه سوى بعض أفكاره.. أما سلوكه وطباعه فلا.

-  (بمكر) حسن حسن.. أنا مقتنعة.. مقتنعة جدا.. أنت لا تحبينه، وليست لدينا أي مشكلة.. فلننس الموضوع إذن.

رمقتها هالة بنظرة حانقة لحظة، قبل أن تنفجر في البكاء صائحة:

-  تبا لك.. أنا أحبه.. أحبه كما لم أحب أحدا من قبل قَط، ولم أرَ في الرجال غيره.. إنه حلم طفولتي ومراهقتي وشبابي، وقد ضاع.. ضاع للأبد!

واحتضنتها أروى مواسية، وهي تتنهد في إشفاق.

***

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر