المتابعون للمدونة

الثلاثاء، 17 مايو 2011

أحلام كليوباترا

أحلام كليوباترا

غرّدي من آلاف الحناجر..
ابسطي جناحيك الرقيقين على قلبي..
أنا أطياف النصر الآتي/السحيق..
امتزجي في تلافيفي وغيبي..
يكن لك كلّ الوجود، وأكن أنا بك كلّ الحياة.
***
- هل تعرفين أنّك تشبهينها كثيرا؟
- من؟
- كليوباترا.
***
هنا كانت حبيبتي تخطو مُعطرةً بابتسامتها، سابحة في أحلام العظمة.
كنت أرقبها مذهولا، مخلوب اللب، طائر الخفقات مضطرب القلب.
كان الليل لا يجتذبني رغم غموض الليل الأزليّ.. كان ما يجتذبني شعر حبيبتي الأسود الفاحم يتطاير في النسيم كمعرفة جواد بري..
كان الفجر لا يجتذبني رغم شرود الفجر الأزليّ.. كان ما يجتذبني رائحة النَّعناع في شعر حبيبتي، وهي تتمايل كالنشوة وتمرح بين الحقول كَهبَنَّقة ناضرة، وتداعب بقدمها الزنابق الغافية على حافة البركة الصافية.
ماذا تحمل الطيور في أحلامها وهي تمخر الهواء في رحلاتها البعيدة؟
ولمن تغني البلابل أجمل أغنياتها إن لم يكن لها؟
ليت المروج الخصبة تفتح أذرعها لشآبيب النور الدريّ، ترتع الأزهار وترقص الأطيار استعدادا لمقدم حبيبتي..
تخطر فوق عشب قلبي وتناديني في دفء:
-       أستاذ وحيد.. أستاذ وحيد.


نداؤه الهامس المليء باللهفة والرجاء، كزهرة عطشى تتعلق بقطرة ندى تنزلق على وريقاتها.
التفتُّ إليه بشرود مطلق، ولربما لم أكن أراه حقيقة وأنا أتطلع إليه.
ولما لاحظ شرودي كرّر بنفس اللهفة الهامسة والرجاء:
-       أستاذ وحيد.
-       هه؟
وحاولتُ أن أبتسم وأنا أعيد تأمله.
شعرها أسود بل أشد سوادا من الليل ومن حبوب أشجار الخوخ البري، وشفتاها حمراوان بل أشد حمرة من العقيق ومن البلح الناضج، وجسدها متناسق كغزال يسابق الرياح بين المراعي الفسيحة.
كَم غَرير بحسنها قال: "صِفها"، قلتُ: "أمرانِ: هيّنٌ وشديدُ"
يسهلُ القولُ إنها أحسن الأشياء طرّا ويصعبُ التحديدُ
أهي شيءٌ لا تسأمُ العينُ منه أم لها كلَّ ساعةٍ تجديدُ[1]؟
-       أستاذ وحيد!
للمرة الثالثة كرّرها، ولم تَخْلُ من ضجر ولم تتخلَّ عن رجائها.
كان نحيفا.. نحيفا كلحظة شرود.. طويلا كتنهيدة حزن.
وكان شاحبا.. ثغره الرفيع يحمل ابتسامة باهتة كلوحة قديمة!
وأدهشني منظره، رغم أنّها ليست المرّة الأولى التي أراه فيها.
-       ماذا يا أستاذ....؟
اندفع يكمل لي الاسم لما لاحظ استعصاءه على ذاكرتي:
-       دانش.. محمود دانش لو تذكر.
-       بالطبع أذكر.
وتصافحت أيدينا عاجلا، قبل أن يستعيد يده ويترك لي رعشتها!
صمتَ لحظة، قبل أن يجذبني بغتة من ذراعي بانفعال عجيب قائلا:
-       لماذا لا ننتحي مكانا يمكننا أن نتحدث فيه؟
تركت له نفسي وتركت لها دهشتي، دون أن أنبس ببِنتِ شَفة.
توقف دانش غير بعيد، ومال عليّ قائلا في عصبية:
-       لقد رفضوه.
-       رفضوه؟
-       نعم.. اختراعي.. اختراعي العبقريّ.
-       أه.. حدثتني عنه أنت من قبل.. هو؟
-       أجل.. عابرا.. ولقد.. لقد رفضوه.
كان وجهه مربدا.. وعاد يجذبني فجأة من يدي تجاه سيارته قائلا:
-       لماذا لا تأتي لتراه؟
أوقفته تلك المرة قائلا برفق:
-       معذرة يا أستاذ دانش.. حقيقة لست في حالة تسمح لي باصطحابك.
كاد يبكي وهو يهمس في ضراعة:
-       أرجوك.. إنه حلم عمري.
آه يا حلم عمري..
كانت ترتدي ثوبها القشيب المُوَشَّى بالقُصُب الذهبية، وخطواتها الملائكية ترفرف على المرمر قادمة نحوي في جلال أبيّ.
هُرِعتُ نحوها وأنا أهتف بكلّ جوانحي في فتون:
-       يا للروعة!
ضحكتْ ضحكة عذبة، ترددت كألحان الكون السرمديّ في أبهاء الرخام الفسيحة، وتركت راحتها تذوب في راحتي، ونحن نسير سويا إلى الأريكة الفسيحة لنجلس في صمت، قبل أن أقول في شغف:
-       ما أجملَكِ أيتها الحلم العزيز!
-       أنطونيو.. أنت طيف عمري الجميل.
-       إذن فلست تعشقين يوليوس؟
-       أنا أذوب فيك وحدك!
-       ولا فتحي؟
-       أتسمعني؟.. أنا امرأتك أنت فقط.
-       [تنهدتُ في حيرة] إذن لماذا يُشيعون عنك أنّك تبيعين جسدك لكلّ من يوصلك إلى العرش؟!
-       أنا لا أطلب عرش روما يا حبيبي.. إنّه مجرّد ثوب رائع يروقني.
-       ولكني في ضائقة مالية وجائحة شديدة و....
-       كفى أعذارا.. منذ اليوم لا بد أن تكون إمبراطورية روما كلها خاضعة لنا.
-       ولكن الوغد أكتافيوس يـ....
-       لا تتعلل يا وحيد.. إنني أريد الفستان أو أقسم أن....
-       لا تحتدي هكذا.. سريعا ما تكشفين عن وجهك الحق!
كليوباترا رائعة.. تنهض كانسلال النغم من شَفتي الناي، وتسير مُغضَبة مبتعدة عني.
وتنهدتُ في حنق، وهمهمت:
-       لا جدوى!.. لقد رفتوني لتوّهم.
فغر فاه وهو يكرر:
-       رفتوك؟
حرقت أُرَّمي حنقا وقلت:
-       نعم.. فعلها شهير الوغد.
وحكيت له باختصار كيف أنهم في إدارة براءات الاختراع عندنا بلا ضمير، وكيف يقوم زميلي (شهير) بسرقة الاختراعات ونسبتها إلى بعض المخترعين المشهورين الذين يتواطئون معه، وكيف يقتسمون دماء المظلومين في جيوبهم في النهاية من أرباح الاختراعات الطائلة!
سألني بحيرة:
-       وما دخلك أنت بكل هذا؟
-     دخلي أنّك زوجتي، وأنا أحبّك وأغار عليك.
-     بل تحاول قتلي.. لماذا لا أعيش كما أريد؟.. لماذا لا ألبس كما أريد؟.. هل تريدني أن أكون أقل أناقة من صاحباتي لمجرد أنك تريد حبس جمالي لك وحدك؟
-       سحر.. أنت في قلبي كلّ شيء جميل.. لا تحطمي هذه الصورة أرجوك بمثل هذا الكلام الرهيب.
-       بل أريد أن أعيش.. وما شأني أنا بصورتك هذه؟.. صورة متربة باهتة قبيحة.. أنت تمزح حتما.. لو لم تكن تمزح فأنت تعاني من مشكلة حقيقية!
بمرارة قلت:
-  هذه هي مشكلتي حقا.. أنا ذلك الأحمق الذي لا يصمت عن حق ولا يرضى عن باطل.. لقد أبلغت مدير الإدارة، فكان أنّه هو أيضا واحد منهم!!.. دبر لي وشهير مكيدة قاتلة، فتسللا إلى حاسبي الشخصي وعبثا بمحتوياته بما يثبت أنني أسرّب تفاصيل الاختراعات التي تأتينا، وساوماني: إمّا الرفت في صمت، وإما إبلاغ الشرطة.
كانت نفسي قد فرهدت وألفيتني عاجزا عن الاستطراد، فأخذت شهيقا مريرا، وأطرقت في إعياء.
كانت سبعة أيام قد مضت دون أن أشاهد حبيبتي، ودخلني السأم وانتابني الذهول ولم يعد جسمي يتعرف على نفسه.. إذا عادني كبار الأطباء فدواؤهم لا يشفيني، ولا يستطيع الكهنة الوصول معي إلى شيء.. إن اسمها هو الذي يشتد به عَضدي.. إن تردّد رسلها عليّ هو الذي يبعث فيّ الحياة.. إن حبيبتي أنجع لي من جميع الأدوية، وأكثر فائدة من كل الكتب.. إن زيارتها تشفيني، وإذا ما رأيتها تدب العافية في جسمي.
لكن حمدا للخالق.. أخيرا.. ها هي ذي قد أتت.
همست في أذنها في فتون:
-  كليوباترا.. يا ملكة الملوك وسيدة مصر والشرق.. يا حبيبتي يا مهجة الفؤاد.. دعيني أرتشف من شهدك المصفّى وأطير إلى موائل الأيائل النزقة، حيث تمرح بجوار الغدير وتمتزج بين قطعان الغزلان الرائعة.
همسَتْ في دلال:
-       أتذكر يا حبيبي؟
- أذكر ماذا يا سَحَر؟
-  تذكر ليلة عرسنا.. كنت تقسم أن تذهب إلى المِريخ لو استدعى الأمر إحضار جوهرة نادرة من هناك.. يبدو أنّك نسيت.. ألم تعد تسحرك رموشي؟.. ألم تعد عيناي كافيتين لاستحواذك؟.. ألم تعد تسكر من جمالي؟.. أظنّك الآن سئمت مني.. لماذا يا وحيد؟.. لماذا؟
-       لماذا أنتِ كلّ هذا؟.. أمن أجل مجرد فستان؟
-       لا تحقّر الأمر يا أنطونيو.. إنّه المجد.. السطوة.. الخلود.
-  لا خلاف يا مليكتي.. لك كلّ ما تريدين.. لكن تعالي الآن ها هنا، ودعيني أمتع عينيّ بمذاق عينيك.. هاه.. ما أروع أن تتلامس أنفانا ونغيب في دنيا الأزاهير والطير!
-       ما رأيكَ إذن في رحلة نيلية بسفينتي؟.. أنا وأنت وحدنا.. أتذكر آخر رحلة لنا؟
وابتسمتُ شاردا في براءة عينيها.
انتزعني من شرودي بغتة عندما وضع يده على كتفي هامسا في ود:
-       لا تحزن.. مصير الحق الظهور.
وقادني دون مقاومة مني، حيث لم أدرك إلا وهو يقود سيارته الصاروخية وأنا جواره.
سألته بغتة في حدة:
-       إلى أين؟
ابتسم قائلا:
-       إلى تحفتي الحبيبة.
وانتفخت منه أوداج الفخر موضحا بصوت يحمل الأهمية القصوى:
-       إلى اختراعي.
واندفع يتحدث كالمدفع وعيناه لا تفارقان الطريق:
-       إنه تحفتي الفريدة.. اللاقط الكوني للأفكار.
-       اللاقط ماذا؟.. لم تذكر لي ذلك من قبل.
- [مواصلا بحماس] تخيل لو أنّك استطعت أن تعرف فيم تفكر زوجتك وماذا تفعل الآن؟
كانت منهمكة في تصفيف شعرها الحريري المبتل، وبيدها مرآة على هيئة قرص من الفضة اللامعة، لها مَقبِض من الآبنوس والذهب على شكل عمود يماثل ساق نبات البردي.
بدت كحورية من حوريات الجنة ورموشها الطويلة مكتحلة باللون الأسود الشديد، وعطر السونتي يفوح منها مختلطا ببخور آنتي الذي يُعبّق الغرفة.
ثم جاءت وصيفتها لتعمل لها مجموعة من الضفائر الصغيرة، بدت معها أكثر روعة وروعة.
ثم وقفنا معا في الشرفة الفسيحة، نسبح بين نسيم المروج الخضراء الممتدة حتّى مرمى البصر.
احتضنت أناملها بحب سائلا:
-       كليوباترا.. هل لا زلت تحبينني؟
-      أحبك يا وحيد، حب الأوزات الجميلة للينبوع الذي تسبح فيه.
-      ولكنك يا سحر تبدين مختلفة في بعض الأحيان.
-       كلا يا حبيبي.. إنني فقط أكون حمقاء!.. هلا غفرت لي حماقاتي؟
- [متنهدا بأسى] .............
- [بدلال] هل بتّ تشك في حبي؟.. أشق لك قلبي لتعرف من يحتله؟
انتفضت باضطراب وهمهمت:
- لا.. ربما كان الأفضل ألا أعرف هذا أبدا!
واصل متجاهلا تعليقي:
-  كان الهاجس الذي يراودني دوما ويؤرقني: كيف تتوارد الأفكار على عقولنا.. الفكرة.. البارق العجيب الذي يشق غيوم عقولنا بغتة.. بغتة كالموت.
كررت بدون استساغة:
-       الموت؟
-    [وعيناه تبرقان] صدقني لا فارق.. كلاهما لا يد لنا فيه.
-     لست أدرك إلاما ترمي يا دانش.
-   الحقيقة وحسب.. أتدرك كيف قفز الحلّ إلى ذهني؟.. كانت فكرة بدورها، ولكنها غريبة.. إن عقولنا أشبه بترانزستورات فائقة تستقبل إلهاماتها من الكون.. وكلّ الأفكار والخواطر والأحلام والخيالات وخَلاها عبارة عن معادلات معقدة تتألف منها حياتنا كلها.. وما الفارق بيني وبينك وبينه وبينهم إلا الدوائر التي تنبني عليها أمخاخنا.. المعادلات التي يمكننا استقبالها وتحليلها.. الـ....
الليل حينما يعوي، ويهبط الظلام على العيون الساهدة، وتنطفئ النجوم البعيدة.
تنهدَتْ مكروبة، وهي تدور في شرفتها بعصبية.
لكم تحسد الفراشات والزهور بل وحتّى الضفادع.. لا ينغّص حياتها تطلعات أكبر من عمرها.. تعيش هانئة على حافة بركة الزنابق، تسابق النسيم وتحلم بالربيع، وتنطفئ حياتها دون أن تندم على شيء.
أما هي، فكان عليها أن تعتلي عرش مصر وتعبر البحر العظيم لتحكم روما وتصبح سيدة الشرق، وتتوّج رأسها بتاج مصر والشرق، ويركع كل غاز عند قدميها، وتموت والتاج على رأسها وسيدة الحياة تحرسها، لتحقق نبوءة عرافة معبد إيزيس، التي تنبأت لها بها وهي في العاشرة من عمرها.
طموحات كبيرة عظيمة.. لكن أتستحق أن يموت في سبيلها كل من مات من كل تلك الجيوش؟
تبا للعرافات ونبوءاتهن!
وماذا أخذ يوليوس معه من كل أمجاده؟.. ذهول الموت ومرارة الفجيعة ودمه يراق على يد أصدق أصدقائه؟
والآن ها هم قتلته على أعتاب الإسكندرية.. جاءوا ليكملوا مهمتهم بقتلها وقتل ولدهما.
