اثنان في واحد (ليس برت بلاس)
(3)
تبدأ الأحداث في ذلك اليوم الجميل..
كنت قادما من مطعم المدينة بعد وجبة الغداء كما شرحت
بالتفصيل الممل في الفصل السابق.
وكالعادة كنت أشعر بخمول عجيب يسري في أعماقي بدلال، وهي
حالة تعتريني ـ وكما قالوا لي تعتري زملائي ـ بعد كل وجبة في مطعم المدينة، وهو
أمر يحتاج لدراسة، للتأكد من إن كانوا يستخدمون ضدنا زيت الكافور أثناء إعداد
الطعام، وهل له مثل هذا التأثير أم أنها إشاعة!
وأحبّ أن أنوه هنا إلى أن أي كلام تسمعونه عن تأثيرات زيت
الكافور طويلة المفعول على متعاطيه، والتي قد تظهر بعد الزواج، هي إشاعات مغرضة
عارية تماما (قليلة الأدب) من الصحة (أصابها البرد بعد أن تعرت.. تستأهل!)، فمن
أعرفهم من المدينجية تزوجوا وأنجبوا وفل الفل والحمد لله!
***
في غرفتي، نظرت للفراش وأنا أترنح وأتثاءب كالسيد قشطة،
ورحت أخاطب الفراش كما هي عادة الشعراء المجانين:
- مرحبا يا فراشي.. لعلك شَرِهٌ لمَن ينام الآن، فأنا جائع للنوم كنملة تحرس
مستعمرتها.
وألقيت نفسي على الفراش دون أن أحاول استبدال ملابسي،
وأخذت شهيقا عميقا وأنا أتمطى مغمغما:
- أرجو ألا يزعجني محمد ولي حينما يأتي.. أعتقد أن لديه معمل حاسب آلي اليوم.
ومحمد ولي إن كنت لا تعرف ـ ولا أدري كيف يصل بك الجهل لدرجة
ألا تعرف ـ هو زميلي في الغرفة بالطبع!
وهي حسبة لا تحتاج منك لكل هذا الجهد لضرب أخماس في
أتساع، ولا تحتاج مني لكل هذا اللف والدوران والتشدق الأحمق بالألفاظ و....
ولكن مهلا.. ما الذي أدخلنا في هذا الأمر؟.. ولماذا
أكلمك أصلا وأنا أعرف أنك فاقد الوعي منذ آخر مشادة بيننا، ولن تسمع أيا من هذا؟
ماذ كنا نقول؟.. لحظة حتّى أعيد قراءة ما كتبت.. أه..
إنه محمد ولي..
ومحمد ولي إن كنت لا تعرف ـ ولا أدري كيف يصل بك الحد في
الجهل لمثل هذه الدرجة.. أرجوك حاول أن تكون أكثر ثقافة، وربما أطلب منك حفظ
الأسماء في دليل الهاتف وأضابير السجل المدني، وفي كتيبات خرج ولم يعد ـ إن كانت
هناك كتيبات تحمل هذا الاسم، وإن لم يكن فلتكتب واحدا، حتّى أقترح عليك أن تقرأه
وتحفظ ما فيه من أسماء، حتى تدرك حينما أحدثك عن شخص ما أن هذا الشخص هو محمد ولي
زميلي في الغرفة!
- ولماذا كل هذا؟.. لماذا لا أبحث في جوجل وأحصل على النتيجة في ثانية وخلاص؟
- ياااه.. هل استعدت وعيك؟.. مرحبا بعودتك يا قارئي المفقوع.. للأسف نحن الآن
في عام 1996 ومحرك البحث جوجل لن يخترع قبل عامين من الآن.
- معك حق.. أعتذر لك.
- عجبا.. ما لك تبدو متفهما وهادئا هكذا؟
- ما زلت تحت تأثير المهدئات العصبية التي حقنوني بها بعد حوارنا السابق..
صدقني أنا أحاول أن أنفجر غيظا، لكني عاجز عن هذا أيها الـ... الـ... !
- ههههه.. ممتازة هي هذه المهدئات.. هكذا أفضل بالتأكيد.
***
محمد ولي شاب ريفي مثلي..
وهو من عجينة اختمرت جيدا في درجة حرارة 25 مئوية.. أو
لعلها لم تختمر بعد لأن الأباجورة لم تكن تشع الحرارة الكافية.. لست أدري، ولا ريب
أنني سأسأل الخباز الذي يتعامل معه عن هذا.
