المتابعون للمدونة

الخميس، 26 نوفمبر 2015

الملاعق.. ذكريات مدينجي مخضرم


اثنان في واحد (ليس برت بلاس)
(2)
تبدأ الأحداث في ذلك اليوم الجميل..
كنت قادما من مطعم المدينة الجامعية بعد وجبة الغداء، أمسك ملعقتي في يدي بفخر، وأرفعها كل حين لتحيي صديقاتها المستكينات في يد قوافل المدينجية الزاحفين على المطعم أو العائدين منه، في طقس يومي معتاد.
لاحظ أن المدينجي هو اختصار: "ساكن المدينة الجامعية" كما هو متعارف عليه بين مواطنيها ويختصرونه أيضا في قاموس اكسفوخس بـ MG.
وللملعقة في حياة المدينجي أهمية قصوى، لدرجة أن بعض المدينجيّة المنفيين في مجاهل مبنى 14 وما حوله، كانوا يذهبون إلى كلياتهم بملاعقهم صباحا، لأن قطع مسافة عدة كيلومترات ذهابا وإيابا ثم عودةً، ما بين المطعم المجاور لبوابة المدينة الجامعية والمباني البعيدة المنفية في نهايتها، كان يستلزم طاقة أكبر من التي تمنحها وجبة الغداء الهزيلة أصلا!.. وللأسف لم يكن اختراع التوكتوك قد دخل مصر حينها، وإن كنت لا أظن أنهم يسمحون اليوم باستخدامه كوسيلة مواصلات شرعية داخل المدينة الجامعية، وهو أمر يجب أن يطالب به هؤلاء الطلبة البؤساء.
بالنسبة لي وباقي طلبة كلية الهندسة، كنا في مبنى 4، وكان قريبا نوعا من المطعم، لذا لم تكن ثمة مشكلة.
ولكن، ولأن الست الحاجّة أم الاختراع ربنا يكرمها، قد عملت على ظهور حل أنيق بعد هذا بعام أو عامين، فقد وفر لنا الكشك الموجود داخل المدينة بالقرب من بوابتها، ملاعق بلاستيكية زهيدة الثمن، ما وفر على الطلبة معاناة الرحلات المكوكية من أجل إحضار ملاعقهم المعدنية، ووفر عليهم حرج الذهاب إلى الكليات بملاعقهم، والتي كانت كفيلة بتضييع مستقبل من يُمسك منهم متلبسا بحمل ملعقة داخل الكلية، لأن أمن الكلية كان سيصاب بالإسهال وهو يحاول تخيل كل الجرائم البشعة التي يمكن أن يرتكبها طالب بملعقته داخل الكلية!
فهل كانوا سيصدقون الطالب مثلا لو قال لهم إنه أحضرها ليتذوق بها طعم النجاح؟.. ولن تكون كذبة كبيرة، فلا فارق يذكر بين النجاح وجناح الدجاجة المجمدة التي يأكلها في المدينة!
***
تبدأ الأحداث في ذلك اليوم الجميل..
كنت قادما من مطعم المدينة الجامعية بعد وجبة الغداء، بعد أن التهمت فخذ الدجاجة بدمّه المتجمد، في الصينية المعدنية (السيرفيس) التي كان من النادر أن أجد واحدة منها نظيفة تماما، لأن من ينظفونها في عجالة كانوا يغسلون وجهها العلوي، ولا يعتنون بوجهها السفلي، الذي تلتصق به بقايا الطعام أثناء رص الصواني المتسخة فوق بعضها، ومن ثم حين يعاد رص الصواني المغسولة فوق بعضها، توسّخ كل صينية الوجه النظيف للصينية التي تحتها!!.. لكن على ما يبدو أنهم كانوا يحتاجون شيرلوك هولمز مثلي متخصص صواني مدينجية، ليفهموا هذا!
طبعا محظوظ هو من يأخذ أول صينية في كل رصة!!
وبالنسبة لشخص أنوف مثلي، يتقزز من بلع لعابه هو نفسه، احتاج الأمر شهورا من التدريب القاسي للتأقلم مع هذا الوضع في مطعم المدينة.
