دستور يا أسيادنا
حدثت ثورة 1919 في مصر منذ قرن من الزمان تقريبا، وكان من نتائجها أن أعلن الإنجليز استقلال مصر عام 1922 وأنشأوا لها دستورا وبرلمانا.. وكل هذا كان صوريا ولم يغير شيئا، فقد استمر الاحتلال الإنجليزي لمصر، وظلت السفارة البريطانية هي الحاكم الفعلي لها، حتى قامت ثورة 1952 وتم إجلاء الإنجليز عام 1954.. وقد ظلت مصر طوال ثلاثين عاما منذ إنشاء المجالس النيابية تدور في حلقة مفرغة من الصراعات الحزبية والانتخابات النزيهة والمزورة، والحكومات المنتخبة التي يعزلها الملك إما لعدم رضائه عنها، وإما بضغط الإنجليز، الذي وصل ذروته حينما حاصرت الدبابات الإنجليزية قصر الملك لإرغامه على إقالة الحكومة في 4 فبراير عام 1942!
وكان من نتيجة ذلك أن تلك الفترة شهدت مظاهرات سياسية مستمرة، كما شهدت العديد من الاغتيالات للساسة والوزراء، وهو تاريخ يجب ألا ينساه من يدعون الآن إلى الديمقراطية، وإلى الجمهورية البرلمانية تحديدا، وعليهم أن يتذكروا أيضا أن أحد أسباب قيام ثورة يوليو هو فساد الأحزاب والحياة السياسية، واقتناع ضباط الجيش باستحالة تغيير أي شيء في مصر بدون التدخل العسكري ليفرضوا التغيير بأنفسهم، وكان نتيجة هذا أنهم ألغوا الأحزاب تماما ولا أستطيع أن ألومهم على هذا!
لكل هذا أرجو ألا نعول كثيرا على فكرة تعديل الدستور وتغيير المجالس النيابية وكفى.. فهذه حيل تستخدم لتفريغ الغضب واحتواء الثورات، وكما أقول دائما: ثقافة الشعوب والمصالح المسيطرة هي ما يحكم فعليا وليس الكلام المكتوب على ورق الدساتير.
وعلينا أن نعي جيدا أن الديمقراطية في حقيقتها فكرة معوّقة وليست فكرة إصلاحية.. بمعنى أنها تستطيع أن تحد من سلطات الحاكم الدكتاتوري عن طريق رفض المجالس النيابية لقراراته.. لكن الديمقراطية ستعوق أيضا أي قرار إصلاحي بسبب عدم وجود أغلبية نيابية تستطيع تمرير قرارات الحاكم، وبسبب اختلاف التيارات السياسية في توجهاتها، واختلاف شرائح المجتمع في مصالحها.. ولنأخذ أمثلة:
- هل يتخيل أحدكم أن الحاكم القادم يستطيع إغلاق مصانع السجائر والخمور ومنع استيرادها؟.. هل يستطيع حتى أن يفرض ضرائب مرتفعة عليها لتمويل وزارة الصحة لكي تعالج أضرارهما، بدلا من تحميل هذه الفاتورة على غير المدخنين وغير المدمنين؟
- هل يمكن منع الفواحش التي ترتكب في القرى السياحية والملاهي الليلة وصالات القمار؟!
- هل يمكن فرض قانون يمنع البناء على الأرض الزراعية نهائيا؟.. د. كمال الجنزوري فرضه بأمر الحاكم العسكري في التسعينيات، وقال إنه فعل ذلك لأنه أدرك أنه لن يستطيع تمريره في مجلس الشعب، رغم سيطرة أغلبية الحزب الحاكم عليه، لأن معظم النواب عمال وفلاحون أو نواب عن قرى، والناس تريد البناء على الأرض الزراعية!
- هل يمكن إلغاء مجانية التعليم، مع دعم الدولة للمتفوقين فقط، لرفع كفاءة التعليم وتحقيق النهضة العلمية؟
ملحوظة: أدى قرار الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن بتحرير العبيد إلى قيام حرب أهلية في أمريكا، بسبب رفض ولايات الجنوب لهذا القرار لاعتمادها اقتصاديا على العبيد.. هذا مثال صارخ على ما يمكن أن يحدث عندما تتعارض الديمقراطية مع مصالح قطاع من الشعب!!
وقيسوا على هذا أي فكرة إصلاحية تخطر ببالكم، والتي ستواجهها معارضة من الشيوعيين أو الليبراليين أو القوميين أو من المنتفعين من التجار أو باقي الشعب، والأخطر من ذلك مقاومة الناس العاديين لكل ما لا يفهمونه من الأفكار الجديدة، بسبب غسيل المخ الإعلامي الذي تم إجراؤه لهم طوال العقود السابقة، وبسبب تدني ثقافتهم وخوفهم على مكاسبهم الوهمية الحالية من المجهول.. وكل هذا سيعيدنا إلى مرحلة التخبط السياسية التي سبقت ثورة يوليو، فكل قرار إصلاحي سيواجه معارضة كبيرة في مجلس الشعب، وستسقط حكومات ائتلافية بسبب انسحاب وزراء غير راضين عن بعض القرارات، وسيثور الشعب في مظاهرات عارمة ضد أي قرار تتوافق عليه الأحزاب يمس واقعهم، وسنظل ندور في حلقة مفرغة إلى تأتي الثورة التالية عسكرية كانت أم شعبية!!
باختصار: الديمقراطية رفاهية تصلح للمجتمعات المستقرة أو شبه المستقرة، لكن المجتمعات الواقفة على حافة الهاوية، التي تحتاج إلى إصلاحات جذرية عاجلة، لا تملك ترف الجدل العقيم والصراعات الحزبية لمجرد الحصول على لقب الديمقراطية على حساب وجودها نفسه!
إنني أحذر مبكرا حتى لا يظل التاريخ يعيد نفسه، فمن الواضح أن مصر تمر بثورة كل جيلين أو ثلاثة، واحدة عسكرية ثم واحدة شعبية ثم عسكرية ثم شعبية وهكذا... وهذا واضح في ثورة عرابي العسكرية 1881، ثم ثورة 1919 الشعبية، ثم ثورة 1952 العسكرية ثم ثورة 2011 الشعبية.
والمؤسف أننا بين كل هذه الثورات لم نحقق أي تقدم ملحوظ، لأنا نتقافز بين نفس النقاط ذهابا وعودة، دون أن نهتم ولو مرة واحدة بإحداث طفرة حقيقية في التعليم والبحث العلمي تضعنا على خريطة التنافس الصناعي والتجاري في العالم، وهذا ليس لأسباب داخلية فقط، فتدخل الغرب واضح تماما للسيطرة على هذه الثورات وإجهاضها.
لكل هذا أقول: نحن لا نحتاج إلى كلام على ورق، وهتافات في الحملات الانتخابية، وصراعات تحت قبة البرلمان، لنفرغ الكبت من صدورنا ونرضى عن أنفسنا باعتبارنا دولة ديمقراطية تسب وزراءها وحكامها على صفحات الجرائد وشاشات التلفاز، دون أن يتغير أي شيء في واقع المجتمع وتفكير الناس وتطور التعليم والبحث العلمي والصناعة والإنتاج.
وأرجو مخلصا ألا نخطئ تشخيص المرض للمرة الألف، فمصر الآن تحتضر، وأي علاج خاطئ سيكون قاتلا، فقد تجاوزت مشاكلنا مرحلة المسكنات، ونحن على أعتاب الفوضى والمجاعة وتفتت الدولة، ما لم نبدأ العمل الحقيقي لتعمير صحراء مصر بمشاريع عملاقة جريئة، بدون شعارات حزبية وهلاوس ديمقراطية.
محمد حمدي غانم
19/2/2011
--------------
اقرأ ايضا:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.