المهم أنه إنسان بريء لم توجه له النيابة أية تهم من
قبل، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بحوادث سرقة الغسيل من على أسطح المنازل، ولا سرقة
البط الذي "يقوم من النوم يغطس ويعوم وهات يا لعب".. (جدو علي) يؤكد أنه
بريء تماما من أي من هذه الشبهات.
وهو أيضا إنسان بسيط غير معقد، لدرجة أن أي طالب مبتدئ
في كلية العلوم يستطيع تحليله إلى عوامله الأولية ببعض العمليات الكيميائية
البسيطة، مثل إعطائه قطرات من حمض الستريك أو حتى زجاجة كولا.
وهو أيضا إنسان نقي لم يتلوث بعد، فهو يستخدم مرشحا
(فلترا) ليتنفس تحت الماء وهو يغرق يغرق يغرق.
وفوق كل هذا هو طيب جدا.. طيب كالأسد المتخم الذي يشعر
بالرغبة في النوم.
كلا كلا.. بل كالسلحفاة الحزينة التي فقدت بيضة متوسطة
الحجم مضى على إفرازها أسبوع واحد فحسب، وكانت تتوسم فيها أن تتكسر عن سلحفاة
تستطيع أن تسابق الأرنب فتسبقه، دون أن يكون الأرنب مغرورا ينام كالأحمق ويترك
السلحفاة تَكِدّ وتَجِدّ وتَحُثّ وتُغِذّ في السير (عاش الإصرار.. سلحفاة هكذا ما
شاء الله) والأرنب واثق من النصر، حتى يكتشف بعد فوات الأوان أن "الغرور هو
الرمال المتحركة التي تلتهم النجاح".
لكن أين يجد المرء مثل هذا الأرنب الغبي في الحياة
الواقعية، لتفيده عزيمته ضده؟.. سؤال يطرح بلحا!
لعلك تفهم الآن لماذا كانت السلحفاة تخطط لتلقين سلحوفة
الصغيرة كيف تحقن الأرنب بالمنوم قبل السباق، حتّى تكون لديها فرصة.
مع أني أرى أن من حسن تربية السلاحف، أن تغرس كل سلحفاة
في ابنتها الصغيرة احترام الأرانب وعدم الدخول معها في تحديات خاسرة.. فالحكمة
الحقيقية التي يجب أن نغرسها جميعا في سلاحفنا هي "رحم الله سُلْحُفا عرف قدر
نفسه"!
أو على الأقل يجب على السلحفاة أن تركب "توكتوكا"
إذا أرادت أن تسابق أرنبا، مستفيدة من الحكمة الرائعة التي تقول "الحلوة من
شبرا" وهي بالمناسبة حكمة أراها مكتوبة على تكاتك شبرا، وقد أثبتت جدواها في
أكثر من مناسبة، ليس هذا مجال سردها.
ذكروني لو صرت وزير تعليم السلاحف، أن أحذف قصة السلحفاة
والأرنب من المناهج، لأنها قصة غبية تُخرج جيلا أخرق دُون_كيشوتّي يحارب طواحين
الهواء بلا هدف وبلا حكمة، ويتوقع النجاج فقط في حالة كسل الآخرين!
لعلكم فهمتم الآن مغزى كل هذا التشبيه المعقد:
محمد ولي إنسان طيب.. طيب مثل....
لا.. كفانا تشبيهات اليوم، وإلا فلن يتبقى شيء في مناهج
التعليم يصلح لتلقينه للمحكوم عليهم به!
***
هل كانَ نوما؟
إذا كان الشيء الذي يرى فيه الإنسان نفسه يقضم نخلة
بأسنانه الحادة على مائدة في ملهى ليلي، ثم يحتسي برميلا من زيت المحركات ويتجشأ
باستمتاع، ثم ينهض ليراقص نملة ممشوقة القوام ترتدي نظارة سوداء وحذاءً طويل
الكعب، وترقص كالخنفساء المجنونة على إيقاع أغنية: "بابا أوبح".. إذا
كان هذا الشيء يعتبر نوما، فلا ريب أنني كنت نائما!
(ملحوظة: هذه هي نفس النملة التي كانت تحرس مستعمرتها في
تشبيه سابق، لكنها الآن في عطلة نهاية الأسبوع).