آه.. إنه المجد.. المجد الذي يناله السفاحون عندما يعتلون تلال جماجم الأبرياء!
وفي سخرية مريرة راحت تسأل نفسها:
-     ضيّعتِ عمرك في أوهام.. صراعات ومكائد.. خسرتِ حتّى إخوتك وأخواتك.. فبم أفادك كل ذلك بحق الآلهة.. بم أفادك ذلك؟
-   [مبتسما بنشوة] هنا تكمن العبقرية.. عكفت على دراسة الحالات المسجلة لأشخاص يملكون القدرة على التخاطر العقلي (التليباثي)، لأبحث عن الاختلاف الكامن في تركيب أمخاخهم.. ومن ثم اخترعت جهازا فذا يستطيع التقاط المعادلات الكونية وترجمتها.. جهازا يحاكي قدرة المخ البشري على التخاطر، لكنه لا يقتصر على التقاط أفكار البشر الأحياء فحسب، بل يتجاوزهم ليلتقط كل فكرة وأي فكرة دارت في عقل أيّ إنسان منذ فجر البشرية.. أنت تعرف أن الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من عدم.. هل تظن أنّ هناك طاقة أقوى من الفكرة؟.. تخيل إذن لو أنك تملك جهازا يستطيع أن يخبرك فيم كان نابليون يفكر وبم كانت كليوباترا تحلم.
كنت عاجزا عن تخيل أي شيء وأنا أفتح باب الشقة، عدا فراشي الوثير، لا سيما مع كل ما يعتورني من مشاعر الألم والإحباط والإجهاد.
-       مرحبا يا وحيد.. كيف كان يومك؟
-       رائعا!!.. هذا باختصار.
ترددت لحظة، وابتسمت بسمة مبتسرة وقالت:
-       هل نتحدث قليلا؟
-       أه.. متعب جدا وأريد أن أموت.. أقصد أنام.
-       [بدلال] لن يطول ذلك.. دقائق قليلة.. هل هي كثيرة من أجلي؟
-       حسنا.. أستمع.
-       لماذا هذا الجفاء يا حبيبي؟.. أما زلت واجدا مني؟
-       سحر.. من فضلك.. لا أقوى حتّى على الكلام.
-       يبدو أنك تحتاج إلى بعض الاسترخاء.
ومالت نحوي وسألتني في لهجة إغراء:
-       لماذا لا تجرب ذلك؟
انتفضت في هلع، وأنا أردد بعصبية:
-       أجرب؟
كنت أعرف تاريخ محمود دانش السابق، وأنه دخل مصحة الأمراض العقلية لمدة عام، وأن هذا ما أنقذه من المحاكمة بسبب تجاربه غير الإنسانية على البشر، وهي نفس الأسباب التي رفضوا من أجلها منحه أيّ براءة اختراع.
-     أجرّب؟.. لا.. أشكرك.. إنني محتاج بشدة إلى منزلي الآن.
بخيبة أمل ردد:
-     كما تريد.. لا أريد أن أجبرك، ولكن يبدو أنّك مثلهم تظنني مجنونا.
أمليت عليه العنوان فأوصلني إليه، وقبل أن أغادر السيارة لم ينسَ أن يقول برجاء:
-      لو شئت أن تختبر جهازي يوما فأنت تعرف عنواني.
-     بالتأكيد.. بالتأكيد.
-      ماذا تعني بقولك هذا؟
-       لا شيء.. مجرد تعليق سخيف.
-       إذن ماذا قلت؟
-       لا نقود.. هكذا باختصار.
-       وحيد.. الفستان والحفل و.....
-       لقد.. رفتوني.. يا.. سحر.. هل يعني لك هذا شيئا؟
-       رفتوك؟
-       نعم.
-       انهزمنا؟
-       نعم.
كانت تبدو مصعوقة، وعيناها اللؤلؤيتان تشخصان في صدمة كبيرة.