في البداية كنت أمنح صينية الطعام بكل ما عليها من أرز وخضار وربع دجاجة لأحد المدينجية المخضرمين، وأحتفظ فقط بالفاكهة، في مقابل أن آخذ فاكهته!.. وهو الأمر الذي كان يصيب سعيد الحظ الذي أعقد معه هذه الصفقة بالفرحة الهستيرية، وهو لا يصدق أنه قابل أخيرا مجنونا مثلي!.. ومن سوء الحظ أننا لم نكن نملك حينها هواتف محمولة، وإلا لأخذ نصف المدينجية رقمي، لتنسيق مواعيد الغداء!
وهكذا عشت أسابيع أتغدى ببرتقالتين أو بعض أصابع الموز، ولم يكن هذا أمرا معقدا لذلك الحد، نظرا لتاريخي الطويل مع الأنيميا منذ طفولتي، بسبب كراهيتي لمعظم أصناف الخضار واللحوم والألبان والأسماك والبط!.. لم أكن أحب غير الجبن والعدس والدجاج!.. لهذا ظللت طيلة حياتي نحيفا شاحبا، إلى أن رفعتُ الحظر عن اللحوم والبط، وساهم انغماسي في عالم البرمجة والحاسوب فيما بعد في تقليل نشاطي الحركي وزيادة وزني بعجلة تسارع فلكية!
لكن الأمر في المدينة لم يكن معقدا جدا، فبعد التهام الفاكهة كنت أذهب للنوم بعد العصر، وحينما أنهض يكون وقت العَشاء قد بدأ بعد المغرب، فأذهب لتناول الخبز والجبن أو المربى وأتحاشى الفول.
وقد ظللت على هذا إلى أن شارفت على الاختفاء، وبدأت أقول لنفسي:
-  ما دام كل من حولي يأكلون هذه المخلفات ولا يصيبهم شيء، فلا ريب أنني سأنجو!
في البداية أقنعني أولاد الحلال أن صدر الدجاجة ليس فيه دم متجمد مثل فخذها، وأنني أستطيع أكله برغيف الخبز المصاحب لوجبة الغداء.. ومن ثَمَّ بدأت مرحلة التفاوض على مبادلة الفخذ بربع الصدر، ونظرا لأن هذا لم يكن يفلح كثيرا، فقد شرعت في استخدام مهاراتي الرياضية والإحصائية للوقوف في الطابور في الموضع الذي يضمن لي الحصول على صدر الدجاجة في دوري، حيث كانت الصدور والأفخاذ توزع تبادليا!.. وقد حققت حصاباتي نتائج مبهرة، فصرت أحصل على الصدر في أكثر من 90% من الأيام!
(للاسف نسيت أن أضيف هذه المهارة لسيرتي الذاتية.. مع أنها تشهد بجدارتي كمهندس بمنتهى الجلاء).
وهكذا بدأت آخذ أوراق اعتمادي كمدينجي محترف!
وبالمناسبة: هذا الأمر نفعني جدا في السنة التي أمضيتها في الجيش.. فأكل الجيش كان مشابها لأكل المدينة الجامعية، باستثناء أنني في المدينة كنت آكل ربع دجاجة يوميا ما عدا الجمعة، بينما في الجيش كنت آكل قطعة لحم مجهرية الحجم أسبوعيا!!.. وطبعا كانت صواني الجيش أنظف لأن الوحدة التي كنت فيها كانت تحوي عددا أقل من عدد الطلبة في جناح واحد في دور واحد في مبنى واحد في المدينة الجامعية، لكن في المدينة كان كل طالب يأكل في صينية بمفرده، بينما في الجيش كانت تلك الوجبة منزوعة اللحم تكفي فردين بقدرة قادر!!.. وتحيا مصر!
والنتيجة أنني فقدت نصف وزني في الجيش في ستة أشهر، بسبب قلة الأكل وقلة النوم وقلة الراحة وقلة الآدمية وقلة كل شيء ما عدا الجهد البدني والضغط النفسي!!
-      يا أخ.. يا باشا!
-      مَن.. نعم؟
-      ركّز، رضي الله عنك.
-      مَن حضرتك وكيف دخلت إلى هنا؟
-  أنا قارئ تعيس الحظ فقعت مرارته بهذه الثرثرة، ولم يعد يعرف عن أي شيء تتكلم بالضبط!