المشكلة أنه كان نوما مزعجا، لأني ظللت أسأل نفسي طوال
الحلم عن كيفية مراقصة النملة وهي تملك أساسا ست أرجل؟.. أو لعلها ثماني؟!.. أرسلت
صديقا ليحضر لي نملة لأتأكد من عدد أرجلها ولم يصل بعد.. إنني خائف عليه كثيرا!
كيف يمكن للمرء أن يراقص نملة لها كل هذه الأيدي أو الأرجل؟..
من أي يد أو رجل يمسكها، وهو أساسا له يدان اثنتان فقط؟
وهكذا أصابني ارتباك عظيم، وأنا لا أدري كيف أراقص
النملة، فغضبت مني واعتبرتها وقاحة، وصفعتني بيدها اليمنى الوسطى (لو كنت تجلس في
مدرجات الدرجة الأولى، فستراها وهي تصفعني بيدها الثانية من جهة اليمين.. أما لو
كنت تجلس في مدرجات الدرجة الثالثة، فستراها أيضا وهي تصفعني بيدها الثانية من جهة
اليمين.. مكان الأيدي لا يتغير تبعا لموضعك يا عزيزي!)
وتمضي النملة عني مغاضبة، فأهتف بها:
- ناني.. عودي يا ناني!
وهو أمر مُخزٍ، فأنا لم تصل بي التفاهة لدرجة مناداة
نملة محترمة بهذا التدليل السخيف، ولو أنني كنت في الواقع وليس الحلم، لكنت
ناديتها بكل وقار:
- نملة.. عودي يا نملة.. هل هذه عملة؟.. عودي يا نملة، أو أعمل حملة!
ثم أطاردها بسيارة قوية، متقمصا دور أدهم صبري، حيث أقود
بيدي اليمنى، وأطلق الرصاص بيدي اليسرى وأنا أهتف:
- مت أيها الوغد.
وهنا تبرز طائرة عمودية من العدم، وتطلق الرصاص على
السيارة، فأنحرف بها بقوة و....
ولكن هذه مغامرة أخرى، تخرج عن نطاق هذا الحلم، لهذا فهي
لا تعنينا هنا في أنجاونديري.
***
كان كابوسا بشعا، استيقظت منه وأنا أتصبب عرقا وأتنفس
بسرعة، ورحت أُبسمل وأُحسبل وأُحوقل، وأنا أحاول أن أزيح عن ذهني ذلك المشهد
المرعب.
وفي تلك اللحظة.. في تلك اللحظة بالذات.. في نفس ذات
اللحظة بالتحديد.. عادي جدا.. لم يحدث أي شيء.. لماذا أنت متوتر هكذا؟!
جلست على الفراش حتى هدأت نفسي، واستعدت رباطة جأشي (أم
فيونكة حمراء)، ونظرت في ساعتي، فإذا بها الثانية والنصف.
وهنا.. وفي تلك اللحظة.. في تلك اللحظة بالذات.. في نفس ذات
اللحظة بالتحديد، سمعت صوت مفتاح يدور في رتاج الباب، فنظرت إلى الباب وهو يفتح ببطء،
وذلك الشخص يتلصص داخلا إلى الحجرة.
يا أخي دعك من هذا التوتر.. هذه ليست قصة رعب.. هذا فقط محمد
ولي، يتسلل للغرفة محاولا ألا يوقظني، دون أن يدري أن سيف ناني سبق العَذَل (هل
أخبرتكم أنها كانت تمسك سيفا في رجلها اليسرى العلوية؟).
وفوجئ محمد ولي بي مستيقظا على غير العادة، فسألني بدهشة
بعد تبادل السلام:
- لماذا لست نائما كالخرتيت؟.. ألم تتناول جرعة الكافور اليوم؟.. أنت تعرف أن
لها أعراض انسحاب عنيفة!
قلت مطمئنا:
- لا تقلق.. إنني آخذ جرعاتي بانتظام.
- لماذا أنت مستيقظ إذن قبل منتصف الليل؟
- لا عليك.. إنه مجرد كابوس.
اطمأنّ محمد ولي، وهدأت نفسه، واستعاد رباطة جأشه (أم
فيونكة زرقاء)، وتمتم:
- الحمد لله.
وهنا.. وفي تلك اللحظة.. في تلك اللحظة بالذات.. في نفس ذات
اللحظة بالتحديد، انتبهت إلى شيء غريب في وجه محمد ولي!
وقفز توتري إلى الذروة.
***
..... تتبع بإذن الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.