-       كليوباترا.. لا بد أن نهرب قبل أن....
أوقفت كلماتي، حينما رفعت رأسها بإباء وشمم، حتّى أحسست أني أنظر إلى أبي الهول نفسه، وهي تقول:
-       أنا لست مجرد كليوباترا.. أنا مصر كلها.. ومصر لا تهرب أبدا.
نظرت لها بصمت، ثم أسرعت أهتف:
-       حسنا.. سأخفّ إلى المعركة بآخر فرقي، لعلي أقهر هذه الهزيمة.
توقعت أن تسألني كيف أو لماذا، أو أن تواسيني أو أيّ شيء من هذا القبيل، ولكني فوجئت بها تقول في عصبية:
-     حسنا.. من حقي إذن أن أحصل على المال بطريقتي.
-     [بتوجس] وماذا يعني هذا؟
-    لا تتغابَ.. أنت تذكر حتما عرض صديقك فتحي.
-     لقد قطعت عَلاقتي به بعد أن بدأ يثير غيرتي بتصرفاته تجاهك.
-     ولكنني لم أفعل المثل!
-     [بذهول] ماذا؟
-     كما سمعت.. وسأعمل معه أيضا.
-     [وكأني في كابوس ثقيل] تريدين العمل في ملهى ليلي؟
-    وماذا في ذلك؟
-     وشرفك.. وشرفي؟.. وغيرتي عليك؟
-    [ضاحكة بسخرية] أما زلت تذكر هذه المصطلحات البالية؟.. أفق يا رجل.. إننا في القرن الثاني والعشرين.. كل شيء مباح الآن.
-    [ببطء] حددي ما تقصدين بالضبط.
-     لقد حددته بالفعل ومنذ أمد طويل، لكن يلوح أنّك بطيء الفهم.. لقد اختنقتُ.. كل شيء معك فقد لونه ومذاقه ومعناه.. حِضنك مجرد قفص من قضبان صدئة تسحق جمالي وتحرمني بهجة الحياة.. إنّك تقتلني.. تقتلني ببطء.
أغمضت عيني في ألم والدوار يكتنفني في عنف.. وأكملت سحر بنفس السدارة:
-     أحرى لك أن توافق على عملي معه.. هذا هو المتنفس الوحيد.. إنها وسيلة سهلة وممتعة للحياة.. الأفضل لك أن ترضى، وإلا فلتبحث لك عن مُتحف مُزرٍ يقبل باستضافة أفكارك المثالية الخرقاء.. من حقي أن أعيش كما يعيش الكل.. ليس من حقك أن تقتلني معك ثمنا لمبادئك التي لم يعد لها صدى.. أرجو أن تكون فهمت.
وتركتني في مكاني كالمشلول وقصدت غرفتها.
كانت الدنيا تدور، وتدور، وتدور، وأنا جالس في المقعد الجلدي والخوذة على رأسي، ودانش يهتف بحماس:
-       صدقني.. ستظل مدينا لي بهذه اللحظة الرائعة طيلة عمرك.
-       المهم أن تعجل بالله عليك.. أيّ شيء، المهم أن أهرب من هذا العالم الكئيب.
-       ما زلت لم أفهم لماذا غيرت رأيك هكذا سريعا.
-       ولا أنا.. لكن هل يكفيك أن أخبرك أنني طلقتها؟
-       هه؟
-       ألم أقل لك.. دعك من هذا.. الآن أين الأفيون؟
-       أين الأفعى؟
أشارت الوصيفة إلى السلة المغلقة، فهزت كليوباترا رأسها ببطء في جلال حزين.
كانت قد ارتدت أجمل أزيائها الملكية وتعطرت بعطرها السحري وجمعت كل ماسها وحليها، وحملت تاجها الفرعوني إلى المقصورة التي تعلو قبرها، الذي أعدّته بجانب معبد إيزيس.
وها هي ذي تُخرج  الكوبرا المقدسة التي أرسلها إليها أبوها الروحي الكاهن الأكبر للمعبد.
