طبقات التغيير
(من كتابات ما قبل الثورة)
هل نبدأ من الفرد أم من المجتمع؟.. هل نهتم بالصفوة أم بالقاعدة العريضة؟.. هل ننطلق من الواقع، أم نحلم بالمستحيل؟
هل يحدنا الممكن، فيقلل من سقف ما هو فعلا ممكن؟
ماذا نكتب، وكيف نكتب، ولمن نكتب؟.. ومن أين يبدأ التغيير؟.. وهل يجب علينا صنعه بأنفسنا؟
هذا المقال يصلك الآن عبر شبكة الإنترنت.. هذه الشبكة تتركّب من طبقات Layers، كلّ طبقة منها تختصّ بأداء مجموعة من الوظائف المحدّدة.
فمثلا: عندما تستخدم متصفح الإنترنت لقراءة هذا المقال، فأنت تستخدم طبقة التطبيقات Application Layer، حيث لا تشغل نفسك أبدا بكمّ التعقيدات التي تحدث في خلفيّة (استمتاعك) بتصفح المقال J.
تحت هذه الطبقة تقع طبقات أخرى كثيرة، مسئولة عن اتصال الأجهزة، وتفاعل التطبيقات وتجزئة البيانات وضغطها وتشفيرها وحمايتها وتجميعها والتأكد من وصولها بصورة صحيحة وكاملة.... إلخ.
وفي القاع تماما، تقع الطبقة الماديّة Physical Layer التي تمثّل البنية التحتيّة للشبكة، من أجهزة ووصلات ومصادر طاقة.... إلخ.
هذا الطراز في التصميم والتنفيذ يقدّم الفوائد التالية:
1- يمكن تصميم كل طبقة بطريقة منفصلة، بدون الدخول في تفاصيل الطبقات الأخرى، مما يؤدّي إلى تقليل التعقيد، تبعا للمبدأ الشهير: Divide and conquer .. أو ما يمكن أن نترجمه إلى: "فرّق تَسُد"!
2- من السهل تطوير وتحديث كلّ طبقة بدون التقيّد بتطوير الطبقات الأخرى.. كلّ ما يهمّ المصمّم هو مراعاة ظروف المُدخلات والمخرجات من كلّ طبقة، دون القلق بشأن التركيب الداخليّ للطبقات الأخرى، مما يجعل صيانة الطبقات وتطويرها في غاية السهولة.
3- من السهل ربط الطبقات المختلفة عبر بنى تحتية مختلفة وأنظمة تشغيل مختلفة في أرجاء العالم، وذلك لسهولة التوافق بينها، فكلّ طبقة تعتبر صندوقا أسود Black Box، كلّ ما يعنينا منه هو مدخلاته ومخرجاته وبروتوكول الاتصال به، دون القلق بشكل تركيبه الداخليّ.
هذا النموذج مستخدم في شبكات المعلومات، وفي شبكات الهواتف، بل وحتّى في جهاز الكمبيوتر الواحد، فأنت تتعامل مع تطبيقات سهلة الاستخدام، قائمة على نظام تشغيل معقّد، يتعامل مع مكونات الجهاز الماديّة.
بالمناسبة: حاول أن تتخيّل الآن الكوارث الناتجة عن نزع طبقة ربّة البيت في شبكة المجتمع، وتزييف وعي المرأة لإقناعها بأنّ عليها أن تتدخّل في عمل الطبقات الأخرى!!
ما علينا من كلّ هذه التفاصيل.. نريد أن نخلص إلى ما أريد إيصاله هنا، وهو يختصّ باستهانة البعض بما يكتبه المفكرون من أجل الإصلاح والتغيير، باعتباره في النهاية محض كلام لا يقدّم أو يؤخر.. مثل هؤلاء يجب أن يعرفوا أنّ المفكرين والمصلحين وعلماء الدين وكلّ من يقوم بأدوار شبيهة، ينتمون على طبقة خاصة في شبكة الحياة.. هذه الطبقة تختصّ بالتحليل والتفكير وتوصيف المشكلة، واقتراح الحلول.
من العبث إذن أن يطالبهم البعض بأن يقوموا بدور الطبقة العليا (طبقة التطبيق)، لأنّهم ببساطة لا يملكون أيّة صلاحيّات في هذا الخصوص.. على الأقلّ في مجتمعاتنا الحالية.. لهذا فهم يقومون بما يستطيعون القيام به، وهو اقتراح الحلول.. وليس عليّهم أن يقلقوا بخصوص من سيطبّقها، فمن النادر جدّا في هذا العالم أن يصل كاتب أو مفكّر أو عالم أو حتّى رجل دين إلى قمّة السلطة، لأنّ السلطة تتطلّب مواصفات أخرى في الشخصيّة تختلف عن مواصفات هؤلاء.
ورغم أن هذا يعني أنّ هذه الطبقة غير قادرة على تطبيق ما تدعو إليه، فإن ما تقوم به يظلّ حيويّا وجوهريّا وأساسيّا، للربط بين الطبقة الفيزيائيّة (الجماهير) وطبقة التطبيق (الحكام).. وبدون هذا الدور ينهار النظام كلّه، إمّا لاستبداد الحاكم بدون كابح، أو لشيوع الفوضى بين الجماهير بدون ضابط!
ومن دور هذه الطبقة أن ترسل رسائل الخطأ error messages لأحد الاتجاهين ـ أو كليهما ـ في حالة اختلال الجهة الأخرى.. ويجب أن تتضمّن رسالة الخطأ وصفا دقيقا للمشكلة، واقتراحا للحلّ، دون أن يفترض أحد أنّ هذه الطبقة قادرة بمفردها على تطبيق هذا الحلّ!
هل اتضح الكلام أم نقول المزيد؟
نقول المزيد: إنّنا نقدّم هذا الحلّ الذي يبدو مستحيلا حاليّا.. هذا الحلّ قد يقنع الحكام، أو قد يدخل في تكوين الأجيال الجديدة، والتي من سماتها في مرحلة الشباب أنّها لا تعرف المستحيل.. وفي لحظة ملهمة فارقة في تاريخ الأمم، يظهر ذلك الشخص القادر على تحقيق هذا (المستحيل).
بناء على هذا يتضح أنّ توصيف الحلّ الصحيح ـ مهما بدت استحالة تطبيقه ـ هو الخطوة الأولى نحو تحقيقه.. أمّا لو قنعنا مع من قنع بفكر الممكن والأمر الواقع واعتبرناه حلا نهائيّا، فسيستمرّ التدهور باطّراد، لينخفض سقف هذا الممكن أكثر وأكثر، ويزداد الواقع وقوعا كل يوم!!..أليس هذا ما نحن فيه الآن؟!!
إنّ الفشل يولّد المزيد من الفشل، بينما يولّد النجاح المزيد من النجاح.. هذا نظام تغذية مرتدة تراكمية Positive Feed Back حيث تدخل النتيجة في تعزيز الأسباب، وتؤدي الأسباب إلى تكريس النتيجة!.. ولا يكسر هاتين الدائرتين، إلا نشوء جيل جديد يتحدّى المستحيل، رافضا أن يكون الفشل من مسلّماته (فيبدأ النجاح)، أو جيل جديد يتراخى عن العمل، مقتنعا بأنّ النجاح من مسلّماته بدون مجهود (فيبدأ الفشل).
وهذا وذاك يبدآن بفكرة.. ومن دون هذه الفكرة لا يمكن تغيير أيّ شيء.
هَب أنّنا صدّقنا أنّ أي حلّ مستحيل ولا يمكن تحقيقه، ولهذا سكتنا عنه.. فمن سيعمل من أجله أصلا؟.. فإذا لم يعمل من أجله أحد، فكيف سيتحقّق؟.. وإذا قنعنا بأنّه لن يتحقّق أبدا، فكيف سيحدث أيّ تغيير على أرض الواقع؟
ولكن.. يظلّ البعض يعتقد أنّنا بهذا نطالب بنبذ الجهود الصغيرة والخطوات التدريجيّة، ونحلم بالقفز فوق الخطوات المنطقيّة.. ولا أدري من أين أتوا بهذا الاعتقاد!!
نفس هذه الجهود الصغيرة والخطوات التدريجيّة والخطوات المنطقيّة ستظلّ تُتّبع.. كلّ ما سيختلف هو لضم كلّ حبات الخرز في خيط واحد، بدلا من بعثرتها بلا هدف كلّيّ.
أنا هنا أدعو إلى