المتابعون للمدونة

الأربعاء، 13 يوليو 2011

دعوة للتصالح مع الشرطة

اذهبوا فأنتم الطلقاء
قالها الرسول لكفار مكة الذين عذبوا أصحابه وقتلوهم، فلماذا لا نقولها للشرطة؟
ما أحوجنا إلى الصفح عند المقدرة

كل إنسان في مصر الآن يطالب بالثأر للشهداء، حتى لو لم يكن يعرفهم، أو يعرف ملابسات موتهم.. ومن رأيي أن ولي الأمر وولي الدم هما فقط المسئولان عن القصاص، وليس لأحد آخر التدخل، فكل الفتن تبدأ بمثل هذه الذرائع، ومن أجل الثأر للشهداء، قد يسقط المزيد من الشهداء في صدامات بين المواطنين والمجندين في الجيش والشرطة، فيزيد الثأر ويزيد القتل وهكذا إلى ما لا نهاية.
في الثورات هناك مسار من اثنين: إما أن تكون ثورة دموية ويبدأ الانتقام العشوائي وقتل كل أعوان النظام السابق وذبحهم بدون محاكمات، وإما أن تكون ثورة سلمية تعاقب الرموز وتتصالح مع من عداهم، وهذا هو ما يناسب ديننا، وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة حينما قال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء، وهم من قتلوا أصحابه وأقاربه وعذبوهم وحاربوهم وطردوهم من ديارهم وأخذوا أموالهم.. أي أنه نفس وضع نظام مبارك وزيادة عليه الكفر!!
فلماذا لم يطبق الرسول صلى الله عليه وسلم حد القصاص وحد الحرابة على أهل مكة؟.. هل كانت دماء أصحابه رخيصة؟
من وجهة نظري ـ وأرجو أن يصححني أهل العلم ـ أن أحداث الفتن والثورات والحروب تختلف جذريا عن حالات القتل الفردية، والجنود الذين يوجهون لقل الناس ينفذون أوامر عسكرية، فهم لا يقتلون بنية القتل العمد، وكثير منهم مغلوبون على أمرهم، ويمكن تصفيتهم في الحال إن قاموا بعصيان الأوامر (وقد رأينا هذا يحدث في ليبيا وسوريا بالمناسبة).. كما أننا نعلم جيدا أن رجال الشرطة تعرضوا لغسيل مخ مكثف طوال ثلاثين عاما، لإقناعهم بأن التيارات الإسلامية هي جماعات إرهابية معادية للوطن، وهي المسئولة عن قتل السادات والعنف الذي حدث في التسعينيات، ولو تركوهم فسيغتالون كل قيادات الدولة، ولو حكموا الدولة فسيزجون بنا في حرب مع إسرائيل تدمر مصر!!.. وكل هذه الحجج يقتنع بها الكثيرون من العامة والمثقفين بالفعل!!.. ولعلكم تذكرون أن كل تصريحات الحكومة ووزارة الداخلية أثناء الثورة كانت تؤكد أن الإخوان المسلمين هم من يقف وراء هذه الأحداث، وهذه رسالة لرجال الشرطة للعمل بمنتهى الإخلاص للقضاء عليهم لحماية مصر!!
وعلى الناحية الأخرى، أحرق الثوار عربات الشرطة وأقسامها وقتلوا بعض المجندين والضباط.. فلماذا لا نعاقبهم بدورهم على هذا؟.. أليست هذه جرائم؟.. ألم يخرجوا عن الدستور والقانون أصلا حينما طالبوا بإسقاط النظام، وهي جريمة يعاقب عليها القانون؟.. فمن من الطرفين على حق: من يحارب الدولة أم من يدافع عنها؟.. ببساطة: الطرف المنتصر هو الذي يعتبر نفسه بطلا، ويعتبر الطرف الآخر مجرما، ولو فشلت هذه الثورة لرأينا قادة المعارضة والإخوان يتأرجحون الآن على المشانق (ما عدا البرادعي طبعا لأنه أول من سيهرب إلى الخارج)!!
لقد كنت في أشد الغضب أثناء الثورة وهاجمت المجرمين الذين قتلوا الثوار، وطالبت بالقصاص ممن أمر بذلك وممن نفذه.. لكن الآن حينما أنظر للصورة من بعيد وأفكر بروية، أرى الكثير من المخاطر في الأمر:
فالانتقام الجماعي يولد المشاكل ولا يحلها، لأن كل واحد ممن سنحاكمهم له أسرة وأهل وأصدقاء وتلاميذ تربوا على يده، وكثرة القتل والسجن ستوغر صدورهم وتحدث شرخا في المجتمع، وتترك أحقادا لعقدين قادمين أو ثلاثة.. كما أننا جميعا سنتحمل نفقات إعالة أسر كل هؤلاء من ميزانية الدولة.