كل شيء كئيب جنائزي ينذر بالشؤم والرهبة.
قبضت على رأس الأفعى ورفعتها أمام ناظريها تتأملها بشرود، قبل أن تبتسم بسخرية مريرة وتهمهم:
-       فلتحل لعنة سيدة الحياة على فتحي.. الحقير.. ماذا يظنني؟.. إنني لأفضل الموت على أن أكون محظية له.. يريد أن يضعني أنا في عربة تُجرّ خلف عربته وهو يطوف مصر مظفرا، ليعرضني على الرعاع كالأَمَة؟!!.. ما أشرف الموت إن كان السبيل الوحيد للهروب من هذا المصير الحقير!
وتنهدت تنهيدة طويلة، وهي تسبح في خواطرها:
ليلة أخيرة حزينة، ثم ستشرق الشمس.
لن أراها مجددا بالتأكيد، لكنها ستشرق.
ربما غدا.. ربما بعد غد.. ربما بعد ألف غد.. لكنها حتما ستشرق.
حينها لن أبدو أنا ويوليوس وأنطونيو وأكتافيوس أكثر من رذاذ نثرته موجة عابثة على صفحة النيل، قبل أن يتلاشى وتتلاشى في مياهه السرمدية من جديد.
نفضت أفكارها، ورفعت أرنبة أنفها في شَمَم وقالت:
-      عشنا من أجل ابنة النيل، ونموت من أجلها.. إنها أسعد لحظاتي حينما يعود جسمي إلى حضن أرض الآلهة.. فليبارك الله هذا الشعب وهذه الأرض.
وضمت الكوبرا إلى صدرها وهي تغمض عينيها في صمت.
وانتهى كلّ شيء في سلاسة.. ولم يبقَ سوى جسد ملائكي لم تدنّسه أيدي الأعداء.
وفي شرود رحت أتأمل الجسد الجميل ربما لآخر مرّة، وهي تتمتم في خفوت:
-       لقد جمعت أغراضي.. كنت على وشك الرحيل.
قلت بلهجة حالمة:
-       الرحيل؟.. غردي مع أحلام طيور الرحيل.
نظرت نحوي بدهشة وكررت:
-       ماذا؟
قلت وأنا ألوّح بكفّي:
-  إنني المجنون عشقا.. افتحي لي أبواب صحاريك العطشى.. إن مجدك المنساب على تلال الغروب يناديني.
واتجهتُ نحوها، والتقطتُ أصابعها في راحتي، وأنا أدور مجبرا إياها على الدوران معي مترنما:
-  ارحلي يا كليوباترا.. ابحثي عن معانيك الدافئة على أجنحة الرحيل.. إنني حلمك المطلسم على معادلات الكون.. إنني نغم أنفاسك العطرية.
-       لا شكّ أنك جننت.
وجذبت أصابعها بخوف، وأسرعت تحمل حقائبها.
-       إنني المجنون بك عشقا.. افتحي لي أبواب روابيك الخضراء.. إن لحنك المنساب على قلبي يناديني.
أسرعت تتحرك مبتعدة كأنما تطاردها شياطين الجحيم مرددة:
-       لا شك أنّك قد جننت.. لا شك.
هتفت وأنا ألوّح في قوة:
-  إنني المجنون عشقا.. افتحي لي مصراعَيْ قلبك الدريّ الكبير.. القفيني في معانيك الثرّة الوثيرة.. كليوباترا.. إنني أحلامك المطلسمة.. ها ها ها.
غادرت المكان بسرعة دون أن تعقّب، بينما ما زلت أردّد في ترنيمة:
-  كليوباترا.. غرّدي من آلاف الحناجر.. ابسطي جناحيك الرقيقين على قلبي.. أنا أطياف النصر الآتي السحيق.. امتزجي في تلافيفي وغيبي.. ها ها ها.. ها ها ها.. ها ها ها.
***
محمد حمدي غانم
1996





[1] الأبيات لابن الرومي.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

صفحة الشاعر