-  آه.. مرحبا بك.. لحظة.. فقع.. فقع.. وجدتها.. الفَقَعُ: شِدَّةُ البياض والفاقِعُ: الخالِصُ الصفرةِ الناصِعُها.. وقد فَقَعَ يَفْقَعُ ويَفْقُعُ فُقُوعاً إذا خَلَصَت صفرته.. وفي التنزيل: "صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها".. وأَصْفَرُ فاقِعٌ وفُقاعِيٌّ: شديد الصُّفرة.. هل هذا ما تعنيه؟
-      يختاااااي!
-  آه.. لحظة لحظة.. لعلك تعني: والفَقْعُ: الضُّراطُ، وقد فَقَّعَ به.. وهو يُفَقِّعُ بِمِفْقَعٍ إِذا كان شديد الضُّراطِ.. وفقعَ الحمارُ إِذا ضَرطَ.. وإِنه لَفَقَّاعٌ أَي ضَرَّاطٌ.. هل هذا ما حدث لك؟
-      عيب عليك يا أستاذ.. هل تكتب على ورق كرنب أم ماذا؟
-  إمم.. معك حق.. معذرة.. لعلك إذن تعني التفْقِيع أي التشَدُّقُ.. يقال: قد فَقَّعَ إِذا تَشدَّقَ وجاء بكلام لا معنى له.
-      شغّااااال.. هذا هو ما أريد قوله لك.. أنت تُفقّع وتَفْقَع مرارة قرائك!
-  أو لعلك تقصد التفْقِيع أيْ صوْتُ الأَصابع إِذا ضرَب بعضها ببعض أَو فَرْقَعَها.. وفي حديث ابن عباس: "أَنه نَهى عن التفْقِيعِ في الصلاة".. وتَفْقِيعُ الوَردةِ: أَن تُضْرَبَ بالكفّ فَتُفَقِّعَ وتَسْمَعَ لها صوتاً.
-      هل يوجد شيء لديك له علاقة بتفقيع اليد على الوجه؟
-  لحظة من فضلك.. إممم.. للأسف لا.. ولكن أرى هنا كلمة الفقاقيع، ومفردها فُقّاعة.. آه.. أنت تعني أن مرارتك كالفُقّاعة وأنني فرقعتها.. فهمت الآن.
-      الحمد لله.. هل نركز إذن ونعود إلى موضوعنا؟
-      أي موضوع؟.. الفقع؟
-      يا نافوخي.
-  لحظة.. نافوخ نافوخ.. هذه من مادة نفخ أي عكس فقع.. ماذا نفختُ لك بالضبط؟.. أرى وَدْجَيك منتفخين ووجهك أحمر.. هل أنت مريض؟
-      عاااه.. نافوخي يا عالم.
-  آاااه.. لعلك تقصد "يافوخك".. اليافوخ: هو ملتقى عظم مقدمة الرأْس ومؤخرتها.. النافوخ خطأ لغوي شائع.
-      أبوس يديك.. ارحمني من برنامج "لغتنا الجميلة" وعد إلى القصة.
-      القصة.. آه.. يا رجل.. لماذا لم تقل هذا من البداية؟.. اسمع يا سيدي:
***
تبدأ الأحداث في ذلك اليوم الجميل..
كنت عائدا من مطعم المدينة، وأنا أحمل ملعقتي..
صعدت إلى الدور الثاني حيث غرفتي، وفي الممر الذي ترتص على جانبيه الغرف رحت أتأمل اللافتات السخيفة المعلقة على بعض الأبواب والمكتوب عليها: "نحن نرحب بك في كل وقت عدا الآن!".. والتي هي الصيغة المهذبة لعبارة: "انقشع يا جدع.. لا نريد زياراتك في أي وقت"!.. كثيرا ما كنت أجد بعض الطلبة يهرش رأسه في حيرة أمام هذه اللافتة، ويغمغم لنفسه:
-      لقد نفذت طلبكم وجئت في وقت آخر.. هذه عاشر مرة.. متى آتي بالضبط؟
فتحت باب غرفتي، وقبل حتّى أن أخطو إلى الداخل مددت يدي لأفتح شباك الغرفة المواجه للباب، فمساحة الغرفة كلها لم تكن تزيد عن نصف متر مربع، ولكنها ببراعة وتنظيم هندسي رائعة من القائمين على المدينة الجامعية استطاعت أن تحتوي على مكتبين وكرسيين وسرير بطابقين وصوان ملابس!.. ولا يهم أن تستطيع فتح باب الغرفة لآخره ولا زجاج النافذة لربعه!.. المدينة تقول لك: تصرّف!
وإن كان يحمد لهم أنهم جعلوا أعلى باب الغرفة فتحات خشبية للتهوية، فلولا هذا لمات الجميع مختنقين بثاني أكسيد الكربون ليلا في علبة السردين هذه!.. لكن هذا بالطبع جعل المذاكرة مستحيلة، مع كل الأصوات الداخلة مع الأكسجين!.. لكن الحياة تستحق بعض المشقة.. أليس كذلك؟
أما عن تحركك أنت وزميل الغرفة في هذه المساحة الضيقة، بل ووضع لوحات الرسم الهندسي على المكتبين واستخدام المسطرة حرف T، فكلها مهارات أساسية يتدربون عليها في الصاعقة، كنا نجيدها ونحن مغضمو الأعين، وكان من العادي أن ترى شقلباظات خلفية بارعة نقوم بها كأمهر لاعبي السيرك، خاصة حينما يأتي إلى الحجرة زائر أو أكثر.. نعم.. أنت لا تدري ماذا يمكن لنصف متر مربع أن يفعله إذا بارك الله فيه.
المهم.. خطوت نصف خطوة للداخل فاصطدمت بزجاج النافذة، ولكني لم أبال، بل التقطت الصابونة، وتوجهت لأغسل يدي والملعقة في الحمام.
في الممر المفضي إلى الحمام، مررت بالأعجوبة الهندسية الأخرى التي أبدعها القائمون على المدينة الجامعية، وهي مساحة فارغة من الطرقة وجدوا أنها تكفي لإعاشة أربعة أفراد وحرام إهدارها، فتفتّق ذهنهم عن فكرة لولبية (حلوة تفتق.. تشبيها للفكرة بالمفتقة) وهي تقفيل المساحة الفارغة بالخشب المغطى بالفرومايكا، حيث كانت تثبته على مسافات شرائط طولية من الألومنيوم، وهو الأمر الذي خلق هواية محببة لكل الذاهبين والعائدين من الحمام بملاعقهم (لاحظ أن غسيل الملاعق يتعلق أكثر باحتساء الشاي وليس فقط بالغداء، وأنت تعرف إدمان الشاي لدى الشعب المصري)، فقد كان الطلبة يشعرون باستمتاع مريض وهم يلصقون ملاعقهم بالفرومايكا أثناء سيرهم، لتحدث صوتا عاليا تقشعر له أبدان مَن في الغرفة، وتميّزه نغمات متفرقة لاحتكاك الملاعق بشرائط الألومنيوم!!.. وهو ما أدى إلى إصابة التعساء المقيمين في هذه الغرفة بحالات هستيرية، وكأنما لا تكفيهم مشاكل النوم والمذاكرة في غرفة فيها أربعة أشخاص!!
بالنسبة لي، فقد احترمت الورقة التي ألصقوها على الفرومايكا يبوسون فيها ملاعق المارين ويناشدونهم بالتوقف عن هذه الهواية الممتعة.. وتضامنا مني معهم، قررت أن أسرّي عنهم بالغناء بأعلى صوتي النشاز كلما ذهبت أو عدت من الحمام لأغراض يطول ذكرها، فقد كان صدى الصوت في الممر يصنع مع صوتي النشاز سيمفونية عذبة، لحسن حظهم أن الحائط الخشبي لم يكن يحرمهم من سماعها!
-      كابتن.. يا كابتن.. بسسسس.
-      أنت مرة أخرى؟.. ماذا تريد يا قارئي المفقوع؟
-      أبوس ملعقتك.. كفّ عن حكها في فرومايكا يافوخي، وادخل في القصة.
-      القصة؟.. أي قصة؟
-      القصة التي بدأت أحداثها في ذلك اليوم الجميل!
-  يااااااه.. كدت أنسى.. لكن ألا تريد أولا أن أحكي لك لماذا كان اليوم جميلا؟.. لقد كان الطقس رائعا ودرجة الحرارة تـ.... أستاذ؟.. مفقوع باشا؟؟.. يا لهوي.. هل مات أم فقد الوعي؟.. أدركونا يا قوم.. يا قوم.
***
..... تتبع بإذن الله.



 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر