(7)
مجنونان!
هتفت (أروى) بمرح:
- هل تسمح اليمامتان العاشقتان لغراب البين هذا بالجلوس هنا قليلا؟
ضحكت (هالة) بسعادة، بينما ابتسم (ماهر) وهو يشير لها
بالجلوس مجيبا:
- تفضلي.
جلست أروى بجوار هالة على المقعد المواجه لماهر في
القطار، ومالت على أذن هالة هامسة:
- يا مجنونان!
لكزتها هالة وهي تبتسم، بينما قال ماهر بمرح ملوحا
بإصبعه:
- لقد سمعت هذا!
ضحكت أروى قائلة:
- آسفة أستاذ ماهر.. لكن هذا أغرب شيء رأيته في حياتي.
تمتم بامتنان:
- لا عليك.. إن لك مكانة عندنا بعد الدور الذي لعبتِه في إهدائي هذا الملاك
الجميل.
غمزت لهالة ضاحكة، فلكزتها هالة مرة أخرى وخداها أحمران
دون أن تنبس ببنت شفة.
وعاد التعجب يتملك أروى، فأشارت إلى عربة القطار التي
امتلأت بأفراد من عائلتي ماهر وهالة قائلة:
- هذا أول حفل خطبة أحضره في قطار في حياتي.
ضحك ماهر قائلا بمرح:
- هذا أقل ما تنتظرينه من مجنونين!
ضحكت موجهة حديثها لهالة:
- لم أقل شيئا.. إنه يعرف حقيقتك.
صاحت هالة وهي تخبطها على كتفها في غيظ:
- كفى أيتها العابثة.. كفى.
- هكذا؟!.. الآن يقال لي "كفى" بعد كل الجهود التي بذلتها لتوقيع
رأسين مجنونين في الحلال؟.. هذا هو جزائي إذن؟ (واحتضنت هالة بسعادة حقيقة) ألف
مبروك يا حبيبتي.
ونهضت قائلة:
- ألف مبروك يا أستاذ ماهر.. اسمحا لي بالانصراف الآن بإرادتي، قبل أن يحدث
ما لا تحمد عقباه، ويصير وجهي أحمر من شربات خطبتكما.
ضحك الثلاثة في مرح، وانصرفت هي تاركة خلفها ماهر وهالة
يحلقان في سماوات سعادتهما.
وغرق ماهر في عيني هالة وصمت طويلا، فاعتراها الخجل،
وقالت بتلعثم:
- ما زلت لا أصدق أنك أقنعت عائلتك وعائلتي بهذه الفكرة المجنونة؟
مطّ شفتيه قائلا:
- إنها فكرة بسيطة.. لقد حجزت تذاكر الذهاب والإياب لكل مقاعد هذه العربة
التي شهدت قصة حبنا، لتكون شاهدة أيضا على بداية رحلتنا الرسمية معا.
- أنا محرجة من النظر إليهم.. لا ريب أنهم ينظرون إلينا الآن ويتهامسون على
جنوننا.
-
(مال نحوها هامسا) لا تنظري إليهم إذن.. انظري في عيني أنا فقط.
-
(احمر خداها هامسة) هذا أشد إحراجا.
ضحك في استمتاع، ويده تتسلل لتحتضن يدها، فسحبتها منه
برفق واحمرار خديها يتجاوز حد الخطر!
وهمس ماهر في نشوة:
- من كان يصدق أن هذا سيحدث، وأنك ستكونين لي يوما ما؟
سألته بتهديد تمثيلي:
- هل بدأت الندم من الآن أم ماذا؟
- ومن ذكر الندم يا أميرتي؟.. إنها اللذة أسكرت قلبي وعقلي، فجعلتني عاجزا عن
تصديق أن عروس البحر الأسطورية صارت ملكي.
- أنا أيضا لا أصدق.. أخشى أن يكون مجرد حلم جميل.
-
(ضاحكا وهو يشير حوله) حلم مجنون!
-
(ضاحكةً) صدقت!
ورفعت هالة يدها اليسرى لتحتضن بها الدُّبلة الذهبية
التي تزين يدها اليمنى، فنظر لها ماهر باسما، ورفع يده اليمنى إلى شفتيه ليقبل
الدبلة الفضية التي تزينها بِوَلَهٍ، فخفضت هالة بصرها مبتسمة في حياء.
وسألها ماهر معاتبا:
- لماذا أصررتِ على الاكتفاء بدبلتين، وقد كنت أريد أن أجلب لك شبكة قيمة
تليق بك؟
سألته بعتاب:
- أنتَ الذي تقول هذا، وأنت من علمني إعادة تقييم الأشياء بالعقل والقلب
والروح بدلا من الاقتصار على الحواس؟
- لا يمنع هذا أن نستمتع بمباهج الدنيا.. (قلْ مَن حرّمَ زينةَ اللهِ التي
أخرجَ لعبادِه والطيباتِ من الرزق).
- لا أعترض.. لكني أيضا أقدر وضعك المادي بعد أن تركت لخطيبتك السابقة كل
الذهب والهدايا التي أعطيتَها لها.
- كانت مصرة على إعادتها لي.. لكني أجبتها أنني لن أستطيع أن أعيد اللحظات
الجميلة التي أخذتها من عمرها، حتّى أستعيد بعض المتاع الزهيد.
- (بغيرة) وطبعا أخبرتها أن شيئا لن
يجعلك تنساها، ولولا هادمة اللذات التي خطفتك منها لكنتما الآن في شهر العسل.
ضحك في مرح، فسألته مغتاظة:
- هل تُسعدكَ كلماتي إلى هذا الحد؟
- (من بين ضحكاته) طبعا.. ما أمتع غيرة النساء!
-
(بغضب) أهذا كل ما يمكنك قوله؟
مال عليها هامسا:
- يمكنكني قول الكثير يا صغيرتي.. لكنك أغلى عندي من كل الكلمات.
نجحت كلماته في امتصاص غضبها، فتسللت بسمة سعيدة إلى
شفتيها، وهي تنظر في عينيه بحب، حيث رأت نفسها فيهما ملكة قلبه المتوجة بلا منازع.
وأخذتهما لحظة صمت قصيرة عاشا فيها عمر الكون كله، قبل
أن يسألها ماهر بجدية:
- هل من العيب أن يطور المرء أفكاره مع الزمن؟
- بالطبع لا.
- لقد قالت لي (سلوى) كلمة جعلتني أعيد التفكير في قيمة الذهب.
-
(بغيرة) سلوى مرة أخرى.. هل سنمضي ليلة خطبتنا نتكلم عنها؟
ضحك وقال يشاغبها:
- وما المانع؟.. ما دام الكلام عنها يكشف مقدار حبك لي.
زمّت شفتيها بغضب طفولي منحها جمالا خاصا زادها فتنة،
فقال:
- يمكنك أن تقولي إنها كانت نصف عقلي الأيسر.. الدنيا بكل مشاغلها
واهتماماتها.. لكنك أنت نصف عقلي الأيمن بانطلاقه وخياله وإبداعه.
- يا سلام؟!.. لم يعد ينقصني إلا أن تقول إنك لا تستطيع العيش بدون نصفي عقلك
معا!
-
(ضاحكا) فكرة رائعة.. كيف لم تخطر لي على بال؟
- (بتهديد مرح) هل تعلم يا أستاذ ماذا
يحدث لمن يسقط من قطار ينطلق بهذه السرعة؟؟.. حاول ألا تجعل هذا القطار يشهد نهاية
مأساوية لقصتنا!
- يا إلهي.. لا لا.. الطيب أحسن.
ومال نحوها هامسا:
- ثم إن الفيصل في الأمر ليس نصف العقل هذا أو ذاك.. الفيصل هو القلب، وأنت
قلبي كله.
انبسطت أساريرها، وتوردت وجنتاها في خجل ساحر، فقال
هامسا:
- لكن هذا لا يمنعني من أن أنبهك إلى عيب صغير اكتشفته فيك الآن.. يجب ألا
تعميك غيرتك عن اكتساب الخبرة حتّى من غريمتك.
- (تحفزت كقطة شرسة) آها.. غريمتي.. تعترف إذن أنها ما زالت تنافسني على
قلبك؟!
- آخ.. يبدو أن النساء في النهاية لا يختلفن في هذه النقطة مهما زادت درجة
عبقريتهن!
- الغيرة قانون الحب يا أستاذي.
- صدقت يا تلميذتي النابهة.
- فماذا قالت لك غريمتي عن الذهب إذن؟
- قالت إنها لم تكن تنظر إلى الذهب كقيمة مادية.. ليست من النساء اللاتي
يغويهن المال أو تحب التفاخر بما لديها على قريناتها.. لكنها فقط نظرت إلى الذهب
كهدية منّي تعبّر عن تقديري لها، وتذكّرها بي كلما نظرَتْ إليها، ويُشعرها ملمسها
الدائم حول إصبعها بانتمائها لي.
تحسست هالة الدبلة حول إصبعها، وهمست بغيرة:
- منطقها قوي.. لا أدري لماذا تخليت عن فتاة كهذه؟
ضحك، فضربته بيدها في كتفه ضربة خفيفة، فقال يستفزها:
- لا تحاولي إثارة ندمي على خسارتها يا هالة، فلم تكن بالخسارة الهينة.
قالت بجدية وهي تشعر بالحزن وتأنيب الضمير:
- أخشى أن تكون ظلمتها معك، وأكون أنا مشتركة في هذا الظلم.. أشعر أنها تملك
كل ما كنتَ تبحث عنه من الصفات، لكنّ تعلُّقك بي كحلم جميل بعيد المنال حجب عن عينيك
مزاياها.
- (عقد حاجبيه بتوتر) هالة.. لا أحب أن تمارسي معي لعبة تأنيب الضمير هذه..
لقد اختار كل منا طريقه وقُضِيَ الأمر.
قالت بغيرة شديدة:
- لكنها مظلومة فعلا.. من الخطأ أن ترفض الآخرين لمجرد أنهم يخالفونك في
طريقة التفكير.. كل ما تحكيه لي عنها يؤكد لي أنها لم تكن فتاة مسطحة تافهة عاجزة
عن التفكير لتنفر منها.. كانت فقط تمتلك خصوصيتها ومنطقها المستقل.
زفر قائلا:
- لست أرفضها ولا أنظر لها نظرة أقل تقديرا.. لكن أمر الحب والزواج يختلف عن
العلاقات الإنسانية العادية التي يمكن أن نقبل فيها اختلاف المبادئ والأفكار
والطباع.. وبالمناسبة: هناك ثلاث طبقات من التوافق لا يمكن أن ينجح أي زواج إن حدث
خلاف في طبقتين فيهما.
- كيف هذا؟
- هناك الطبقة الأساسية من المبادئ والمعتقدات، والاختلاف بين الزوجين فيها
يوقعهما في صراعات حول أهدافهما في الحياة نفسها ورؤيتهما لتربية الأبناء، وتقييمهما
لكل موقف من حيث الحق والباطل والصواب والخطأ.. هذا يحدث مثلا إن تزوجت إسلامية من
رجل علماني أو العكس.. وهناك الطبقة السطحية، التي تشمل الطباع والتصرفات اليومية،
والاختلاف فيها يمكن أن يحيل حياة الزوجين إلى جحيم، بسبب كثرة شجارهما وغضبهما من
أمور يومية تافهة متكررة، كاستفزاز الزوج لزوجته مثلا باستمراره في إلقاء ملابسه
في كل مكان بينهما هي تقدس النظام، أو استمرار الزوجة في إزعاج زوجها بمطالبات أو
ملاحظات تافهة وهو مندمج في مشاهدة مباراة كرة القدم.. وبين هاتين الطبقتين طبقة
متوسطة، تمثل كل الأمور التي لا تتكرر يوميا، ولها أهمية متوسطة من حيث الاعتقاد..
كالاختلاف مثلا في تقييم بعض الأشخاص أو ما شابه.
-
(باهتمام) هل يوجد تعريف دقيق لكل هذه الطبقات؟
- لا.. هذا يختلف تبعا لشخصية ومعتقدات وطباع كل زوجين، وهما من يحددان درجة
أهمية كل أمر بالنسبة لهما.. وتوافقهما في هذا التعريف هو ما يجعل الحياة بينهما
أيسر[1].
تفكرت في كلامه لحظات، قبل أن تقول بإعجاب:
- فكرة مهمة للغاية.. أشكرك على تنبيهي لها.
ونظرت له قائلة بحسم:
- لكنك لن تنجح في إلهائي عن الفكرة الأساسية التي كنا نناقشها!
- (ضاحكا) يا إلهي.. ما الذي أوقعت نفسي فيه بالارتباط بعبقرية مثلك!
ابتسمت بفتور، فقال بجدية:
- أنا أحترم سلوى كثيرا ولم أعبها بكلمة واحدة، لكني أحبك أنت يا هالة، وأريد
أن أُمضي باقي حياتك معك.
واحتضن يدها بيده رغم محاولتها غير المجدية لسحبها منها،
ونظر في عينيها مباشرة وهمس:
- ليس ذنبي أو ذنبك أنكِ سرقتِ قلبي قبل أن أراها يا هالة.. أنا أحبك أنتِ..
أحبك.. هل تفهمين معنى هذه الكلمة؟
سحرته لمسته ونظرته، لكن عقلها أبى أن يستسلم أن قالت:
- أفهمها وأحسها وأعيشها.. لكني أفهم أيضا أن هناك امرأة منحتْكَ قلبها، ولم
يكن ذنبها أنك ذهبت إليها بدون قلب.. لماذا ارتبطت بها إذن من البداية؟
- (بأسى) لأني يئست من أن أقابلك من جديد، فاستسلمت لعشرات الضغوط التي
تدفعني للزواج.. إلحاح أهلي.. احتياجي لتكوين أسرة.. خروج زملائي من دائرة
العزوبية تباعا.. صدقيني، لم أكن أملك حلا بديلا!
- (بألم) أتعرف أكثر ما يخيفني؟..
قدرة كل إنسان على تبرير ما يفعله.. لا يوجد إنسان على ظهر هذه الأرض يعجز عن
إيجاد ألف سبب لكل خطأ يقع فيه.. لكن المقياس في النهاية هو أين تقع هذه المبررات
من الحق والعدل.. فهل يمنع كل ما ذكرتَه لي الآن أنك قد ظلمت سلوى؟
نكّس ماهر رأسه لحظة، قبل أن ينظر لها قائلا:
- فليكن يا هالة.. دعينا نتعلم منها من جديد.. لقد حكمت هي بنفسها فدعينا
نستمع لحكمها.. قالت: إن عذاب شخص واحد أسهل من عذاب ثلاثة أشخاص.. هذا يحسم كل
شيء.
هزت هالة رأسها، وهمست بأسى:
- نعم.. ويؤكد أنها أحكم وأعمق وأنبل مما ظننتَها أنتَ بكثير.. خذها كلمة من
غريمة لها والحق ما شهدت به الأعداء!
تنهد ماهر وهي ينظر لها قبل أن يصيح بغيظ:
- يا مجنونة.. إنك ستفسدين حفل خطبتنا بهذه النقاشات يا مجنونة.
ابتسمت وهي تقول بحب:
- هذه النقاشات هي التي جمعتنا معا في الأساس.. ولا أظن أنها يمكن أن تفسد ما
بيننا أبدا.. فنحن متوافقان تماما، ومهما اختلفنا إن هو إلا اختلاف في الطبقة
الوسطى!
ضغط يدها التي في راحته هامسا:
- أرأيتِ؟. ها أنتِ ذي قد حكمتِ بنفسك!
انتبهت إلى أن يدها ما زالت في يده، فسحبتها ووجها يحمر
خجلا، مما جعله يبتسم وهو ينظر في عينيها بحب، ويقول وهو يغمز لها:
- دعينا نؤجل هذه النقاشات الآن، ولنذهب لالتقاط بعض الصور مع أحبابنا.. وبعد
هذا أمامنا العمر كله بحلوه ومره لنناقش فيه كل ما نريد.
همهمت باستسلام:
- معك حق يا عمّو.
-
(بعتاب رقيق) عمو؟.. ألا ترين أن هذه الكلمة كبيرة جدا عليّ؟
-
(مبتسمة برقة) بماذا تريدني أن أناديك؟
-
(بفتون) قولي لي يا حبيبي.. يا خطيبي.. يا حلم عمري الذي تحقق.
-
(ضاحكة) ألا ترى أنك صرتَ طماعا؟
- لقد تعلمت القناعة في عينيك يا هالة، فأنت أغلى من كل أطماعي.
وتلألأت دموع الفرح في عيني هالة، وهي تشعر بأنها أميرة
تعيش في عالم الأساطير.
وجذب ماهر يدها من جديد وهو ينهض.
وفي هذه المرة لم تحاول هالة سحب يدها من يده، وهي تتبعه
وتبتسم بسعادة.
لقد تركت مصيرها كله بين يديه، وقررت أن تتبعه ولو إلى
آخر الدنيا.
هكذا أحبه عقلها..
وهكذا عشقه قلبها..
وهكذا اعتنقته روحها..
وهكذا حلمت أن تكمل معه الحياة..
أحلى حياة.. إلى آخر العمر.
****
(تمت
بحمد الله)
بدأت
في عام 2006
وانتهت
يوم 7/11/2015
أعمال أخرى للمؤلف:
- لتحميل ديوان دلال الورد:
- لتحميل رواية "حائرة في الحب":
- لتحميل كتاب "خرافة داروين":
|
[1] التأمل الخاص بطبقات التوافق مقتبس
من حواراتي مع أستاذي المهندس العالم وصديقي العزيز د. محمد عطية العربي، وقد بناه
على خبرته الشخصية في الحياة.. فله الشكر على كل ما أفادني به.. زاده الله علما
ونفع به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.