كما أن محاسبة الضباط الذين نفذوا القتل ستجر وراءها كل القيادات العليا والوسيطة التي أصدرت الأوامر ونقلتها إليهم..كل أمين شرطة وقناص وضابط أطلق النار سيقول تلقيت أمرا من رئيسي فلان.. ورئيسه فلان سيقول تلقيت أمرا من رئيسي فلان.. وسيظل الأمر يتصاعد إلى أن يصل إلى وزير الداخلية.. وهذا معناه أن كل قيادات الشرطة العليا والوسيطة ستحاكم.. وهنا أمامنا احتمالان:
الأول: أن تبرئهم المحكمة وتلقي اللوم على حبيب العادلي وحده (ومعه مبارك)، باعتبار أن كل من تلقى أمرا كان يلتزم بالطاعة العسكرية وقوانين الشرطة.. أنا أرجح هذا الاحتمال.
الثاني: أن تحكم المحكمة على عدة آلاف من البشر بالإعدام.. وهذا لا يمكن تنفيذه عمليا، لأننا في هذه الحالة سنحاول إعدام جهاز أمني مسلح وسندمر هيكل جهاز الشرطة!!.. فمن الذي سيطبق القانون على الشرطة؟.. هل سيدخل الجيش في حرب مع الشرطة؟.. وهل سينتظر الضباط الموت في سلام، ومعهم أسلحة وبلطجية وحزب واطي منحل ورجال أعمال لصوص، وأمناء شرطة ومخبرون، وضباط أمن دولة، وأسرار تدين كل رموز مصر؟!!.. وألن يصحب ذلك حالات تمرد وعصيان وأعمال انتقامية واستقالات جماعية من الضباط؟.. وألن يؤدي هذا إلى عزوف الشباب عن دخول هذا جهاز الشرطة، باعتباره عدوا للشعب ومن يدخله معرض للإهانة من الناس، والقتل من البلطجية، والإعدام إن نفذ الأمر بضرب النار!!
أظن أن المجلس العسكري يقدر كل هذه التبعات والمخاطر، ويعرف أنه إن قرر معاقبة رجال الشرطة، فسيدخل في حرب معهم ومع باقي عصابة مبارك، وهي حرب ستدمر الدولة بالتأكيد!!
لكل هذا أرى أن معاقبة رموز الفساد والتصالح من رجال الشرطة هو الحل الوحيد المتاح.. هذه المصالحة تتضمن اعترافهم بذنوبهم واعتذارهم لأسر الشهداء، ودفع الدية، وتحويلهم إلى أعمال إدارية بحيث لا يتعاملون مع المواطنين أو يحملون السلاح مرة أخرى.. لكن مع محاكمة كل من يثبت تورطه في قضايا فساد أخرى، فهذه جرائم ناتجة عن غياب الضمير، وتختلف تماما عن تنفيذ أمر عسكري بإطلاق النار.
وقد لفت مقال للصديق عمرو علي، نظري إلى أن الفتنة الكبرى بين الصحابة في عهد سيدنا علي كانت بسبب مطالبة فريق من الصحابة بالثأر من قتلة عثمان.. وبسبب هذا الطلب الذي يبدو مشروعا، تم الخروج على خليفة راشد، ونشبت حرب أهلية، انتهت بقتل ابن عم رسول الله وزوج ابنته، وكان من تداعياتها قتل حفيدي الرسول، ومئات من الصحابة، وظهور الشيعة والخوارج والمعتزلة وعشرات الفرق الضالة، ومن يومها إلى الآن قتل ملايين المسلمين في حروب عبثية، وما زال الشيعة إلى اليوم يطالبون بالثأر لدم الحسين، وكأننا نحن من قتله!!
مثل هذه الدعوات ظاهرها براق، وباطنها الخلاق والشقاق والنفاق، وتؤدي إلى الحروب الأهلية والقتل بالجملة وتمزيق المجتمع.
لهذا أخلص إلى نفس ما خلص إليه الصديق عمرو علي: يجب أن نرفع شعار "الدولة أولا" وليس "العدل أولا"، لأن الدولة هي التي تقيم العدل، بينما يهدره ويهينه تناحر الفرق المتاجرة بدم الشهداء بهدف الوصول إلى السلطة.
من المهم أن نقدر حجم المخاطرة عند معاقبة جهاز أمني مسلح كالشرطة، وأرى أن من الحكمة كسب الشرطة إلى صف الثورة، بدلا من دفعها إلى صف أعداء الثورة وهم كثيرون بما يكفي.
يجب ألا تجرنا الرغبة في الانتقام لألف شهيد، إلى قتل مئات الآلاف من الأبرياء، وتدمير وطن يعيش فيه أكثر من 80 مليون إنسان!.. ففي النهاية تظل مصر أكبر من الجميع، وإن كان من ماتوا شهداء حقا ونحسبهم كذلك بإذن الله، فهم لم يموتوا ليجعلونا نتقاتل بسببهم وننشر الفوضى ونعطل مصالح الناس، وإنما ماتوا ليجعلوا مصر أفضل وأقوى وأعز.
وفي النهاية هذا رأيي في هذه القضية الشائكة والله أعلم.. وأنا مقدر تماما لمشاعر أهالي شهداء الثورة، وشهداء ما قبل الثورة.. لكني أخشى أن يصير في كل بيت شهيد إن حدثت صدامات دموية وانهارت الدولة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر